4
نظرت إليانور كايل من خلف النافذة إلى ظهر المحامي وهو يغادر القصر.
يبدو أن أعمال مراجعة الوثائق، التي استمرت ثلاثة أيامٍ متتالية حتى اليوم، لن تنتهي بسهولة.
وبسبب قِصر النهار في هذا الفصل، كان ينسكب ظلامٌ كثيف فوق الظهر المغادر للقصر.
لم ترغب في أن تعرف سبب عدم بقاء المحامي في القصر رغم أنه لا بد أنه تلقى عرضًا بالإقامة. فسحبت نظرها بعيدًا.
الخزنة الخضراء التي تبدّل مالكها تغيّرت مع استقبال سيدها الجديد. تغيّرت كثيرًا، إلى حد أن القصر الذي عاشت فيه طوال حياتها بات يبدو غريبًا أحيانًا.
أشياء كثيرة تدخل وتخرج. أو بالأحرى، تُدخل وتُخرج.
حتى قبل تبدّل المالك، كان القصر يشهد تنظيفًا أو تجديدًا سنويًا مع قدوم الربيع، لكن هذا مختلفٌ تمامًا عن تلك المرات.
“….انتبهوا أثناء النقل!”
الأغراض التي يحملها العمال وهم يصرخون كهذا، يعرف الجميع دون حاجة للشرح أن قيمتها تفوق دخلهم السنوي بكثير، ولذلك هم في غاية الحساسية والخوف.
“هناك، قلتُ انتبهوا!”
نظرت إلى الأشياء التي تُخرج.
طائرٌ نادر كان يربيه إرنست غوين، والقفص المذهّب الذي يحتويه. آلةٌ موسيقية لصانع بارع لم تصدر صوتًا صحيحًا ولو مرة واحدة.
وبينها تبحث بعينيها عن أشياء تعرفها جيدًا، بينما تسند جبهتها إلى الزجاج.
في إحدى الأمسيات قبل يومين، أُخرجت أشياء القصر، وفي صباحٍ آخر أُدخلت أشياءٌ من خارجه.
أما ما يدخل، فيبدو بلا شك من مقتنيات دانييل غوين. ذوقٌ يشبه ذوق أبيه ويختلف عنه في آن، وكان ذلك مثيرًا للاهتمام.
تماثيل من الرخام الأبيض، لوحاتٌ تنقل الأساطير كما هي، نباتاتٌ نادرة أو عينات حشرات، جواهر باهظة الثمن—حتى النظر إليها يؤلم العين فتشيح ببصرك.
“…….”
لكن لا وجود لشيءٍ حيّ بينها. يمكن إدراك ذلك حتى دون التدقيق.
الضجيج غير مرحّبٍ به. و يبدو أن العمال تلقوا تعليماتٍ مسبقة، إذ لم يطأ أحدهم الطابق الثاني.
لا بد أن السبب هو ذاته الذي جعل إرنست غوين يفصل بين السلم المؤدي إلى الطابق الثالث وذلك الصاعد إلى الثاني.
“كل هذا من أجلكِ، يا نيل.”
كانت تتذكر ملامح إرنست غوين حين قال ذلك، ملامح لم تكن مطمئنةً تمامًا. الخوف الكامن فيها، ومعه بداية شعور التملك ولذته.
***
لم يكن إرنست غوين يحب أن ألتقي بالآخرين، لذلك لم أكن أتنقّل كثيرًا، لكنني كنت أتحرك في ليالي القصر الخالية من الأصوات.
وفي كل مرة كنتُ أفكر: يا له من مشهدٍ غير مضحكٍ أصلًا.
وبسبب ذلك، إذا أردتُ الذهاب من الطابق الذي تقع فيه غرفتي إلى الطابق الثالث، كان عليّ أن أنزل إلى الطابق الأول ثم أعود للصعود مجددًا.
ومن الغريب أن الطابق الثاني، نتيجةً لذلك، يظل هادئًا. لا تُسمع حتى خطوات.
أحيانًا فقط يُسمع صريرٌ خافت من السقف فوق رأسي، كأنهم ينقلون أثاثًا ثقيلًا في الأعلى.
إيزابيل، ولا ويسلي، لا أحد منهما في الجوار. فليس دانييل غوين وحده من أدخل مقتنياته إلى القصر. لا بد أنهما منشغلان بتعليم الخدم الجدد قواعد هذا المكان.
ابتعدت إليانور عن النافذة. و كانت جبهتها التي ظلت مسندةً إلى الزجاج طويلًا باردة.
