لم أجب بشيء، بل اكتفيت بالتحديق في تيرون بثبات.
فما كان منه إلا أن مال بحاجبيه في سخرية ماكرة.
“هل قال لكِ الطبيب ذلك؟ أن ريكايل ضحّى بجسده كله لينقذكِ من الموت؟”
كنت أرى قصده واضحًا وضوح الشمس، لذلك لم أسمح لنفسي بأن أنجرّ وراءه.
فما كان منه إلا أن اقترب خطوةً وخفَض صوته.
“أو ربما تلك الخادمة التي لم تكفّ عن البكاء خوفًا من أن تفقدكِ؟”
“أنا ما زلت مريضة، فهل لكَ أن تدخل في صلب الموضوع بلا لف ولا دوران؟”
قلت ذلك ببرود، فانعكس في جبينه المشدود أثر انزعاج عابر.
“ريتا، لهذا السبب يعجبني طبعكِ.”
ثم جلس باسترخاء على أريكة صغيرة بجانب السرير، وكأنه ينوي البقاء طويلًا.
‘ألم أقل له أن يختصر ويغادر؟ لماذا إذًا يتثاقل؟’
تجمدت ملامحي بلا وعي، وهو يواصل حديثه.
“حسنًا…..ليس وكأن التوضيح سيجعل وقع الأمر أخف.”
“أرجوكَ، لا تدُر حول نفسكَ—”
“ريتا، ريكايل كان يعرف منذ البداية.”
“يعرف ماذا؟”
“أن الثريا ستسقط.”
‘إذاً لهذا جاء…..’
“هل هو من قال لكَ هذا؟”
سألته ببرود، فأمال رأسه متعجبًا.
“لا.”
“إذاً على أي أساس تزعم ذلك؟”
“ألم أقل لكِ من قبل؟ لا أحد يعرفه مثلي.”
عند هذه النقطة شعرت نحوه بقليلٍ من الشفقة.
“هل أنت دومًا واثقٌ هكذا من كل ما تتصوره؟”
كنت أتهكم، لكن ملامحه علتها نبرة فوز.
“بالطبع.”
‘آه، إذاً لا جدوى من التلميح مع أمير مهووس بذاته كهذا.’
“هل تعني أن السيد أغريست يمتلك قدرةً على التنبؤ مثلًا؟”
“لا يا ريتا، ليس هذا قصدي.”
أدار رأسه نافيًا، ثم واصل،
“لقد رتّب الأمر عمدًا، ليمثل أمام الناس دور البطل الذي أنقذكِ بشجاعة.”
ثم ضيّق إحدى عينيه وهو يكمل،
“بهذا يكسب ثقتكِ المطلقة، ويكسب هو في الوقت نفسه ثقة كل من شهد ذلك المشهد، فيظهر للجميع كالشاب النبيل الشجاع.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ واسعة وهو يحدّق بي.
“ريتا، أما زلتِ غافلة؟ إنه لا يلعب إلا ليظفر بما هو أعظم.”
“أعظم؟ ماذا تعني؟”
“سلامتكِ لا تعنيه أصلًا. فكّري جيدًا فيما قلت.”
فشعرت بحديثه يبعث في نفسي ضيقًا وارتباكًا.
ما الذي يسعى خلفه حتى يُلقي بهذه الكلمات في وجهي؟
‘حقًا…..الأفضل أن يخرج الآن ويلحق ببطلة قصته بدلًا من أن يزعجني.’
ومع ذلك، لم أستطع أن أطرح كلماته جانبًا. فحتى أنا، قبل لحظة من دخوله، ساورتني الشكوك: ربما ريكايل قد فعل ذلك عمدًا.
إصراره على العودة لطلب الرقص مجددًا، واصطحابي إلى قلب القاعة أمام الجميع…..ربما لم يكن سوى سيناريو محبوكٍ بإتقان.
‘ريكايل…..هل حقًا كنتَ وراء ذلك؟’
في النهاية أعلم جيدًا أنه يقف في الضفة المقابلة لي. وكما أريده أنا خارج أسوار القلعة، فلا بد أنه أيضًا يتمنى أن يُبعدني عنها بأي ثمن.
