“ملامحكَ قاسية الطباع……لقد ورثت ملامح أبيكَ تماماً.”
لم تفقد ابتسامتها، لكن كان جلياً أن بريق عينيها قد خفت عما كان في البداية.
“بل ورثتها عن أمي، أليس كذلك؟”
ريكايل بدوره لم يتراجع خطوة.
كنت أراقب من بعيد، ورغم ذلك انكمش كتفي من تلقاء نفسه.
بعد ذلك أمارنتا لم تقل شيئاً آخر. غير أن يدها النحيلة المغطاة بالقفاز الأبيض راحت ترتجف بوضوح.
ألقت نظرةً على ابنها، ثم تراجعت إلى الوراء.
‘ومع ذلك، إن انتهى الأمر عند هذا الحد فذلك نعمة.’
كنت أزفر أنفاس الارتياح حين دوّى صوتها.
“هولت.”
ثم تقدّم الخادم خطوة، فعاودت أمارنتا بصوتها الرزين المترف،
“أود لقاء تلك الآنسة.”
حين مال الخادم المدعو هولت برأسه متسائلاً، أعادت القول مرة أخرى،
“الآنسة المذكورة في الوصية……كلاريتا سوبيل.”
كنت أقف متواريةً أتابع المشهد كالمتفرّجة، فإذا باسمي يتردّد فجأة، فارتبكت مذعورة.
‘أنا؟’
لكنني سريعاً ما تماسكت وأصلحت ملامحي.
في حياتي السابقة كنت قد نجوت من هذا الموقف بمحض الصدفة، لكن بما أنّ الأمر يتعلق بالإرث، فقد كان لا بد أن أواجهها عاجلاً أم آجلاً.
وبدلاً من أن يقدّمني أحدهم، اخترت أن أتقدّم بنفسي أمام أمارنتا.
“أنا كلاريتا سوبيل.”
عندها غشي وجه ريكايل ظلّ قاتم لحظة.
ولأني أدركت معنى ذلك التعبير، تعمّدت أن أرفع صوتي بثبات متعمّد،
“أخبروني أنكِ تبحثين عني؟”
في الحقيقة، كان يمكن توقّع أن أمارنتا ستطلبني منذ أن دخلت قاعة الحفل.
لقد غابت عن يوم إعلان وصية الدوق أغريست، لكنها الآن لا بد أنها سمعت، من محامٍ أو من غيره، أن كامل ثروة أغريست ستؤول إليّ في القريب العاجل.
و أغلب الظن أنها قبلت دعوة تيرون كي تتأكّد بنفسها من هويتي.
“إذاً فأنتِ الآنسة سوبيل.”
النظرة التي تلت كلماتها حملت نحوي خليطاً من الفضول والشك وتساؤلاتٍ أخرى كثيرة.
فتساءلت ما الذي يدور في خاطرها الآن؟
في يوم إعلان وصية الدوق، لم تبعث حتى وكيلاً عنها. وقد بدا ذلك كأنها رسالة واضحة بعدم رغبتها في أي صلة بعائلة أغريست.
فهي لم تكن على وفاق مع الدوق في حياته، ولا مع ابنه، وقد امتلكت من الثروة ما يكفي وزيادة.
ولم تُنجب وريثاً لتورّثه. وفوق ذلك، لم تكن قد ظهرت في المشهد مطلقاً حتى هذه اللحظة.
“إنه لشرفٌ لي أن ألتقي بكِ، سيدتي.”
لاذت أمارنتا بصمت قصير، كأنها ترتب أفكارها. و سرت لحظة من الهدوء، ثم تكلّمت مجدداً،
“كنت أود أن أسأل شيئاً، لكن بعدما رأيت وجهكِ لم أعد فضولية.”
للحظة انعقد لساني.
ماذا تقصد بأنها لم تعد فضولية بعدما رأت وجهي؟
حقاً، إنها تجيد إثارة الضيق في نفوس الآخرين.
“بالطبع، قبل ذلك كنت أرغب أن أعرف……لماذا ترك فِيسفندر كل الصلاحيات لامرأة لا يجري في عروقها قطرةٌ من دمه.”
كانت تحاول ما استطاعت أن تحافظ على نبرة متعالية، تماماً كما فعلت حين دخلت القاعة.