أدارت رأسها. بيدٍ مبللة ببخار المرآة تلمس جبهتها الباردة، و نظرت إلى انعكاسها.
وسط هذا الاضطراب والخوف، كانت تبتسم لرؤية أمرٍ واحد مؤكّد.
لو لم يكن قد أدرك بعد ما يحتويه هذا القصر، لما أقدم بتلك الجرأة على إخراج المقتنيات.
وكذلك، رغم مرور أيام، لم يأتِ ليقول لي أن أرحل أو أنه سيطردني من القصر.
إذًا، لا داعي للقلق. لن يطردني….ولِمَ قد يتخلى عني؟ وأنا بهذا القدر من الجمال.
***
في صباح اليوم التالي، دخلت إيزابيل الغرفة وهي تحمل صندوقًا كبيرًا بين ذراعيها.
كان في الصندوق ملابس سوداء وحذاء.
وكانت تنظر إليّ وأنا أحدّق في الصندوق بصمت وتقول.
“يبدو أنهم يقصدون أن تتأنقي بلباسٍ رسمي.”
ستُقام جنازة. لا حاجة لأن تُقال هذه الكلمات لأفهمها.
مخملٌ سميك لامع، حذاء خروجٍ أرتديه لأول مرة.
اللون الأسود الذي سيجد مكانه لأول مرة في خزانة لم تعرف سوى البياض.
“…….”
ظللتُ أحدّق في الحذاء بصمت. و يبدو أن إيزابيل ظنت أنني لا أعرف كيف أرتدي الحذاء، فشرحت بهدوءٍ الطريقة.
“تفكين الرباط، تلبسينه، ثم تعيدين ربطه.”
كأنني حمقاء لم ترتدِ في حياتها سوى نعال البيت.
“أتظنين أنني لا أعرف هذا؟”
لم تجِب. واكتفت بإيقافي من مكاني بحجة التأكد من المقاس.
ألبستني الفستان الأسود، ثم رفعت شعري الذي اعتدت تركه منسدلًا، و أخفته داخل قبعة، و ضغطت على رأسي قبعةً سوداء تتدلى منها طرحةٌ كثيفة دقيقة النسج.
وحتى بعد ذلك، بدا عليها القلق، فعدّلت الطرحة مرارًا.
“لن أحضر أصلًا، فلمَ كل هذا التكلف؟”
“لكن…..”
التقت عيوننا، فابتسمتُ لها ابتسامةً خفيفة.
“هل سيتركني سيدي الجديد أخرج من القصر هكذا ببساطة؟”
لم أكن أتوقع أصلًا أن أحصل على إجابةٍ واضحة.
من بين سيل الكلمات التي كانت إيزابيل تفرغه، سمعت عن دانيال غوين ما يكفي ليبعث على السأم.
الابن الأصغر الذكي والوسيم. شخصٌ لا يسمح للآخرين بأن يمسكوا عليه نقطة ضعفٍ واحدة.
وأيًّا كان الأمر، فإن الظهور كاملًا بلا شقوق، بلا أسئلة يتركها خلفه للآخرين، أمر مؤذٍ إلى حدٍّ خطير.
“…….”
وهذه الخادمة الوفية التي لا تجرؤ على التلفظ بكلمةٍ سيئة عن الابن الأصغر الذي كان إرنست غوين يدللُه، عن السيد الجديد، كانت تلوذ بالصمت.
وعلى أي حال، بما أن الثياب والحذاء كانا ملائمين لجسدي تمامًا، بدلتُ ملابسي مجددًا إلى ثياب المنزل.
وهكذا، يولد أول لونٍ أسود في خزانتي التي لم تكن تعرف سوى البياض.
خزانةٌ كانت، حتى الآن، ممتلئةً بثيابٍ بيضاء خالصة، مطابقةٍ تمامًا لذوق شخصٍ ما.
ثيابٌ رغبتُ في تمزيقها عشرات المرات في اليوم، ومع ذلك لم أستطع إلا أن أرتديها.
غرفة ملابس لا تضم سوى ملابس منزلية، نعالٌ داخلي، أو فساتين ولائم، ولا تحتوي على أي ثياب خروج، ولا قبعات، ولا أحذية.
بياضٌ يُشعِر بالغثيان، يربك العقل، أبيض، أبيض، أبيض بلا نهاية.
“….لا تفكري بعمقٍ أكثر من اللازم. ستعاودكِ الحمى.”
قطعت كلمات إيزابيل الرتيبة أفكاري.
