سألتُ بخفة متعمّدة، أراقب تعابير وجهه.
كان ريكايل شارد الذهن، و شفتيه منطبقتين بإحكام، لكن لم يبدُ عليه الارتباك.
“متعمدٌ، تقصدين؟”
“نعم، متعمد.”
هززت كتفي بلامبالاة وأضفتُ،
“ربما أراد أحدهم إفساد الحفل في القصر، أو التسبب في إصابة شخص ما. بمثل هذه الدوافع.”
قلت ذلك بنبرة هادئة وكأنه مجرد افتراض عابر.
“خصوصاً أن القصر فُتح للضيوف بعد زمنٍ طويل، وفوق ذلك حضرت السيدة أغريست……فلا بد أن الأنظار كلها كانت متجهةً نحوها.”
“…….”
“لكن أن يجرؤ أحدهم على مثل هذا..…”
لم يُكمل ريكايل عبارته. لكنني شعرت بما كان على وشك قوله: لا أحد يمكن أن يفعلها.
“في الحقيقة…..”
رفعت ساقي الممتدة ببطء وأعدتها إلى السرير، ثم تابعت،
“كنت أرقص حين لمحته.”
“من تقصدين بذلك الشخص؟”
“لا أعرف من هو، لكن ملامحه كانت بارزةً فلا يمكن نسيانها.”
كنت أعرف اسمه من خلال تكرار الحيوات: كويل.
لكن بما أن ريكايل يجهل ذلك، كان عليّ أن ألتف في حديثي.
“إنه الرجل الذي التقيته يوم جئت إلى هنا أول مرة. بدا وكأنكَ تعرفه جيداً.”
“إذا كان في ذلك اليوم الأول..…”
سكت قليلاً قبل أن ينطق ببطء،
“كويل جيفرت.”
نعم، الرجل الذي ربما كان أقرب إليكَ من مساعدكَ، والذي لا يغيب عن محيطي كلما حدث لي أمر.
أومأت برأسي، فعاد ريكايل للكلام،
“يبدو أن لديكِ ما تودين قوله بخصوصه.”
ربما كان كل حديثنا السابق مجرد تمهيد لهذه اللحظة.
“كلماته الخشنة وتصرفاته العنيفة…..لا تُمحى من الذاكرة.”
في حياتي السابقة، كان دائماً حاضراً كلما وقع لي مكروه.
لم يكن لديّ دليلٌ قاطع، لكنه تكرر بالقدر الذي يجعل الصدفة أشبه بالدليل.
ومع ذلك، لم أظن أن كويل دبّر الأمر وحده.
قتماسكت ورتبت ملامحي قبل أن أُكمل،
“ربما كان مجرد مصادفة.”
“…….”
“بالطبع أظن أنه كذلك، لكن…..بعد لحظات فقط من رؤيتي له عند الشرفة، سقطت الثريا.”
حاولت قدر الإمكان أن أبقى متماسكةً بلا انفعال ظاهر.
و ظل ريكايل صامتاً، فقطعت سكونه بجملةٍ أخرى،
“هل تراني أبالغ بطرحي هذا الاحتمال؟”
مرت لحظاتٌ الانتظار ثقيلة، أطول مما أحتمل. لكن ردّه جاء بلهجة رصينة، لا توحي بالانفعال،
“من منظوركِ، آنسة سوبيل، أظن أنه افتراضٌ معقول.”
“…….”
“غير أن ذلك الرجل…..أعرفه جيداً.”
كيف عليّ أن أفهم قول ريكايل أنه يعرف كويل جيفرت جيداً؟
“هل هو حقاً شخصٌ يمكن الوثوق به؟”
لم أحب يوماً الحكم على الناس من مظهرهم، وأدرك تماماً أن ذلك خطأ، لكن…..
ملامح كويل جيفرت لم تكن تبعث على الثقة مطلقاً. فهو يمتلك بشرةً داكنة كالحة، وعيناه مائلتان، وملامحه الخشنة الثقيلة.
