3
المحامي ليس ممن يهوون نبش ما دُفن في الأرض. سواءً كان صندوق كنز أم جثة، فهل ثمة حاجةٌ لمعرفة ذلك؟ يكفي أن تُعرَّف ببساطة على أنها “شيءٌ مدفون”.
لكن من ينقب الأرض ليس الإنسان دائمًا.
كان يتذكر اللحظة التي واجه فيها إليانور كايل، كما يحدث حين ينبش كلب صيدٍ حفرةً فيرى ما لا ينبغي رؤيته.
كان ذلك في يومٍ كان فيه إرنست غوين ثملًا إلى حدٍ بعيد. الشيخ الذي فقد اتزانه من الثمالة أخذ يضحك ضحكًا أجوف، غير قادرٍ على كبح رغبته في التفاخر بما يملك.
“أتدري ماذا فعلتُ لأحصل على هذا الطائر؟ لا يمكنكَ حتى أن تتخيل!”
وهو ينظر إلى الطائر الملوّن المغرّد داخل القفص، واصل العجوز حديثه وهو يتمايل ثمالةً.
“توسّلتُ لذلك التاجر المتغطرس! أنا، أنا الذي توسّلت! لمجرد تاجرٍ وضيع!”
ثم أمسك بكتف جون ريدينغ، الذي كان يسايره بردودٍ فاترة، وتابع بنظرةٍ لامعة تفوح منها رائحة الشراب.
“يبدو أنكَ غير مستمتعٍ كثيرًا؟”
“….بفضل الكونت، اعتدتُ رؤية الأشياء الثمينة، فربما ارتفع بصري عن حدّه دون أن أشعر.”
“هاها! نعم، قد يكون ذلك. لكن لا ينبغي لكَ هذا. ألم ترَ بعدُ أثمن ما أملك؟”
ثم اتجه الكونت، وقد بلغ به الثمل، نحو الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني قائلًا أنه سيُريه أثمن ما لديه.
فتردد جون قليلًا، لكنه تبعه. لعلّه كان هو أيضًا ثملًا.
“بالطبع هي الأثمن. أثمن ما تكون. لا يمكن لجامع نفيساتٍ ألا يرغب في امتلاكها.”
استمع إلى تمتمات الكونت وهو يصعد الدرج مترنحًا، كأنها غناءٌ خافت، أو تعويذة، أو محاولة لإقناع شخصٍ ما.
“ستُسجَّل إلى الأبد في المرتبة الأولى من قائمة مقتنياتي. جميلةٌ، و ثمينة، و نادرة، وحيّة.”
صعدا الدرج المفروش بسجادٍ ناعم خشية السقوط، وهناك واجه الحقيقة.
وكما كان قد أشار إليها من قبل باسم “آنسة الطابق الثاني”، كان ذلك الطابق مساحة إليانور كايل.
لا يعني ذلك أنها كانت تملك كل أركانه أو تستخدمه وحدها. لكن أثرها كان موجودًا في الطابق الثاني فقط. و في أيٍ مكان آخر لم يكن هناك حتى أثرٌ لصوتٍ أو ظل.
وهكذا، ما رآه هناك كان أثر جنية. لا فطرًا دائريًا ينمو، بل أثر هوس، أو قهر.
اختلفت المسميات، لكن الجوهر واحد: آثارٌ حادة جارحة.
على الأبواب، وعلى الدرابزين الخشبي للسلالم، وعلى خدوش الأعمدة القديمة، وعلى أظرف رسائل مرسلها مجهول، كان الاسم محفورًا في كل شيء.
ومن خلال ذلك عرف اسم المرأة. ورأى وجهها الحقيقي.
كانت تقف أمامه وقد نُقش اسمها على جواربها، وحذائها، وأطراف ثوبها. وحتى الشريط الذي يربط شعرها الأبيض الناصع، المنسدل بسلاسةٍ على كتفيها على نحوٍ يبعث على القشعريرة، كان مطرّزًا باسمها.
وكذلك منديلاها، وكل موضعٍ في جواربها أو حذائها دون استثناء.
“حيّيه، يا نيل.”
إليانور. اسمٌ يحمل مسحةً عتيقة، حتى حين يُطرّز يبدو كقطعةٍ فنية قديمة أو نقشٍ موروث عبر الأجيال.
وهو يضع جون ريدينغ أمامها، تمتم الكونت الثمل.
“أنظر يا ريدينغ. إليانور هي جنية هذا القصر.”
لم يستطع جون ريدينغ أن ينطق، وبقي واقفًا في مكانه.
أما المرأة، غير مكترثة، فنظرت بالتناوب إلى الكونت والمحامي، ثم استدارت دون أن تقول كلمة، وسارت في الممر عائدةً إلى غرفتها.
“هاها. إليانور عنيدةٌ بعض الشيء.”
وكأن جمالها يعفيها من كل شيء، أنزل الكونت ريدينغ معه مجددًا إلى الطابق الأول.
لم تتشكل أفكاره إلا بعد أن اختفت المرأة. فقد كانت جميلةً إلى حد يُنسي التفكير، رغم احتفاظها بمسحة الصبا.
جنية. كما قال. كانت جميلةً حقًا.
كجنيةٍ هربت من وحشٍ أحبّها فتحولت إلى شجرة، أو كأميرةٍ أحبّها صبيٌ حاكم جاء ليلعنها، أو كصبيٍ سقط هلاكًا لأنه أحبها أكثر مما ينبغي.
“أليست أجمل ما في القصر؟!”
