حتى كلمة “زواج” لم أستطع أن أجعلها تخرج من فمي. لمجرد التفكير بها يثير القشعريرة والارتباك.
زواج؟ أيعقل هذا أصلًا؟
عندها نظر إليّ ريكايل بنظرةٍ غامضة.
“كلماتكِ بدت غريبةً قليلًا.”
“؟”
“كأنكِ تلمّحين إلى أنكِ تريدين شيئًا آخر غير ذلك.”
“ماذا……ماذا تقول؟”
“فأنتِ تتظاهرين بالرفض، لكنكِ تواصلين إغرائي.”
انحنى قليلًا نحوي، هامسًا بنبرة مشبعة بالتسلية وكأنه ينتظر مني اعترافًا مسلّيًا.
“أتريدينني؟”
“ليس هذا قصدي! أقصد الزواج، الزواج! أريد الزواج!!”
و انفجرت صرختي في النهاية من غير ارادتي.
‘يا إلهي، ماذا قلت للتو؟!’
كل الغيظ الذي كنت أكبته انفجر دفعة واحدة.
‘جنون، هذا جنون.’
فشعرت بحرارة تتصاعد إلى وجهي لحظةً بلحظة.
“لم أكن أعلم أن رغبتكِ في الزواج عميقةٌ لهذه الدرجة. طالما فهمت قلبكِ يا آنسة سوبيل، فسأستعد للأمر بجدية.”
“لكن أنت تعرف أن هذا ليس ما قصدت!”
“لا أظن. فما سمعته منكِ كان واضحًا جدًا.”
كبح ريكايل ضحكته ثم نهض واقفًا.
“لم ننتهِ من الحديث بعد! كيف ستُسوّي هذا الموقف؟ أخبرني!”
“أفهم رغبتكِ في البقاء معي، لكن المحامي ينتظر في الأسفل.”
ثم مد يده برفق وأمسك يدي، وطبع قبلةً خفيفة على ظهرها. و شفتاه الدافئتان تلك، و الناعمتان، لمستا بشرتي كحرير.
“إلى اللقاء.”
ابتسامته تلك كانت جنونية، و سلبت مني القدرة على الصراخ أو النطق بكلمة واحدة.
ثم خرج ريكايل، وبقيت أنا جامدةً كتمثال، بينما كانت يدي اليمنى مرفوعةً في الهواء.
“…….”
ماذا أفعل الآن؟
ما بال هذا الرجل، ولماذا يتصرف على ذلك النحو؟
عقلي كان في فوضى محضة؛ بقايا شرابٍ لم تزل متخمرةً بداخلي، ابتسامةٌ مجنونة عالقة في آخر لقاء، ونهاية موت ريكايل التي ما زالت تلوح أمامي.
لم أطرده خارج القصر، بل انتهى بي الأمر إلى العيش معه تحت سقف واحد.
لكن……هذا لا يصح.
هل أنوي تركه يمضي إلى حتفه هكذا؟
“حسنًا، اهدئي……تمالكي نفسكِ.”
خفضت يدي اليمنى ببطء، محاوِلةً تهدئة نبضي.
و عندما أطرقت النظر إلى ظاهر كفي، خُيِّل إلي أن لمسةً ناعمة ما زالت باقية هناك.
منذ اليوم الأول لعودتي أدركت أن ثمة شيئًا غير مألوف، لكن ما يجري الآن ليس مجرد انحراف في الاحداث؛ إنه فوضى عارمة من البداية حتى النهاية.
لأخرجت نفسًا طويلًا، في محاولةٍ لاستعادة هدوئي.
هدفي واحد: إنقاذ ذلك الرجل التعيس، الموحَد، من مصيره الأسود.
ولأجل ذلك، ينبغي أن أغادر معه هذا القصر……لكن بدلًا من إخراجه، وجدت نفسي حبيسةً معه بين جدرانه.
فإلى أين ستقودنا هذه القصة؟ كيف باتت تسلك دربًا لم أعرفه؟
حينها، طرق أحدهم الباب بخفة.
“تفضل.”
“آنسة سوبيل، أحضرت لكِ بعض الشاي.”
كان الصوت للفتاة ليلي التي أطلت برأسها من الباب.
“شكرًا لكِ.”
كنتُ في أمسّ الحاجة لرشفة ماء، فقد جفّ حلقي حتى كاد يتشقق.
