في تلك اللحظة، دوّى وقع خطواتٍ ثقيلة، ثم اقترب أحدهم.
لقد كان مساعد ريكايل.
“سيدي الشاب.”
ما إن أدار ريكايل رأسه إليه حتى رمقني المساعد بنظرة باردة جانبية.
‘أيها الرجل، لستُ غافلةً إلى هذا الحد كما تظن.’
“تحدثا براحتكما. سأذهب لأشرب شيئاً.”
“احذري من النبيذ.”
“لن أشربه إطلاقاً.”
أجبت بابتسامة مرتبكة وأنا ألوّح بيدي، فردّ ريكايل،
“سألحق بكِ بعد قليل.”
كنت أظن أنه سيطلب مني البقاء، لكنه لم يقل شيئاً. فاستدرت ومضيت مبتعدةً عنهما.
لكن، حتى وأنا أبتعد، ظلّ في صدري شعورٌ بعدم الارتياح. وازداد ذلك حين خطرت ببالي كلمات تيرون.
‘لماذا يزداد قلقي هكذا؟’
توقفت فجأة في مكاني، ثم استدرت ببطء. و وقع بصري على ظهر ريكايل ومساعده وهما يتحدثان.
‘ما الذي يدور بينهما؟’
رفعت كأس شمبانيا على مهل، وارتشفت رشفةً صغيرة، لكن كل انتباهي ظلّ مشدوداً إليهما.
كانا يتبادلان بضع كلمات بوجوهٍ متشددة، ثم استدارا.
‘يبدو أنهما في طريقهما للخارج.’
و لابد أنها محادثة بالغة الأهمية.
وضعت كأس الشمبانيا بعجلة، وتسللت خلفهما بحذر. و حين خرجت إلى الخارج، رأيتهما يمشيان بمحاذاة جدار القصر.
‘ماذا أفعل؟’
ترددت لحظة، ثم عزمت في النهاية على تتبعهما. راجية أن يكون حدسي مخطئاً.
تسللت إلى داخل الحديقة، وألصقت ظهري بجدار في زاوية ضيقة. و كلما تقدمت أكثر، خفَتت أصوات الموسيقى القادمة من القصر.
كنت مثقلةً بالقلق، ومع ذلك لم أستطع أن أمنع نفسي من اللحاق بريكايل.
اعتقدت أن الريح العابرة وأصوات الحشرات الليلية ستخفي أنفاسي المضطربة، حين سمعت أخيراً صوتاً خافتاً.
“تمت كل الاستعدادات.”
كان صوت المساعد.
“أحسنتَ.”
“ثم……لم يكن هناك ما يمكن معرفته أكثر من ذلك.”
“أأنتَ واثق؟”
“نعم، لا يبدو أن هناك من يعرف غير شخص واحد فقط. لقد حُفظ السر بإحكام.”
استعدادات منجزة، وسرٌ مخفي بعناية……
حبست أنفاسي حتى لا يصدر عني أدنى صوت. أما نبرة ريكايل وهو يجيب، فقد بدت غريبةً عليّ.
شعرت وكأنه شخصٌ آخر مختلفٌ تماماً عن ذاك الذي كان يكلّمني قبل لحظات.
‘أي سرّ يتحدثان عنه؟’
كنت أحبس أنفاسي مترقبةً ما سيلي، حين عاد صوت المساعد يتردّد من جديد،
“لكن هناك مشكلة.”
“تحدث.”
“يقال أن حالة الرئيسة الأم ليست بخير.”
كادت شهقة أن تفلت من فمي عند سماعي لذلك.
“اشرح بدقة.”
“يبدو أن مرضها المزمن قد تفاقم.”
و مع هذه الكلمات، شددت على أسناني بقوة.
الشخص الذي يذكرانه……أيمكن أن تكون الأم الرئيسة في هاينز؟
لم يكن لهذا أن يحدث إلا بتوجيهٍ مباشر من ريكايل.
‘إذاً كان يحقق ورائي طوال الوقت.’
وهذا يعني أن السرّ، وكل ما سُمّي بالاستعدادات، مرتبطٌ بي لا غير.
ثم قلبي بدأ ينبض بعنف تحت وطأة القلق.
لكن……يجب أن أتماسك.
صحيحٌ أن الظاهر يوحي بالقرب بيني وبينه، لكن في جوهر الأمر، علاقتي بريكايل لا تخرج عن كونها صراعاً على قصر أغريست وحق الوراثة.
