“سمعت أنكما خرجتما في نزهةٍ حميمة اليوم؟”
في ذلك المساء، أصرّ تيرون على أن نجتمع جميعاً للعشاء، واستدعاني أنا وريكايل.
ريكايل قال أنه يمكنني الرفض إن كنتُ متعبة، لكنني لم أرغب بتركه وحده مع تيرون.
كنت قد أدركت إلى حد ما طبيعة هذا الرجل. فلم يأتِ فقط للاطمئنان على صحة ريكايل. لابد أن وراء زيارته غايةً أخرى.
‘وربما هدفه الحقيقي هو هذا القصر.’
إن كان الأمر كذلك، فالذي عليّ استغلاله هو تيرون نفسه.
‘لكنني لا أريد أن أضع يدي في يده.’
وفوق هذا كله، صحيحٌ أن مهمتي هي طرد ريكايل، لكن حتى إن طردته، فأنا من يجب أن يفعل ذلك، لا أن أراه يُقصى على يد تيرون.
“كيف كان متجر الفساتين؟”
“جيد.”
“يا للخسارة، لو أخذتما معكما ذوقي المميز لكنتما قد استفدتما أكثر.”
ابتسم تيرون ابتسامةً واسعة، فرد عليه ريكايل بجفاف،
“وما الفائدة من انضمامكَ بلا دعوة إلى موعدنا؟”
“لو كنت معكما، لكان الأمر أكثر متعة. أليس كذلك، ريتا؟”
داهمني سؤاله المفاجئ، فاكتفيت بحمل كأس النبيذ ورشفت جرعة.
“هل اكتفيتما وحسب بمشاهدة الفساتين؟ إذاً ما سر هذا التأخر؟ هل جُبتما كل متاجر المدينة؟”
“لا.”
أجاب ريكايل بفتور، فارتسمت على وجه تيرون ملامح خيبة.
“إذاً، لماذا تأخرتما لهذه الدرجة؟ أليس في هذا قلة احترام لضيفكما؟”
“ومن هو الضيف هنا؟”
فأشار تيرون إلى صدره بأصابعه وضحك.
“هيا، لا تقل هذا. مهما بلغت صداقتنا من قرب، فأنا ما زلت ضيفاً. ألا تستحق الضيافة؟”
“لقد جلستَ على مائدة طعامي، وبهذا نلتَ أفضل ضيافةٍ ممكنة.”
وعلى طول المائدة المترامية، كانت الأطباق الشهية الفاخرة مصطفةً في منظر يخطف الأنفاس.
و كانت تلك أولى المشاهد التي واجهتها في هذا العالم.
“حسناً، فلنُحيِي هذه الليلة إذاً.”
رفع تيرون كأسه المليء بالنبيذ وهو يتنقل بنظره بيني وبين ريكايل.
“فاليوم يومٌ مميز بالنسبة للجميع.”
ابتسمتُ بهدوء ورفعت كأسي بدوري.
وحين امتلأ كأس ريكايل بالنبيذ الأحمر، التفت نحوه تيرون،
“لنشرب من أجل الحب الجميل والرومانسي الذي يعيشه صديقي ريكايل.”
يا له من ممثل بارع، يتظاهر وكأنه يصدق ما لا يؤمن به أبداً.
فتظاهرت أنا أيضاً بالسعادة وشربت رشفةً بابتسامة رقيقة. لكن ما إن وضعت الكأس حتى تحدّث تيرون مجدداً،
“حسناً، الآن دوركَ.”
فالتفت ريكايل نحوي وهو يرفع كأسه. و في تلك اللحظة، شعرت بتوتر طفيف، أتساءل عمّا سيقول.
“لنشرب من أجل سلامة من أحب.”
قال ذلك وهو يحدق بي مباشرة. بينما تراقص سطح النبيذ في كأسه مع حركته.
كنت أعلم تماماً أنني لست ضمن “من يحب”، ومع ذلك احمرّ وجهي دون إرادة.
‘ما هذا……لماذا ينظر إليّ هكذا؟’
شعرت فجأة بحرارة تعلو وجنتيّ وعطش يجفف حلقي. ونسيت أن الذي في يدي نبيذ، فأخذت أشربه جرعةً تلو أخرى بلا توقف.
“هاه……”
ففرغ الكأس بسرعة ووضعته على الطاولة، فإذا بريكايل وتيرون ينظران إليّ بنفس التعبير المندهش.
“لقد عطشتُ قليلاً.”