‘الكثيرون رأوا ريكايل وهو يرتمي ليحميني من الموت، وبهذا محا تمامًا ما قد يكون تبقّى في قلوبهم من شكوكٍ نحوه.’
إن كان هذا كله من صنع يديه، فلا شك أنه رجلٌ شديد الدهاء.
“ريتا، تبدو ملامحكِ شاحبة، لا بد أنكِ ارتعبتِ كثيرًا.”
“…….”
“حتى أنا لم أتخيل أنه قد يقدم على مثل هذا.”
هزّ تيرون رأسه نافيًا، ثم نهض من مقعده.
“لكن ما جئت لأقوله حقًا يبدأ الآن.”
تابعتُه بعينين خاليتين من أي رد فعل وهو يقف.
لكنه لم يتحاشَ نظراتي، بل اقترب أكثر بخطوةٍ ثابتة.
“البقاء في هذه القلعة خطرٌ كبيرٌ عليكِ.”
“وماذا إذاً؟”
“دعينا نترك وراءنا هذا المكان الموحش المليء بالأسرار.”
“…….”
“سأمنحكِ حياةً في مكان أجمل وأروع بكثير.”
فتوقفت أذني عند كلمة بعينها.
“قلتَ أنكَ تعرف هذا القصر جيدًا، أليس كذلك؟”
اعتدلت جالسةً فجأة وسألت بلهفة، فبدا الارتباك على وجهه وهو يحدّق بي.
“لا أحد يعرفه مثلي.”
“و ذكرتَ سابقًا أنه قصرٌ حي.”
وهز رأسه موافقًا، قبل أن يرد بصوت مشوب بالحيرة،
“لكن…..لمَ تسألين؟”
“أريد أن أعرف كل شيء عن هذا القصر الموحش المليئ بالقصص.”
فرمش تيرون بعينيه الكبيرتين وكأن كلامي جاء في غير موضعه.
“ريتا…..أعلم أنني أحبكِ، لكن حديثكِ الآن بعيدٌ تمامًا عن موضوعنا.”
“إذاً أنتَ لا تعرف في الحقيقة.”
هززت رأسي بإحباط، فتبدّل تعبير وجهه.
“لا أعرف؟”
“كنتَ تحاول فقط إخافتي بتلك الطريقة، بينما أنت نفسكَ لا تملك جوابًا.”
“ومن قال أنني لا أعرف؟ أنا الأدرى بكل ما يتعلق بهذه القلعة.”
“إذاً لماذا تلتزم الصمت؟ هل تخشى أن يؤذيكَ القصر الحيّ إن أفصحتَ عن أسراره؟”
قلتُ ذلك بلهجة ساخرة متعمدة، ففتح فمه محتجًا،
“الأمر ليس كذلك.”
“حسنًا، لا بأس. بما أنكَ لا تعرف وتخاف أيضًا، فلن أرهقك بالمزيد من الأسئلة.”
“ريتا.…”
ناداني هذه المرة بنبرة أكثر هدوءًا. و توقعت أن يبوح بشيء بالغ الأهمية، فانتظرت بصمت.
“تلك الأسرار لا يكشفها إلا أبناء أغريست.”
“…….”
“وكل ما أستطيع قوله…..أن ذلك السر ليس شيئًا سارًا على الإطلاق.”
‘إذن في النهاية هو لا يعرف حقًا.’
“لكن ألم تلمّح من قبل إلى أنكَ تعرف حكاياتٍ غامضة واستثنائية عنه؟”
“أردتُ فقط أن أتجاذب معكِ أطراف الحديث ونحن نتجول في أرجاء القصر.”
لم أتمالك نفسي من الضحك في داخلي، لكن تيرون فسر حتى ذلك بطريقته الخاصة.
“الآن أدركتِ كم أهتم بكِ حقًا، أليس كذلك؟”
“ماذا…..؟”
“لهذا السبب عليكِ أن تأتي معي. لا جدوى من التشبث بقصرٍ منغلق مثل هذه.”