فوضعت يدي على ركبتي بعدما كدت، دون وعي، أرفعها إلى فمي لأعضّها، و نظرتُ إلى المرآة.
ثم تمتمتُ، كأنني أتكلم بدلًا عنها.
“لن يعرضوني على الآخرين. كيف يفعلون، وأنا بهذا القدر من الجمال.”
شعرٌ أبيض ناصع، عينان بلون البنفسج، بشرةٌ شاحبة.
“يا للسماء، أيّ نحاتٍ عبقري هذا الذي نحت بكل قواه ثم غرس جمشتين ليخرج هذا الشكل؟”
“حتى تلك الأميرة التي قيل أن جنيةً الجمال غارت منها، لن تكون أقل شأنًا من الآنسة كايل.”
إطراءات أسمعها إلى حد أن تتعثر بها قدماي، بلا أي إحساسٍ خاص، مديحٌ لا يُضحك ولا يحرّك شيئًا.
لو كان هناك من سيجلس على العرش، فهل كان يمكنني أن أجلس إلى جواره وأهمس له بشيء؟ ذلك مستحيل، فكلها خواطر لا طائل منها.
في النهاية، لا يبقى سوى ما يُرى بالعين، ويُسمع بالأذن، ويُمسك باليد.
أنا جميلة، والجميع يقول أنني جميلة، و ها أنا في هذا القصر. محبوسةٌ في هذه الغرفة، وفي هذا القصر الذي يبدو وكأنه سيظل مغلقًا إلى الأبد إن لم يكن هناك من ينظر إليه.
“بالطبع. فلماذا الحاجة إلى استحضار أفكارٍ مخيفة من الأساس؟”
“ولماذا قد أحتاج أصلًا إلى أفكارٍ مخيفة؟”
“…….”
إيزابيل، التي لم تجب، تركتني وحدي و غادرت الغرفة لتعود إلى شؤون القصر.
“أتمنى لكِ يومًا سعيدًا، آنستي.”
ألتقيتُ بعينيها من خلال شق الباب حتى قبل أن يُغلق تمامًا.
غادرت إيزابيل التي لا تنفي كلامي عن أنني لن أخرج من هنا. و كدتُ أسألها إن كنتُ أبدو مثيرةً للشفقة، لكنني أطبقتُ فمي و أدرتُ رأسي.
لو أجابت، لما استطعت أن أتلقى ردها بهدوء. فهي لم تكن يومًا ممن يشفقون، حتى على طفلةٍ صغيرة.
لن تتذكر تلك الطفلة التي كانت تبكي كل ليلةٍ خوفًا من الوحش، التي لم تكن تعلم أن الحبل الموصول بالجرس لا يتصل بأي شيء، فكانت تشدّه بلا نهايةٍ باحثةً عن خدمٍ لن يأتوا، و تهز الباب المقفل متوسلةً الخروج من الغرفة.
أظن أنني لن أحتملها لو قالت أنها تشفق علي.
حدّقتُ في صورتي داخل المرآة، و واصلت تبادل النظرات معها بلا انقطاع.
حتى مجرد التحديق يجعل أنفاسي تختنق.
أنا بهذا الجمال. ما زلتُ جميلة.
لكن، لماذا لا يأتي دانيال غوين لرؤيتي؟ لماذا لا يزورني؟
أتذكر المقتنيات التي رأيتها من خلال النافذة، تلك التي كانت تُرمى أو تُدخل تباعًا، الموكب الذي كشف بوضوح أن ذوقه مختلفٌ عن ذوق والده.
أأنا لست من ضمن ذوقه؟ هل سيتخلى عني كما فعل بتلك الأشياء؟ أم سيتركني مهملة؟
هل سأُنسى، مثل مقتنيات المخزن التي لم تُختَر، لا تُدخَل إلى مكانٍ ما ولا تُخرَج إلى مكانٍ آخر، بل تُترك فقط لتتراكم عليها طبقات الغبار؟
_______________________
اوتش محبوسه من يومها صغيره؟😔 وجع طيب خير مالها اهل؟
اخيرا قالت المؤلفه لون عيونها طلعت بنفسجي🤏🏻
تذكرت ذاك المرض اعتقد اسمه المهق؟ الي يخلي كل الشعر ابيض والبشره بيضااااء والعيون عشان نقص الصبغه اغلبها خضرا وزرقا بس فيه حالات نادره تصير بنفسجية
المهم يارب البطل يطلعها لو شوي😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 4"