“لقد تبيّن أنه لا توجد أي آثار تزويرٍ في وصية الدوق فيسفندر أغريست، وعليه فقد تأكد أنها أصلية وصحيحة.”
هذه المرة لم أتفحص ملامح ريكايل. فقد بات من الصعب عليّ أن أرى وجهه وهو يكتسي بخيبة الأمل عن قرب.
الدوق أغريست أورث قصره وثروته إلى كلاريتا سوبيل. وكانت تلك اللحظة التي صار فيها الأمر حقيقةً لا جدال فيها.
حقيقةٌ لم يكن بوسعه إلا أن تبدو قاسيةً ومريرة على مسامع ابنه ريكايل.
عندها فتح السيد بيتمن فمه من جديد.
“وهناك أمرٌ آخر أيضاً.”
لم يطل هذه المرة وتابع مباشرة. يبدو أنه أدرك أن الجو لم يعد طبيعياً.
“الرسالة التي بحوزة ريكايل أغريست، وريث الدوق، خلت هي الأخرى من أي أثر للتزوير، وتأكدنا أنها أصليةٌ بلا شك.”
“أتقول أن الرسالة التي يحملها السيد أغريست كتبها الدوق بنفسه؟”
“نعم، يا آنسة سوبيل.”
يوم إعلان الوصية، جاء ريكايل برسالة قال أنها الدليل على أن الدوق وعده بتوريثه القصر.
لكن، يا دوق……كيف يمكن أن تعد الطرفين معاً؟ فالقصر ليس كعكة تُقسم نصفين لتوزَّع!
“في هذه الأوراق مدوّنٌ بالتفصيل مسار التحقق والإجراءات المتبعة.”
أخرج السيد بيتمن حزمة مستندات، قدّمها لي ولريكايل.
“يمكنكَ الاطّلاع عليها بروية، ثم توقّع بعد أن تتأكد من كل شيء……”
لكن في تلك اللحظة، تكلّم ريكايل.
“لا ضرورة للتوقيع حالاً، أليس كذلك؟”
“صحيح. تستطيعون مراجعة المحتوى ثم توقيعها لاحقاً متى شئتم.”
“فلنترك الأمر إذاً إلى وقت آخر.”
جمع السيد بيتمن أغراضه وهو يرمق ريكايل بحذر.
“سأنصرف الآن. وأتمنى أن تتوصلا إلى اتفاقٍ يرضيكما.”
نهضت من مكاني أتبعه.
“لقد بذلتَ جهداً كبيراً.”
“أنا في خدمتكَ إن احتجتَ إلى شيء آخر.”
وما إن خرج، حتى صرف ريكايل جميع مساعديه وخدمه.
“….…”
فظل جو المكتب ثقيلاً وصامتاً.
يا ترى، بمَ كان يفكر؟
لم أستطع أن أتصور حجم ما يعيشه من فقدان.
لقد تظاهرنا معاً حتى اليوم بدقة وإتقان. لكن ربما حان الوقت لتنفجر المشاعر التي طالما أخفاها وأدار ظهره لها.
وزاد الأمر أن دافع والده وراء هذا القرار لابد أنه كان يثير فيه جنون الفضول.
وبالطبع، في نفسي كان الفضول نفسه يعصف.
لو أن كلاريتا سوبيل في الرواية الأصلية انسحبت ببساطة، لربما وجد ريكايل راحةً في قلبه. لكن إن انسحبتُ أنا……فسيموت ريكايل.
ولا يمكنني أن أتركه يواجه قدراً ينتهي ببؤس وموت.
حينها، وبعد صمتٍ طويل، تجرأت.
“كلاريتا.”
لكن فجأة، ناداني ريكايل باسمي. و ما إن سمعت اسمي على لسانه، حتى تجمّدت مكاني.
لم أعرف كيف أتصرف، فجلست متجمدةً بلا حيلة، وفجأة ارتخت ملامح ريكايل.
“حاولتُ أن أفعل ما تفعلينه.”