كان الأمر غريباً منذ البداية، وربما ما يجري الآن ليس سوى النتيجة الطبيعية.
فحاولت أن أرتب أفكاري بهذا المنطق، لكن الاضطراب في صدري لم يهدأ.
‘لقد كنت أعلم مسبقاً أن ريكايل يتحرّى عني……’
فهو نفسه من صرّح بذلك. لكن لم يخطر ببالي مطلقاً أنه كان يتقصّى أمري في الخفاء بهذا العمق.
وبما أنني رأيت الدليل بأم عيني على أن لريكايل مخططاتٍ مخفية، فلن أستطيع الاستمرار في التظاهر بالاستمتاع بالحفل.
فاستدرت على عجل. وأنا أشد على أطراف فستاني وأسير بخطى متسارعة، بينما ظلّت كلماتهما تتردّد في رأسي كصدى لا يزول،
“نعم، لا يبدو أن هناك من يعرف سوى شخص واحد. لقد أبقى السرّ محاطاً بكتمان تام.”
عدت بوجه ثابت إلى القصر عبر الحديقة، لكن قلبي لم يعرف السكينة.
“آنسة سوبيل؟”
كان ذلك صوت ليلي، وهي تحمل صينية.
“ليلي.”
تجاوزتني قليلاً، ثم توقفت وعادت بخطواتٍ مترددة. تفحّصت وجهي ملياً، ثم سألت بقلق،
“هل يؤلمكِ شيء؟……مظهركِ لا يبدو بخير.”
لمست وجهي بخفة، فشعرت بحرارة خفيفة.
لم يكن مرضاً جسدياً بقدر ما كان خليطاً من القلق والارتباك يعصف بي.
“لا، لا بأس.”
لكن ليلي لم يبدُ عليها أنها صدقتني. فالتفتت نحو عمق القصر، ثم خفضت صوتها،
“إن احتجتِ لمساعدة، أخبريني. يمكنني أن أقول للجميع أن الآنسة سوبيل لم تشعر بتحسن وصعدت إلى غرفتها للراحة.”
“ليلي……”
عندها تسللت إلى قلبي لمسةٌ من الامتنان. وكأن كلماتها بعثت فيّ قدراً يسيراً من الشجاعة.
“شكراً لاهتمامكِ. وجودكِ إلى جانبي حقاً يبعث الطمأنينة.”
ابتسمتُ لها بلطف، وفي تلك اللحظة تحديداً، خرجت السيدة مايل من القصر، تحمل على وجهها ملامح وقار وجدية.
فارتبكت ليلي فجأة وتراجعت خطوة إلى الوراء، ثم غيّرت نبرتها،
“آنسة سوبيل، أليس الحشد الكبير مربكاً؟ أنا نفسي أكاد أفقد أنفاسي.”
فسرعان ما سايرتها، مبدّلةً ملامحي بدوري،
“نعم، لا بد أن الأمر متعبٌ عليكِ أيضاً يا ليلي.”
“أبداً، بل على العكس! في أيام الحفلات نحصل على ضعف الأجر.”
قالت ذلك ببراءة وعلى وجهها ابتسامةٌ ماكرة.
“شكراً يا ليلي، أعلم أنكِ مشغولة، ومع ذلك تهتمين بي.”
“لا داعي للشكر.”
بعد أن ودّعتها، عدت مجدداً إلى قاعة الحفل. فقد كانت بضع كلمات معها كفيلةً بأن تهدّئ اضطرابي بعض الشيء.
لكن، ما إن بقيت وحيدةً من جديد، حتى وجدت نفسي مضطرةً لاحتمال نظرات الفضول التي تنهال عليّ من كل صوب.
“أهي الفتاة تلك؟”
فقد واجهت أمارنتا أمام الجميع، وفوق ذلك أعلن ريكايل بنفسه أنني خطيبته…..فلا غرابة أن يتملكهم الفضول بشأن هويتي.
“تبدو هادئة، لكنها لا تحمل هالة النبلاء.”
“أليست هي التي تحدّثت عنها سيزنيا؟”
“أما أنا فأراها فاتنةً بما يكفي.”
لم أشأ أن أختلق عذراً بالمرض، لكنني في المقابل لم أحتمل فكرة الجلوس في حفلة لا أعرف فيها وجهاً واحداً.