‘ألا تفهم؟ اذهب وابحث عن البطلة بدلًا من التسكع هنا!’
لم أحتج إلى تردد، ولا حتى إلى كلمات مجاملة مثل: أشكرك على العرض لكن…..لا.
“أرفض عرضكَ.”
قلتُ ذلك بحسم، فانكمش فمه بضيق.
“لا توجد امرأةٌ على وجه الأرض تجرؤ على رفضي هكذا.”
لا يمكن أن يكون جادًا تمامًا.
فضحكت بخفة وأجبته،
“ذلك لأنني مخطوبة بالفعل للسيد أغريست.”
صحيحٌ أننا لم نرتبط عن حب حقيقي، لكن على الأقل كان ذلك عهدًا بيننا.
مهما حاول اغتيالي أو أخفى نواياه، يبقى الآن خطيبي هو ريكايل أغريست.
فرفع تايرون كتفيه وتراجع خطوةً إلى الوراء.
“لكن يا ريتا، الاحتفاظ بتلك الخطوبة لن يكون بالأمر السهل.”
“هل هذا نوعٌ من التشاؤم؟”
“السيدة أغريست ليست امرأةً يسهل التعامل معها.”
آه…..كدت أنسى أمر تلك السيدة الحساسة.
“شكرًا على قلقكَ، لكنني لست شخصًا يسهل استضعافه أنا أيضًا.”
عند ردي، تلألأت عيناه بنظرة غريبة؛ لا أعرف ما الذي تغيّر في داخله، لكن شيئًا واحدًا واضح: لم يكن تغييرًا إيجابيًا بالنسبة لي.
ثم سعل بخفة قبل أن يتابع،
“على أي حال، فكري أكثر. أظن أن الدواء جعلكِ مشوشةً قليلًا.”
“أبدًا، أنا بكامل وعيي.”
“سأنزل إلى الطابق الأول لأتأكد من مغادرة من تبقّى، وأنهي هذه الحفلة الفوضوية.”
كان وجهه لا يزال مفعمًا بالثقة، لكن كتفيه بديا مثقلين.
‘هل أصابه كلامي في الصميم؟’
“حقًا، لا أفهمكَ. تأتي إليّ لتشوه صورة ريكايل، ثم تنقلب لتساعده في ترتيب أموره!”
تمتمتُ بذلك وأنا أدفن رأسي في الوسادة، فالتفت قائلًا قبل أن يغادر.
“لا، أنا أفعل ذلك من أجل المرأة التي رفضتني.”
***
بعد أن خرج، بقيت محدّقةً في الفراغ بوجهي فارغ.
ما سر هذا القصر الضخم حقًا؟
قفزت من مكاني فجأة، فقلبي كان مثقلاً بالقلق ولا أستطيع كبحه.
‘عليّ الذهاب لرؤية ريكايل.’
دفعتُ اللحاف جانبًا بعزم، مصممةً على مقابلته بلا تردد.
كان الطبيب قد لف على كاحلي ضمادٌ سميك، لكنني شعرت أنه لن يعيق حركتي كثيرًا.
“لا بأس، سأتمكن من ذلك.”
لكن حين حاولت أن أضع يدي على السرير لأنهض، صرختُ فجأة،
“آه!”
فما إن وضعت قدمي على الأرض حتى اجتاحني ألمٌ فظيع.
“لا أستطيع المشي هكذا.”
ولم يكن هناك عكازٌ لأستخدمه هنا، فماذا أفعل؟
جلست على حافة السرير أتنفس بعمق وأنا أتأوه، وفجأة بدأ الباب المغلق يفتح ببطء.
________________________
ريكايل؟ تكفى امش
المهم كلاريتا تجنن معليش حسبتها بتصدق تيرون ذاه بس هي قد مرت بذا الاشياء قبل وعارفه ريكايل🤏🏻
بعدين ليه كأن تيرون وده كلاريتا تطلع من القصر؟ صدق يحبها ولا عشان ىٍقتل ريكايل براحته🤨
المهم كلاريتا فاهمه وريكايل يجنن زوجوهم
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 24"