“……ماذا تقصد؟”
“دائماً ما تنادين باسمي عندما تُحرجين، يا آنسة سوبيل.”
قال ذلك ببساطة، ثم اقترب من الطاولة التي أجلس عليها.
“أنا الفقير الذي فقد كل شيء، ومع ذلك تبدين أنتِ أكثر كآبةً مني.”
“لستُ كئيبة.”
‘إنما قلقي الآن كان على مشاعركَ، وهذا كل شيء.’
لم أضف كلمةً أخرى، فمثل هذه اللحظات لا تحتمل العاطفة الزائدة.
لكن لحسن الحظ، بدا ريكايل أكثر ارتياحاً من حين كان السيد بيتمن موجوداً.
“وماذا تفكرين أن تفعلي الآن؟”
لقد تحققنا من أصالة الوصية كما أراد، لكن النتيجة كانت عكس توقعاته.
لقد تأكدنا أن الدوق أغريست ورّث القصر لي ولريكايل معاً، فكيف سنتصرف الآن في هذا الموقف المحرج؟
“لا داعي لتعقيد الأمور.”
تابع ريكايل بتنهيدة خفيفة.
“كما قال بيتمن، نحن مخطوبان في النهاية، وسنتزوج قريباً.”
فأضحكتني هذه المفاجأة ضحكةً خافتة.
“ماذا تقول؟”
“إذاً، لا يوجد أي تعقيد على الإطلاق.”
“تتكلم عن أشياء مخيفةٍ وكأنها عادية.”
هززت رأسي وأكملت بحزم،
“أنا لا أنوي الزواج من السيد أغريست.”
بالطبع، أحب ريكايل. وأعرف جيداً كل ما مر به من تعاسة، لذلك أتمنى له السعادة أكثر من أي شخص آخر.
لكن لم أرغب بحل المشاكل بهذه الطريقة، أن تتحول العلاقة المعقدة إلى خطوبة، وأن يفرض علينا الزواج بسبب قضية الميراث، بينما لا نشعر بذلك في قلوبنا.
فنحن لسنا صغاراً بعد.
“لم نتعهد رسمياً بالزواج بعد.”
وبينما كنت أواصل كلامي، بقي ريكايل صامتاً.
صمته أشعرني ببعض التوتر، لكن في مثل هذه اللحظات لا يجوز لي التراجع عن موقفي.
فريكايل ليس شخصاً سهلاً. و لو تهاونت قليلاً، قد أجد نفسي منحرفةً وراءه و أنا أحمل باقة الزهور بلا وعي!
“إذاً، ما يحدث الآن هو فقط أنني، بدافع الأسف، تنازلت لأوافق على رغبات السيد أغريست. أمام الناس، أظهرت موافقتي على رأيكَ وحافظت على وفائي فقط.”
“…….”
“لا يمكن أن يكون هذا سبباً للزواج.”
لكن ريكايل ظل صامتاً، ينظر إليّ بصمت يشبه حين شرح لنا السيد بيتمن نتائج التحليل.
حسناً، إذا لم تفد الكلمات، فلابد من طريقةٍ أخرى.
“الزواج يكون بين من يحب بعضهم البعض. على الأقل، أنا أؤمن بذلك. إنه عهدٌ جادٌ وجميل جداً على أن نُكمل حياتنا معاً.”
فتحدّث ريكايل أخيراً، وهو يفتح فمه،
“عهدٌ جاد وجميل……”
بالطبع، كنت أعلم أن غالبية الزيجات في هذا العالم مدبّرة، لكن كان عليّ أن أصرّ وأؤكد أنني على الأقل لن أخضع لذلك.
“أعرف أن هناك الكثير من الأزواج الذين يرتبطون بهذه الطريقة، لكن مجرد أن يفعل الجميع ذلك، لا يعني أن عليّ أن أفعل المثل.”
في تلك اللحظة أومأ ريكايل ببطء.