أتفهم فضول الناس، لكن أن يتهامسوا بصوت مسموع هكذا…..فذلك خالٍ تماماً من اللباقة.
‘لا أريد أن أثير ضجة. لستُ نبيلةً متزنة، لكنني كذلك لا أريد أن يشاع عني أنني مشاكسة.’
فقررت أن أبقى قليلاً، ثم أصعد إلى غرفتي بهدوء.
عندها تسلل إلى سمعي صوتٌ مألوف من خلفي،
“هذا مطمئن.”
لم ألتفت، لكنني كنت أعلم جيداً من يقف هناك.
ذلك الرجل الذي جعلني في قلق دائم منذ البداية…..ومع ذلك لم أتوقف عن انتظاره.
ريكايل.
“كنت أخشى أنكِ خلال غيابي كنتِ ترقصين مع غيري.”
“فكرت في ذلك، لكنكَ عدت أسرع مما توقعت.”
“أتشعرين بخيبة أمل إذاً؟”
“كنت أنوي أن أتدرّب فقط.”
ارتسمت ابتسامةٌ ماكرة على شفتيه، ومعها تبدّلت أنغام القاعة إلى لحن جديد.
“فلنجعل التدريب معي إذاً.”
مدّ ريكايل يده نحوي. وكما في المرة السابقة، لم أستطع أن أوافقه على الفور.
لكن السبب هذه المرة كان مغايراً تماماً.
في البداية خشيت أن يسخر الجميع من رقصي الركيك، أما الآن…..
“حسناً.”
قلت ذلك، غير أن يده في يدي بدت لي غريبة، كأنني أمسكت شخصاً لا أعرفه.
ومع ذلك، قادني ريكايل هذه المرة أيضاً بمهارة لافتة.
كان كل ما أفعله مجرد التحرّك بتردّد كي لا أدوس قدم ريكايل، ومع ذلك خُيّل إليّ لوهلة أنّني أرقص حقًا.
“أنتِ تتعلمين بسرعة.”
“مؤسفٌ أنكَ لم تكتشف ذلك إلا الآن.”
ثم تمتم وهو يرفع حاجبيه قليلًا،
“كأنك أصبحتِ أكثر جرأة.”
“ذلك صحيح على الأرجح.”
دون أن أدري، كنا قد وصلنا إلى وسط قاعة الحفل. وبسبب ظهور ريكايل، انسحب جميع من كانوا يرقصون جانبًا.
فبدا الأمر وكأن القاعة قد تحوّلت إلى مسرح يخصنا وحدنا.
كانت الموسيقى تنساب بعذوبة، والأنظار تنصب علينا من كل الجهات، وفي يدي قبضته الثابتة.
كنت أعلم أن ما أفكر فيه غباء، ومع ذلك رغبت بشدّة أن أنسى الحوار الذي كنت قد استرقت السمع إليه منذ قليل.
“سيد أغريست.”
فترددت…..هل أسأله؟
ربما قد يجيبني بصدق هذه المرة.
“هناك أمرٌ يشغلني…..لماذا طلبت أن أصبح خطيبتكَ..…؟”
لكن حين ارتفع صدري بالضيق ورفعت رأسي قليلًا، التقط بصري عند طرف المنصّة في الطابق الثاني ظلًا مألوفًا.
“……!”
اختفى في لمح البصر كما لو كان خيالًا، لكنني واثقةً أنّه كان كويل.
وما إن لمحته حتى اجتاحتني بعنف كلمات الحوار الذي دار قبل قليل بين ريكايل ومساعده.
وبلا وعي حاولت دفع يد ريكايل بعيدًا.
“احترسي!”
ثم دوّى صوته فجأة، وفي اللحظة نفسها ارتفعت صرخاتٌ مرعبة من كل صوب.
“آااه!”
وفجأة جاءني من فوق رأسي صوتٌ مشؤومٌ ثقيل. و رفعت عيني بسرعة، لأرى الثريا الضخمة المعلّقة بسقف القاعة تهوي إلى الأرض.
ثم عمّ أرجاء القاعة صوت الاصطدام المدوّي.
_______________________
هذا شفيه يحب المواقف الي تجيب سوء فهم🥲
الحين بتقول اها كويل مساعد ريكايل كان فوق بعدها طاحت الثريا يعني مقصوده
بس لااااااع كله من القصر و تيرون ذاه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 22"