“على أي حال، حتى لو كان قد ترك لي شيئاً، لما قبلته. فما تبقّى من أثر فِسفندر……و أي ورقة تحمل اسم أغريست، تبعث في نفسي القرف والاشمئزاز.”
كان الحقد الذي تكنّه أمارنتا للدوق أغريست أعمق بكثير مما كنت أتصور.
لقد أحبّت الدوق ذات يوم. حتى أصل هذا الحقد لم يكن سوى حبّ معوجّ انقلب إلى كراهية.
وهذا ما يُخيف البعض مت قلب امرأة انصرف عن الحبّ.
“لكن أن تكون فتاةً غضّة يافعة إلى هذا الحد؟……يا له من عبث مزعج.”
لم تنظر أمارنتا إليّ مباشرة. وعلى العكس منها، بدأت نظراتٌ باردة تنهال عليّ من كل صوب.
“أتفهّم دهشتكِ يا سيدتي، لكن وصية الدوق المفاجئة أربكتني أنا أيضاً.”
“ماذا تقولين؟”
“أودّ أن أوضّح أمراً……لم تكن بيني وبين الدوق أغريست أي معرفة سابقة.”
عندها أدارت أمارنتا رأسها نحوي، وقد كانت في وضع مائل. و شعرتُ أن أنفها الحادّ سيطلق عليّ سهماً في أية لحظة.
كنت خائفة، لكن لم يكن بوسعي التراجع عن الكلام.
“حالياً، نحن بصدد البتّ في شرعية الوصية مع الوريث الأكبر لعائلة أغريست. فإن كان لديكِ ما تقولينه لي، أليس من الأفضل أن تنتظري حتى تُحسم المسألة؟”
“ما أوقحكِ! كأن إغواء الدوق لم يكفكِ–”
في تلك اللحظة، تقدّم ريكايل الذي كان يقف على بُعد خطوتين.
“الآنسة سوبيل هي خطيبتي. لذا، أرجو أن تتحلّي باللياقة معها.”
و للمرة الأولى، فشلت ج أمارنتا في ضبط تعابير وجهها.
ثم ارتجفت يدها الممسكة بالمروحة من جديد، لكن تيرون تدخّل حينها،
“ها أنتَ دائماً متصلّب يا ريكايل. ة عليك أنت أن تتحلّى باللباقة.”
ابتسم ابتسامةً ماكرة، وفي تلك اللحظة قبض ريكايل على معصمي. و لم يكن بوسعي سوى أن أتبعه حيث يقودني.
آه……كان لديّ كلام لم أنطق به بعد.
“آنسة سوبيل.”
بعد برهة طويلة، كان ريكايل هو من بادر بالحديث.
“أعتذر نيابةً عن السيدة أغريست على الوقاحة.”
أثقل قلبي أن أسمعه يعتذر، بل وأن يسمّي أمه بـ “السيدة”.
“لا، ليس من واجبكَ الاعتذار يا سيد أغريست.”
حينها عاد صوته إليّ،
“لماذا لا تسألين عن شيء؟”
كان سؤالاً خارج السياق، لكنني فهمت قصده.
يقصد تساؤلي عن سبب مناداته لأمه بذلك اللقب، وعن حدّة الحوار الذي جرى بينهما قبل قليل.
إلا أنني أعرف الكثير عنكَ بالفعل. لكن لا يمكنني البوح بهذا، فاكتفيت بابتسامة غامضة.
“يبدو أنني سبّبت لكِ جرحاً بسبب مشاكلي……آسفٌ لذلك.”
“لا بأس. من وجهة نظر والدتكَ، الأمر مفهومٌ تماماً. خطبةٌ مفاجئة كهذه لا بد أنها بدت لها عبثيةً وصادمة.”
لم ينبس ريكايل ببنت شفة. لكنني في الصمت الذي سرى بيننا شعرت بأشياء كثيرة.
فأحياناً، يكون في السكون ما يعمّق الإحساس أكثر مما تبوح به الكلمات.
كنت أدرك جيداً كم عاش ريكايل وحيداً، وكيف أن جراحه التي لم تلتئم ما زالت تنهشه، تطارده بإصرار رغم كل محاولاته للانفلات منها.
في تلك اللحظة، دوّى في أذني صوتٌ مألوف.
“هي تلك المرأة.”
“أجل، لم أنسَ ملامحها.”