وضعت ليلي الصينية على الطاولة الصغيرة جوار السرير، ثم ألقت عليّ نظرةً قلقة.
“ما زال وجهكِ شاحبًا، هل أستدعي الطبيب مجددًا؟”
“لا، ليس ضروريًا.”
فوجهي هذا، لن يُصلحه أي طبيب.
“عليكِ أن تشربي شيئًا دافئًا وتخلدي للراحة.”
راقبتها بصمت وهي تهيّئ الشاي بيديها الماهرتان.
ومع امتلاء الكوب ببطء وانتشار العطر العذب في الغرفة، قطعت أنا الصمت أولًا.
“ليلي……”
ناديتها مترددة، فرفعت رأسها إليّ وهي تضع إبريق الشاي جانبًا.
“هل تؤمنين بالقدر، يا ليلي؟”
“بالقدر؟”
اتسعت عيناها دهشة، وحدقت بي بتمعن.
“أؤمن به تمامًا. لكن، ما الذي جعلكِ تسألين فجأة؟”
“الأمر ليس عني……بل عن صديقةٍ لي.”
“نعم.”
“فتحت لي قلبها، لكنها تركتني حائرة……لا أدري ماذا أقول لها.”
وبمجرد أن لمحَت ليلي مدخل الحديث، أضاءت عيناها حماسةً وأومأت سريعًا.
“وما مشكلتها؟”
“يبدو أنها وقعت في مأزق عسير.”
“مأزق؟”
“نعم، وأردت أن تسمعي القصة……ثم تفكرين معي بما قد يكون أفضل حل.”
“بالطبع، هذا أقل ما أفعله من أجل صديقة الآنسة سوبيل.”
ليلي كانت فتاةً طيبة، ودودة، نقية القلب……غير أن لسانها كثير الحركة، وقلبها مفرط الحساسية. ولهذا، لم تكن خير صندوقٍ لأسراري.
لكنني رغبت، ولو لمرة واحدة، أن أبوح بما أمرّ به إلى أحد، فربما أجد تلميحاً، أو إشارة، أو بحلٍ خفي لا يخطر ببالي.
فأحيانًا، حين يشارك المرء همّه مع شخص آخر، يولد بين الكلمات سبيلٌ لم يكن ليُرى من قبل.
و حين شرحت لها قصةً قريبة الشبه بالواقع، أخذت ليلي تنصت بوجه جاد إلى حديثي.
“إذاً……إن لم يفترقا سيموت أحدهما، ومع ذلك يحبّان بعضهما حدّ العجز عن الفراق؟”
أومأتُ برأسي، فرفعت يدها تتحسس ذقنها.
“همم……أهذا نوعٌ من اللعنة؟”
لعنة؟ لا أدري.
كل ما أعلمه أنني سمعت من بعيد عن موت ريكايل، ولم يكن مصيره في الرواية مرسومًا بوضوح.
“يمكن أن نقول ذلك.”
“بالنسبة لي……”
حبست أنفاسي، أحدّق فيها منتظرةً جوابها.
“فسأختار البقاء مع من أحب. أليس وجود اثنين خيرًا من وحدةٍ قاتلة؟”
قالت ذلك بخفة، وكأن الأمر لا يحمل أي عبء.
“ثم إن كانت لعنةً فعلًا، فلنبحث معًا عن طريقةٍ لحلّها. فلا بد أن يكون ثمة من أوقعهما، وسيجدان طريقهم إليه.”
“…….”
نجد من أوقعنا؟ كيف، وهذا عالمٌ من ورق وحبر؟ هل أبحث عن الكاتب بين السطور؟
“ليلي، وكيف نظفر بطريقة لفكّ تلك اللعنة؟”
“ممم……لست متأكدة. لكن……ألا يجدر بالكهنة أو الرهبان أن يعلموا بذلك؟”
قالت ذلك وهي تحدق فيّ مليًا.
“ثم أنتِ، آنسة سوبيل، ألم تعيشي في الدير؟ يفترض أنكِ أدرى مني بأسرارهم.”
“آه……نعم، هذا صحيح.”
ابتسمت ابتسامةً باهتة، وأخفيت ارتباكي بارتشاف رشفة من الشاي.
فلست حقًا ابنة الدير، بل مجرد شخصية عالقة في حكاية نُسجت على هذا النحو.