فابتسم تيرون بخفة،
“الآنسة سوبيل تبدو شخصيةً لا يطابق ظاهرها باطنها.”
“أهكذا تعتقد؟”
“مظهركِ كزهرة رقيقة ناعمة، لكن شخصيتكِ……مختلفةٌ تماماً.”
“شكراً على الإطراء.”
قلت ذلك مبتسمة بلطف، وما إن رفعت رأسي حتى رأيت ريكايل يحرّك شفتيه كأنه يكتم ضحكة.
‘ماذا؟ هل سخر مني للتو؟’
شعرت بالحرج، فالتقطت الكأس ورشفت قليلاً من النبيذ مرة أخرى.
عندها بادر تيرون بسؤال آخر،
“بالمناسبة، من أين أتيتِ يا آنسة سوبيل؟”
كنت أعلم مسبقاً أن دفة الحديث ستتجه نحوي.
كلاريتا سوبيل……جاءت من دير في هاينز. لكن ما الفائدة من كشف أنني من دير؟ قد يجر عليّ مشاكل أكثر.
نظرت سريعاً إلى ريكايل، فأجاب ببرود متعمد،
“إن كان يصعب عليكِ الجواب، فلا حاجة لأن تقولي شيئاً.”
غير أنني أعلم إن تهربت الآن، فسيزداد تيرون إلحاحاً.
ماذا أفعل؟
ربما كان عليّ أن أستغل وقتي مع ريكايل في الخارج وأستفسر أكثر عن تيرون.
“أمعقول أن يكون مجرد ذكر موطنكِ أمراً يصعب عليكِ؟ إنه سؤالٌ بديهي يطرحه الناس عند التعارف، أليس كذلك؟”
قال تيرون ذلك وهو يبتسم ابتسامةً عريضة كما توقعت.
“لا، ليس صعباً عليّ أن أجيب.”
إن أراد أن يعرف حقيقتي، فسوف يتمكن من ذلك بسهولة. فالأفضل أن أبوح بها بنفسي.
“أنا من هاينز.”
“هاينز؟ إنها منطقةٌ أعرفها جيداً. غريبٌ أنني لم أسمع من قبل بوجود آنسة فاتنة مثلكِ هناك.”
“لأنني عشت في الدير منذ طفولتي المبكرة.”
“الدير؟”
اتسعت عينا تيرون دهشة، ثم التفت نحو ريكايل.
“هاه، أخيراً بدأت الخيوط تتضح أمامي.”
كان في ملامحه ما يقلقني.
و لم ارتح أبداً، لا لمبالاة ريكايل المريبة، ولا لنظرات تيرون التي لا تكف عن التحديق بي.
“كفّ عن الفضول بشأن امرأتي.”
“…….”
أنا أعلم تماماً أن ريكايل لا يقول هذا إلا تمثيلاً، لمواجهة ذلك المزعج.
ومع ذلك، في كل مرة يرمقني من بعيد، يرسل إليّ نظرةً خفية تحمل شيئاً من القلق وكأنه لا يقصد.
آه، نبيذ……أحتاج إلى المزيد من النبيذ.
وفجأة عاد صوت تيرون الخفيف المستهزئ،
“حقاً، هكذا يُضطر المرء لأن يعيش مغبوناً.”
مددت يدي إلى كأس النبيذ من جديد، أحاول ترطيب حلقي.
على مائدة العشاء الفاخرة، كانت تدور حربٌ صامتة بين ريكايل وتيرون، لا يراها أحد سوانا. أما أنا، فقد جعلني التوتر أعجز عن ابتلاع شيء غير النبيذ.
وكلما امتلأ الكأس، أفرغته على الفور. إلى أن اقتربت مني ليلي وهمست بحذر،
“آنسة سوبيل، هل أنتِ بخير؟”
“لا مشكلة.”
“إن شعرتِ بدوار أو بأي تعب، فأخبِريني فوراً.”
“حسناً.”
وبينما أجيبها، كنت قد أنهيت كأساً آخر.
عندها أطلق تيرون ضحكةً مكتومة و تحدّث بنبرة مشبعة بالتسلية،
“ريكايل، حقاً……حسناً، أعلم أن حبكَ جميلٌ ونقي، وأعلم أنه ليس حباً سهلاً. لكن……لا يمكنكَ أن تظل تخفيه إلى الأبد.”
“هذا أمرٌ يخصني وحدي.”
“الآن بعد وفاة الدوق، صارت كل المسؤولية على عاتقكَ.”
