كانت قد سمعت عن طقوس “الترهيب” في مجتمع النبلاء حيث تُستهدف فتاة واحدة لتُعزل دون سبب لكنها لم تتوقع أن يكون الأمر بهذه التفاهة والدناءة.
في السابق، كانت الشائعات غامضة تثير الضيق لكنها لا تُلمس، فكانت تسخر منها بصمت.
حتى حين تسمع الهمس عنها، كانت تظنه أثرًا شهرتها، لا أكثر.
لكن أن تكذب امرأة بالغَة أمامها مباشرة، وتُحوّر الحقيقة لتجعلها هي المذنبة؟! ذلك ما لم تتخيله.
أن تنحدر امرأة ناضجة إلى مستوى لا يجهله حتى الأطفال في الثامنة! كان ذلك مثيرًا للاشمئزاز.
أما من حولها، الذين صدقوا بلا تفكير، فكانوا لا يقلون سوءًا عنها.
ليس غريبًا إذًا أن يبقى مجتمع النبلاء فاسدًا.
بردت ملامح أليشيا، وصوتها اكتسب صلابة الحديد.
ــ «تقولين إني صفعتك؟»
رنّ الصوت الحاد من خلف فيفيانا.
«……»
تصلبت فيفيانا التي كانت تمثّل الحزن.
استدارت متفاجئة لتجد أليشيا لا تزال واقفة، وقد ظنت أنها غادرت مصدومة من الافتراء.
مهما كانت الشائعات، فإن أليشيا راين ما زالت تُعرف بأنها “الملاك”، دوقة الشمال القادمة، المرأة التي أذابت قلب الدوق الجليدي القاسي.
حتى من رآها في القصر لم يكن لينكر ابتسامتها الدافئة وأدبها الرفيع.
«آه… أـأنا…»
تلعثم الجميع.
وجهها الرقيق الوديع انقلب إلى وجه بارد كريح شمالية، تنبعث منه هيبة متجمدة أربكت الجميع.
فيفيانا، رغم استعدادها لسيناريوهات عديدة، لم تتوقع ذلك التحول المخيف.
ــ «سيّدتي أليشيا، ما الذي تقولينه فجأة؟ لم أقل شيئًا من هذا القبيل آه!»
لكن قبل أن تكمل تمثيل البراءة، صفعَتها أليشيا صفعة دوّت في المكان.
ــ طراخ!
شهقت الحاضرات.
«ماذا… ما هذا؟!»
تسعت الأعين من الدهشة.
في القصر قد تُحاك المكائد، لكن أن تُرفع يد علنًا؟ أمر نادر للغاية.
حتى النساء المحاربات بين النبلاء لا يجرأن على استخدام القوة داخل الحريم.
ــ «هل تظنين أني سمعتك خطأ يا ليدي فيفيانا؟»
قالت أليشيا بصوت هادئ لا يتناسب مع من صفع للتو.
فيفيانا تجمدت في مكانها، لم تستوعب ما حدث بعد، ودموعها انهمرت لا إراديًا.
ارتبكت السيدات والوصيفات من المشهد الصادم، لم يتخيله أحد.
ما بدأ كتلاسن تافه انتهى بعنف صريح في لحظة.
بعض الخادمات انسحبن خوفًا، وأخريات أسرعن لإبلاغ كبيراتهن.
ــ «كنتِ تتحدثين بطلاقة قبل قليل، ما بك الآن صامتة؟ قلتِ إنني صفعتك؟»
أطلقت أليشيا كلماتها، فالتفتت الأنظار بين فيفيانا وبينها.
لم يكن فيفيانا قادرة على النطق، والصفعة جعلتها في صدمة.
الكل رأى بأعينه ما حدث، مهما كانت الأكاذيب السابقة.
ــ «أنتِ من قلته بنفسك…»
تمتمت فيفيانا باكية، تحاول أن ترد لكن دموعها خانتها.
ــ «خيالك واسع حقًا. الصفعة التي وجهتُها لك كانت بخُمس قوتي فقط. قومي الآن، لأريك صفعة حقيقية بكل قوتي. لو كنتُ قد صفعتك حقًا من قبل، لما كنتِ قادرة على السير الآن.»