وفوق ذلك، حاجباه الكثّان لا يفارقهما العبوس، كأنه في غضب دائم.
وربما كان بالفعل غاضباً على الدوام.
“إنه رجلٌ أثق به.”
كانت كلمات ريكايل الأولى على النقيض تماماً من انطباعي الأول.
“وهل يساعدكَ في شؤونك الرسمية؟”
هز ريكايل رأسه وهو يجيب،
“لا يمكنه أن يتولى منصباً في دوقية أغريست بسبب خطايا والديه، لكنه اختار أن يكون ظلي.”
“أي أنه يقوم بدور أشبه بدور الحارس الشخصي؟”
“صحيح.”
“…….”
“أنا أثق به. على الأقل لن يخون ثقتي أو يفعل ما يخالفها.”
“هكذا إذاً.”
“والداه كانا شريرَين، لكن كويل لا يملك قلباً يجرؤ على فعل مثل تلك الأمور.”
خفضت رأسي قليلاً. و لم أدرِ كيف أستوعب إصراره على الثقة بكويل.
“لقد أثرتُ شبهةً لا داعي لها…..أعتذر.”
“لم يمنحكِ انطباعاً حسناً منذ البداية، لذا من الطبيعي أن تفكري هكذا.”
ابتسم ريكايل ابتسامةً متساهلة، كمن يقول أنه يتفهم الأمر.
ثم أكمل بجملة لم أتوقعها،
“لكويل أطفالٌ صغار، في غاية الجمال.”
“آه..…”
“ومن وجوه الأطفال يمكنكِ أن تقرأي حياة الوالدين. فالابتسامة لا تكذب.”
“…….”
“وجوههم مشرقةٌ دائماً، نقيّةٌ وبريئة. لذا، إنه أبٌ صالح.”
قال ذلك وهو يتذكرهم، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ دافئة.
لكن تلك الابتسامة أثقلت قلبي أكثر.
‘إذاً…..هل كان الأمر مجرد مصادفة حقاً؟’
وجدت نفسي أرغب في تصديق أن الحادث كان مجرد خلل عارض. فلا ريكايل بدا من النوع الذي يدبّر مؤامرةً كهذه، ولا رجاله المقرّبون قد يقدمون عليها بمفردهم.
“يا سيد أغريست..…”
فوق ذلك، لم أكن وحدي في قاعة الحفل، بل كان ريكايل نفسه موجوداً.
ثم إن كويل يعيش وأسرته بفضل رعايته، فماذا يجني إن أضرّ به؟
بل إن كان مقيداً بعار والديه، فلن يجد فرصةً أخرى بسهولة لو فقد مكانه إلى جانبه.
“ثمة سؤالٌ آخر أود طرحه.”
“تفضلي.”
“لقد مر وقتٌ طويل، لكنني أجد نفسي أفكر..…”
وما إن نطقت حتى داهمني الندم.
“أي سؤال يحتاج إلى هذا التردد؟”
“هل سبق أن خُيّل إليكَ أنكَ رأيتني من قبل؟”
“ماذا؟”
عندما التقيت ريكايل أول مرة، كان عداؤه نحوي شديداً. مشهدٌ يتكرر في كل عودة، لكنه يظل عصياً على النسيان.
تلك النظرات الباردة المتعجرفة التي رمقني بها من خلف خصلات شعره السوداء.
“ألا تذكر يومنا الأول؟”
أضفت قولي، فبدا أنه تذكر عندها.
“قلتَ لي أنني وضيعة وبائسة.”
“هل فعلت؟”
“لا تذكر؟”
“لقد مر زمنٌ طويل.”
قال ذلك بوجه بارد كأنه لا شأن له.
‘زمن طويل؟ بالكاد مر وقتٌ يسير!’
“كنتَ تعاملني بعداء صارخ، لكن منذ أن دخل كويل جيفرت تغيّر أسلوبكَ كلياً.”