فهم مبالغة الكونت. لم يكن حماسياً بلا سبب.
ومع ذلك، حين نظر إلى شعرها الأبيض الناصع، خطر له تمثالٌ مصنوع من الجص.
وبعد موت الكونت، قام ابنه بتوظيف جون ريدينغ.
رجلٌ وسيم. يبدو كمن يعرف تمامًا كيف يبدو في أبهى صورة، ويتصرف وفق ذلك. يشبه أباه ويختلف عنه في آن.
رأى جون ريدينغ أن دانييل غوين شخصٌ لا يمكن فهمه، ومع ذلك يبدو شديد الشبه بشخصٍ ما.
عاد إلى هذا القصر بعد وفاة الكونت. وما إن دخل المكتب كما فعل في اليوم السابق، حتى وجد الشاب الوسيم جالسًا هناك. و لم يكن كبير الخدم ويسلي حاضرًا.
“….أنا جون ريدينغ.”
“آه، لقد وصلتَ.”
خلع قبعته وجلس على الكرسي المقابل للرجل. وكما في كل مرة، سيقضي اليوم يحتسي الشاي ويقرأ الأوراق المتراكمة أمامه وينظمها.
لم يكن دانييل غوين كثير الكلام، ولا هو كذلك، فعمّ الصمت المكتب.
ثم عاد كبير الخدم حاملًا أدوات الشاي، فخفف وطأة الصمت عن الرجلين.
“سيدي. آه، السيد ريدينغ هنا أيضًا.”
ملأ الخادم الفناجين. بينما وضع جون ريدينغ المستندات التي راجعها ونظمها أمامه.
كانت قائمة الأعمال الفنية التي ورثها دانييل غوين هائلة. ومن المؤكد أن تنظيمها سيستغرق وقتًا طويلًا.
لكن ضخامة العدد ليست وحدها سبب ذلك. فإرنست غوين، بغير لطف، لم يسجل سوى أسماء الأعمال الفنية ومصادرها بالكاد.
وحتى تلك الأسماء كثيرًا ما كانت اعتباطية، ما يعني أن مطابقة هذه القائمة بما هو موجودٌ فعليًا في القصر ستستغرق وقتًا طويلًا بحد ذاتها.
وفي أعلى القائمة، كما توقّع، وكما قال إرنست غوين، كان الاسم “إليانور”. أثمن وأجمل ما في هذا القصر.
“ألا بأس إن لم تلتقِ الآنسة؟”
“الآنسة؟”
عند سؤال السيد الشاب، واصل الخادم العجوز المتمرّس حديثه دون أن يبدو عليه الارتباك.
“أقصد الآنسة إليانور كايل.”
ارتفعت العينان العسليتان عن الأوراق لتتجه نحو جون ريدينغ، ثم عادت إلى الخادم.
و لم يستطع ريدينغ أن يضيف: “إن أباك كان جامعًا يقتني حتى البشر”، فاكتفى بإغلاق فمه.
فكما هو حال أي شخص، لا بد أنه عندما عثر على اسم “إليانور” في القائمة، ظنّها عملًا فنيًا يعبّر عن امرأةٍ تُدعى إليانور، لا أكثر.
“آه….إليانور.”
وهو يعاود النظر في المستندات، أنهى دانييل غوين تمتمته المشوبة بنبرةٍ غريبة، ثم التفت إليه وسأله،
“هل سبق لكَ أن قابلتها؟”
امتلأ فنجان الشاي الموضوع أمامه. وبعد أن صُبّ الشاي، أشار دانييل غوين بيده مرةً واحدة، فانصرف الخادم.
“قابلتها مرةً واحدة فقط. فهي….شخصٌ بالغ الندرة.”
قال ذلك وهو يتبع الخادم بنظره أثناء انسحابه. وما إن خرج الخادم حتى أُغلِق باب غرفة الاستقبال بإحكام. عندها فقط سأل الرجل.
“كيف كانت؟”
أمام عيني الابن الشبيه بالكونت الراحل، ظل جون ريدينغ يختار كلماته طويلًا.
في الأصل، جميع الجامعين مجانين. بشرٌ فيهم خلل، يتشبثون بجمال الأشياء أو قيمتها بتعلقٍ مرضي، ويولون الحالة الظاهرة الراهنة أهميةً مفرطة.
وكان قد سمع من قبل شائعاتٍ عن دانييل غوين. قالوا أنه جامعٌ هو الآخر.
وبعد تفكيرٍ طويل، وهو يواجه تلك العينين المتقدتين، أجاب أخيرًا.
“لا أدري. كانت جميلةً إلى حد يجعلها كائنًا يمكن لأي شخصٍ أن يحبه….حتى لو كان ذلك الشخص هي نفسها.”
إلى درجة لا يُستغرب معها أن تهلك غرقًا في نبعٍ يعكس صورتها.
وعند سماع هذا الجواب، ابتسم الرجل الوسيم كصبيٍ أغوى جنية. وكأنه هو الآخر على وشك أن يسقط في النبع.
_______________________
بعد البطل حلو لايكون عشان كذا ابوه يحبه اكثر؟🌝
وناسه يعني هو حلو وهي حلوه وش الكوبل الخرافي ذاه
المهم اليانور صدق جنيه؟ ولا قصدهم من جمالها؟ بس مسكينه يعاملها كأنها في بيت دمية حتى ملابها عليها اسمها! يخوف
صح مابعد قالوا وش لون عيونها صوح؟
التعليقات لهذا الفصل " 3"