“يبدو أن الآنسة سوبيل تحتفظ بوهمٍ رومانسي عن الزواج.”
‘أي كلام غريب هذا!’
“ليس وهماً، بل—.”
“حسناً، لقد فهمت مقصدكِ تماماً.”
خشيتُ أن أعلق بكلمات إضافية فأنجرف معها بلا وعي، فسارعت إلى تغيير الموضوع.
“على أي حال، يبدو أن حادث الأمس أثار الكثير من الكلام.”
استند ريكايل بذقنه ونظر إليّ بعمق.
“إذا كان هناك خبرٌ عن زواجنا، فسيسكت الناس بسرعة.”
“……”
“يمكن إيقاف الشائعات بشائعاتٍ أكبر منها.”
حقاً إنه ماكر.
“قرأت في النشرة أن هناك شيطاناً في القصر، هل هذا صحيح؟”
“شيطان؟”
“نعم، لقد قرأتُ النشرة التي أحضرتها لي السيدة مايل هذا الصباح. قيل أن سقوط الثريا كان كله بفعل شيطان.”
لم أكن أتوقع جواباً محدداً. كما أن السيدة مايل وليلي أخفيا عني شيئاً ولم يتحدثا، فهو على الأرجح سيتصرف بالمثل.
لكن ريكايل كان دائماً يتجاوز كل توقعاتي.
“حسناً، قد يكون الأمر كذلك.”
“ماذا تقول؟”
قال “قد يكون كذلك”؟
ففزعت وسألت بسرعة.
“لم يُكشف بعد عن من يقف وراء ذلك، لذا قلت أنه قد يكون ممكناً فقط.”
“….…”
“لماذا تبدين مندهشةً هكذا؟”
هل يجوز أن تتحدث عن وجود شيء غير بشري في القصر بكل هذا الهدوء؟
“سيد أغريست، هل سبق لكَ أن اختبرت شيئاً مشابهاً في القصر؟”
ابتلعت ريقي بصعوبة. فإعادة ما حدث قبل قليل جعلت شعري يقف على رأسي.
“شيءٌ مشابه؟”
“في الحقيقة، قبل أن أصل إلى هنا……”
ربما لن يصدقني كما لم تصدقني السيدة مايل وليلي، وربما يظن أنني أضخّم مجرد حدث غريب.
لكن ريكايل، وكأنه قرأ ما في داخلي، سألني بلهوٍ وهدوء،
“أخبريني، ماذا حدث قبل قدومكِ؟”
“سمعت كأن شخصاً ما يتبعني في الممر.”
فبدا وجهه فجأةً أكثر جدّية مما توقعت.
“احكي لي بالتفصيل.”
“لم يكن هناك أحدٌ بالفعل، لكن شعرت وكأن شخصاً ما يتبعني……وعندما أسرعت في المشي، تسارعت الأصوات أيضاً.”
فكّ ريكايل يديه المستندتين على الطاولة، واستند بظهره إلى الكرسي بالعكس.
“يبدو أن هناك حقاً أشباحاً في هذا القصر.”
شعرت بشيءٍ غريب حين تجاهلت السيدة مايل وليلي كلامي واعتبرته هراءً، لكن أن يوافق ريكايل بسهولة على ما أقول، كان أمراً أكثر غرابة.
“هل تعتقد ذلك فعلاً؟”
“لأنه حدث معكِ يا آنسة سويل. وإلا، فليس هناك تفسيرٌ آخر.”
أهو أمرٌ بسيط إلى هذا الحد؟
“إذاً، يجب ألا تتجولي بمفردكِ بعد الآن.”
“….…”
“عندما نتزوج، سيكون بإمكاننا البقاء معاً دائماً. ما رأيكِ؟”
يا لهذا الرجل……
________________________
حسبته بيقول اخيرا وش سالفة القصر طلع يبي يتزوجها😭😭😭
يعني شفيها لو قالت خل نتزوج بس بعقد وهو بيوافق وهو مستانس 🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 30"