فاستدرت بتوجّس نحو مصدر الصوت. وما إن التقت عيناي بعيني الرجل، حتى صرف بصره عني على عجل.
‘هذا الرجل……’
وجهٌ سبق أن رأيته، لكنني لم أتذكره للوهلة الأولى.
من يكون يا ترى؟
“يبدو أن العلاقة بينهما وطيدة.”
“بارعةٌ حقاً.”
“أفضل كثيراً من العداء. لقد وضعت خطتها بإتقان.”
ثم، مع ضحكة ساخرة انطلقت في ختام حديثهم، بدأت ذاكرتي بالعمل.
لقد كان من رجال عائلة أغريست، ممن حضروا يوم جئت إلى القصر للمرة الأولى، يوم انتظار إعلان الوصية.
‘هو نفسه الذي ظلّ يصرخ حتى النهاية بأن الوصية باطلة.’
أحسنت يا تيرون، لقد جمعت في دعوتكَ أكثر الوجوه استفزازاً.
لكنني في تلك اللحظة عزمت أن لا أبالي بما يتهامسون به خلف ظهري.
“آنسة سوبيل.”
ثم مدّ ريكايل يده نحوي، يرافقني بابتسامة لطيفة. و فهمت قصده في الحال، لكن لم يسعني إلا الاعتذار.
“المعذرة……لكني لا أجيد الرقص أبداً.”
كنت قد حظيت بنصيبي من الأنظار بفضل أمارنتا قبل قليل، ولم أرغب أن أتحوّل إلى أضحوكة الآن برقصٍ مرتبك.
لذلك دفعت يده بلطف بعيداً، لكنه لم يستسلم.
“لا بأس. لن أترك لكِ زمام القيادة على أي حال.”
“لكني لم أرقص يوماً.”
صحيحٌ أن هذه حياتي الخامسة، لكنني لم أقف يوماً في قلب قاعة رقص كهذه. و لم أعتد بعد على هذه الأجواء، فكيف أجرؤ على الرقص؟
“وأنا كذلك تقريباً.”
اقترب مني خطوةً بخفّة، ثم مرّر يده إلى عنقه بخجل، و تحدّث مجدداً،
“لا تعيري الناس أي اهتمام. من يجب أن يستمتع بليلة اليوم هو أنتِ، آنسة سوبيل.”
“…….”
كان كأنه يقرأ ترددي وما يدور في رأسي.
“أنا فقط لا أريد أن أبدو أضحوكة.”
ترددت لحظة بين أن أتراجع، أو أن أترك نفسي لقيادته. لكن ما إن طوّق خصري بذراعه حتى أدركت أن التراجع لم يعد ممكناً.
“إذاً……فلنكن على مهل.”
تشابكت يدانا، وشعرت ببعض الارتباك.
ثم تقدّمت معه بخطى بطيئة، حذرة، لا أبالي بعدها بعيون من حولنا. و كان همّي الوحيد أن لا أطأ قدم ريكايل بالخطأ.
“أحسنتِ.”
فهمس ريكايل بابتسامة رقيقة.
“كاذب.”
“صحيح……لقد كذبت.”
“ماذا قلتَ؟”
حاولت أن أفلت من قبضته بقوة، لكنه اكتفى بابتسامة هادئة ولم يترك يدي.
“لكن، بالنسبة لأول مرة……فأنتِ رائعة.”
فاكتفيت بزمّ شفتي في امتعاض دون رد.
“هذه المرة أنا جاد.”
“إن كنتَ تقول ذلك.”
أجبت بنبرة عابسة، لكن الحقيقة أن الحوار جعل توتري يتبدد شيئاً فشيئاً.
لم أتعلم الرقص يوماً، ولم أرقص من قبل، ومع ذلك بتّ أشعر بالراحة وأنا أترك نفسي تنسجم معه ومع الموسيقى.
وحينئذ بدأت الألحان تتهادى في أذني بعذوبة متزايدة.
فقادني برفق حتى صرنا في قلب قاعة الحفل.
وعندما راودني الأمل أن يطول هذا الوقت أكثر، أخذت الموسيقى الزاهية تخفت تدريجياً. عندها دوّى وقع خطوات ثقيلة، واقترب أحدهم.
“سيدي الشاب.”
لقد كان مساعد ريكايل.
__________________________
لايكون معه مشاكل
المهم ريكايل وكلاريتا يجننون فاهمين بعض 🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 21"