“على أي حال، قدرٌ كهذا……موتٌ محتوم، قاسٍ للغاية. لكن……هل بوسع المرء أن يهجر من يحب لينجو بنفسه؟ لا أظن ذلك. فلن يجد راحة، ولن يهدأ قلبه.”
“…….”
“إن كنتِ تقولين أنهما يحبان بعضهما، فلابد أن يتشبثا معًا، يقاوما معًا. و هذا ما كنت سأفعله لو كنت مكانها.”
بعد ذلك، حملت ليلي الصينية الفارغة وغادرت إلى الطابق السفلي. أما أنا، فبقيت وحدي، أعيد وأكرر في ذهني ما تركته من كلمات.
اثنان أفضل من واحد.
ابحثا معًا.
لا بد أن هناك طريقًا.
وربما، كما قالت، يكمن الحل في الدير ذاته.
فلماذا لا أبقى بقرب ريكايل، أبحث عن وسيلة لأحفظه من الموت، وأجعل حياته عامرةً بالسعادة؟
شيئًا فشيئًا، أخذ الضباب ينقشع من رأسي المثقل، وحلّ مكانه صفاءٌ لم أشعر به منذ زمن.
“صحيح……لقد أخفقتُ كل مرة حاولت طرده بعيدًا. آن أوان أن أجرب طريقةً أخرى.”
فرفعت الكوب الفاتر إلى شفتيّ، وشربت ما تبقى فيه دفعةً واحدة.
***
ثم سارعت بالنزول إلى مكتب ريكايل.
‘آن أوان البحث عن طريقٍ آخر.’
بل على العكس، ما إن غيرت اتجاه تفكيري حتى غمرني شعورٌ بالطمأنينة.
كنت أضبط أنفاسي المتسارعة وأمد يدي لأطرق الباب، فإذا بأصوات خافتة، عميقة، تتسرب من خلفه.
آه، نعم……لقد قال إنه سيلتقي بالسيد بيتمن.
فتملكني الفضول عمّ يمكن أن يدور بينهما، و بما أن صحة الوصية لم تُحسم بعد، فلا بد أن حديثهما ليس عن الميراث.
ألصقت أذني بالباب نصف المغلق، لكن الأصوات بدت مبهمةً لا تتضح.
‘لا، لا يليق بي هذا التصرف’
فكرت بذلك، وتراجعت خطوةً إلى الوراء.
وما إن فعلت، حتى فُتح الباب فجأة، وخرج منه السيد بيتمن.
“آنسة سوبيل.”
ارتبكت، مع أنني لم أكن أتجسس بحق، لكن وجهي خانني.
“آه……مرحبًا.”
“أكرر تهنئتي لكِ، آنسة سوبيل.”
“ها……هاها……”
لم أجد ما أقول، لا شكرًا ولا نفيًا، فاكتفيت بابتسامةٍ متكلفة. و اكتفى هو بابتسامة مهذبة، وانحنى برقي، ثم مضى في طريقه.
فدفعت الباب المفتوح بحذر، ودخلت. و كان ريكايل جالسًا خلف مكتبه الضخم.
“هل اشتقتِ إليّ بهذه السرعة؟”
قال ذلك بابتسامة ناعمة، غريبة؛ نصفها بارد، ونصفها الآخر دافئ.
فأغمضت عيني لحظة، ثم واجهته،
“أفكر في الخروج غدًا قليلًا.”
وضع قلمه جانبًا، ثم أرسل إليّ نظرةً مطولة.
“ليس من شِيَم الرجال أن يسألوا النساء عن وجهتهن……أليس كذلك؟”
“بالطبع.”
ابتسم ريكايل ابتسامةً ضبابية، وأطال النظر في وجهي.
“لا تفكرين في الفرار……صحيح؟”
ثم سأل بصوت كسول، كأنما يتثاءب بالكلمات.
“الفرار؟ بيتي هنا، أليس كذلك؟”
“جيد، يعجبني هذا الجواب.”
“على أية حال، سأخرج وأعود.”
لا أدري بعد إن كان الحل يكمن في الدير أم لا، لكنني سأفتش عن سبيل آخر.
ليترقب إذاً، فلن أدعه يموت بتلك الميتة المريعة كما في المرة السابقة.
ثم استدرت عازمةً على المغادرة، فإذا بصوته يوقفني من جديد،
“آنسة سوبيل.”
___________________________
طيب يا مؤلفة شذا القفله
بعدين ريكايل ليه مايروح معها؟ بيصير فله✨
المهم انفدا ليلي😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 18"