“أكان كذلك؟”
أجاب مرةً أخرى كأنه يسمع هذا الكلام لأول مرة.
لكنه لم يحاول حتى التظاهر بالتفكير، مما دلّني أنه يذكر كل شيء جيداً.
بهذا، فحتى لو سألته عمّا قاله كويل يومها، فلن أجني شيئاً. و قررت إذاً أن أسايره في كذبه الواضح.
“نعم، كان الأمر هكذا.”
ما دام لا ينوي الإجابة، فلا جدوى من إضاعة الوقت.
“على كل حال، رأيتُ مساعدكَ يبحث عنكَ على عجل، يبدو أنك مشغول بأمور العمل…..وخاصة بمتابعة حادث الثريا.”
ثم تطرقتُ عرضاً لذكره، ربما أسمع كيف سيعالج تلك الفوضى.
“ربما.”
لكنه رد بكلمة مختصره، ثم نهض من مكانه.
“لقد أطلت المكوث عند من تحتاج للراحة.”
“لا، أنا.…”
“استلقي.”
لم يمنحني حتى فرصةً للاعتراض، بل ضغط بلطف على كتفي حتى أتكئ على الفراش.
“أنا بخـ-”
وقبل أن أتم كلمتي، سحب الغطاء حتى وصل إلى وجهي تقريباً.
“ارتاحي جيداً.”
كانت هذه آخر كلماته. ثم استدار بهدوء وخرج من الغرفة.
طَق-
“ما هذا؟”
حين أغلق الباب تماماً، أدركت غرابة الموقف. فقد اختفى فجأة، كما لو داهمته مسألةٌ عاجلة.
فنهضت ببطء من جديد.
“ما به؟”
صحيحٌ أن حديثنا قبل قليل لم يكن مريحاً لأيٍّ منا،
‘هل أزعجه أنني ذكرت أمر الحادث وضرورة متابعته؟’
لكن، ومهما تحدثت مع ريكايل، تبقى الشكوك بلا جواب.
ومع ذلك…..لم يكن اللقاء عديم الجدوى تماماً.
أدركتُ جيداً مدى ثقة ريكايل بكويل، وأنه من المستبعد أن يكون قد دبّر الأمر بمفرده. ثم إن سقوط الثريا قد يكون في النهاية مجرد حادث عابر لا أكثر.
والحق أن رغبتي في تصديق ذلك كانت قوية.
لكن ما حيّرني حقاً هو تيرون…..فهو يعرف أنني خطيبة ريكايل، فلماذا يلحّ عليّ بهذا الشكل؟
“إنه شخصٌ غريب الأطوار فعلاً.”
آه، كفى…..لا أريد التفكير أكثر.
المحادثات المتلاحقة لم تزدني إلا ارتباكاً واضطراباً.
وما أحتاجه الآن هو الراحة لا غير.
تمدّدت محاوِلةً إغماض عيني، لكن فجأة تسللت ضوضاءٌ من خلف النافذة.
رفعت رأسي قليلاً، فإذا بي أرى من لم يغادروا بعد قلعة أغريست يصعدون ببطء إلى عرباتهم.
“لا بد أن الحفل انتهى إلى فوضى تامة.”
لحسن الحظ لم يُصب أحدٌ بأذى.
أصواتهم لم تصلني لبُعد المسافة، لكن المشهد كان كافياً لأتخيّل الأجواء.
وخطرت ببالي فكرة أن حادث اليوم قد يجرّ على أسرة أغريست ألسنة الناس ويضعهم في موضع الشبهة.
الغريب في الأمر…..أنني لست حتى من هذه العائلة، فلماذا أشعر بكل هذا الانقباض في صدري؟
_______________________
عشانس زوجة ولدهم🤏🏻
المهم تضحكني كل ماشكت في ريكايل ظارت شكوكها بسرعه ولا فيه وقت لسوء الفهم😂
ومدري وش قصدها يوم سألته عن اول لقاء
الظاهر شاكه ان راجع بالزمن بعد؟
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 26"