للمرة الأولى، خرج صوته جاداً وثقيلاً. فرد ريكايل ببرود،
“كلامكَ صحيح، لكنكَ تبالغ.”
“أنا صديقكَ، وما أقوله بدافع حرصي عليكَ.”
‘صديق؟ أي صداقة هذه!’
غصصت بابتسامةٍ مريرة وأفرغت رشفةً أخرى من النبيذ.
ثم تسللت ليلي ثانيةً إلى جواري و تحدّثت بخفوت،
“آنسة سوبيل، أظنكِ قد أكثرتِ من النبيذ.”
فضحكت بخجل ووضعت الكأس جانباً. فأنا أعلم أن هذا المقدار لا يؤثر بي.
عندها، تحدّث ريكايل وهو يقطع الحوار،
“على أي حال، ما يخص القصر وما يخص المسؤولية شأنٌ أعالجه أنا بنفسي.”
“شخصٌ ارتبط بخطوبة سرّية مع آنسة غامضة الأصل، آتيةٌ من دير؟ ويقول أنه سيتدبر الأمر بنفسه؟”
لم يمنح ريكايل حتى فرصةً للرد، بل تابع هجومه بلا توقف،
“ألا يهمكَ ما سيؤول إليه أمر عائلة أغريست؟ أنسيت بقاء سلالة هذه الأسرة؟ لهذا جئتَ بامرأة بلا أصل ولا نسب؟”
‘يا إلهي، ألم يتجاوز كل الحدود؟’
اشتعل الغضب في صدري، فرفعت الكأس وأفرغت فيه جرعةً أخرى.
ثم وضعت الكأس على الطاولة بصوت مسموع، فالتقطت عيناي نظرات تيرون.
“آه……أعتذر. كلامي كان فظاً، أليس كذلك؟”
‘هذا الرجل بحاجة إلى أن يُعاد إلى روضة الأطفال……لا، بل يحتاج إلى أن يُربَّى من جديد في بيته!’
لكن مهلاً……لست من النوع الذي يصمت إلى الأبد.
“بما أنكَ تعرف أنه فظ، فلتصمت إذاً.”
فتبدّل وجه تيرون في لحظة.
“ماذا قلتِ؟”
كنت أنوي الصبر، لكن لا……ليس بعد الآن.
فمن أجل ريكايل المسكين، الذي حُرم من حظ الوالدين والمال وحتى الأصدقاء، وجب أن أتكلم.
“أيها الرجل، منذ متى صرنا أصدقاء حتى تكلّمني هكذا؟ جلست أتحمّل هراءكَ، لكن حقاً لقد نفذ صبري.”
“آنسة سوبيل……!”
“سواء خُطب أحدهم سرّاً أو أعلن خطوبته، ما شأنكَ أنت؟ ها؟ أخبرني، ما الذي يخصكَ في الأمر؟!”
كلما تكلمتُ، كانت النار تتأجج في صدري أكثر.
لا أعرف إن كانت هذه ثمالةً أم غضباً، حتى أنني رفعت يدي لأمسح جبيني المتوهج، وفي تلك اللحظة لمحت ريكايل ينهض من مقعده.
“آنسة سوبيل.”
“كفى! حتى أنتَ تثير غضبي. لماذا تخفي الأمر؟ ما الذي يستدعي أن تخفيه؟ هل قتلتُ أحداً؟ هل ارتكبتُ جريمة؟!”
“يكفي. الأفضل أن تصعدي وتستريحي.”
“لا أريد! قلت لا أريد!”
“سنصعد الآن.”
“وإن ظهر وجهكَ أمامي من الغد فحسب، سأريكَ……!”
نهضت من مقعدي ألاحقه بخطى متمايلة، وفجأة……
‘هاه……صحيحٌ ما قالوه عن هذا القصر، إنه حيّ بالفعل.’
فالأرض، والجدران، والسقف……الكل يدور من حولي بلا توقف.
‘إنه يتحرك……حيّ، كل شيءٍ حيّ!’
“يا قصر أغريست……أشعر بالدوار. توقف أنت الآخر عن الحركة قليلاً!”
“…….”
“وأنتَ! يا أشقر الرأس القبيح هناك! قف مقلوباً مكانكَ ولا تتحرك أبداً!”
وما هي إلا لحظة حتى أسدل الظلام ستاره أمام عيني.
وهنا انتهى كل شيء.
_________________________
ودّعت الملاعب 😭😭😭😭
ليتها معطت شعره بعد دامها خاربه بالمره ✨
ريكايل بكره: ما اعرفس ولا تعرفيني
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 14"