قالت أليشيا بنبرة فولاذية.
ساد الصمت، وبدأ الحاضرون يتراجعون ببطء.
حين سقطت فيفيانا، اهتز الأرضية تحتها قليلًا، مما زاد خوفهم من أن تكون أليشيا حقًا قادرة على ما تقول.
فيفيانا حاولت النهوض لكنها لم تستطع.
ــ «تحملت الكثير من الشائعات، لكن أن يُقال هذا أمامي مباشرة، وأنا بريئة؟ هذا تجاوز للحد. هل ظننتِ أنكِ ستفلتين بالكذب أمام صاحبة الشأن؟»
رن صوت أليشيا كسيفٍ في الهواء.
ــ «من تتهمين بنشر الشائعات؟ أتقصدينني أنا، يا ليدي أليشيا؟!»
رفعت فيفيانا صوتها محاولة استعادة كبريائها، فيما الحاضرات ازددن ابتعادًا.
كلهنّ بدأن يراجعْن في أذهانهن ما قُلْنه قبل قليل… هل وافقن فيفيانا أكثر مما ينبغي؟
ــ «قلتِ إنني صفعتك؟ حسنًا، الآن فعلتُها حقًا، وهكذا إن انتشرت الشائعات فستكون صادقة. الجميع سمع، صحيح؟ لقد صفعتك كما تقولين. والآن انهضي، سأصفعك ثانية، لكن بكل قوتي هذه المرة.»
زمجرت أليشيا بصوت منخفض، فارتجف الجمع.
ارتعشت عينا فيفيانا من الرعب.
في تلك اللحظة، سُمعت خطوات موكب آتٍ من بعيد.
ــ «جلالته الإمبراطور!»
عند صرخة الموكب، انحنت جميع الحاضرات فورًا.
ــ «نُحيي جلالتكم!»
ارتفعت الأصوات في انسجام، واغرورقت عينا فيفيانا بالدموع فرحًا، كأن النجدة قد وصلت.
تقدّم الإمبراطور بين الصفوف المنحنية.
ــ «جلالتك!»
نادته فيفيانا بصوت مرتجف.
قطّب الإمبراطور حاجبيه وأشار للجميع أن ينهضوا، ثم اقترب من المرأتين.
ــ «كونت إتشيفيريا، ليدي فيفيانا… ما الذي تفعلانه في جناح الحريم؟»
تجمّد الحاضرون مترقبين المشهد، فمهما كانت مكانة أليشيا، فلن تجرؤ على شيء أمام الإمبراطور.
لكن قبل أن تتكلم فيفيانا، أشار الإمبراطور بيده فأُسكتت.
تقدمت سيدة من قصر الإمبراطورة لتتحدث.
ــ «يا جلالة الإمبراطور، قالت ليدي فيفيانا إنها حاولت التودد إلى ليدي أليشيا لكنها قوبلت بالبرود، ثم إنها، بعدما حاولت مجددًا الاقتراب منها، صُفعت لأنها وقفت في طريقها.»
ارتجف وجه فيفيانا، لكنها لم تعترض.
ــ «ثم إن ليدي أليشيا أنكرت تلك المزاعم، واعتبرتها افتراءً، وصفعت ليدي فيفيانا مجددًا قائلة إن الشائعات صحيحة الآن، لأنها فعلت ما قيل عنها. وأضافت أن الصفعة كانت بخُمس قوتها، ولو استخدمت قوتها كاملة لما استطاعت ليدي فيفيانا المشي.»
كلما تقدمت السيدة في روايتها، ازداد وجه الإمبراطور قتامة.
ما فعلته فيفيانا لم يكن إلا مثالًا على التفاهة المعتادة بين النبلاء، لكن رد أليشيا كان شيئًا مختلفًا تمامًا.
ــ «هذه التفاهة بلغت من الانحطاط ما لا يُحتمل. خذوا السيدتين إلى قاعة المثول الصغيرة، وبما أن الحادثة وقعت في جناح الحريم، فالإمبراطورة هي من ستتولى الحكم. استدعوا مركيز مانرز ومركيز راين، وأفراد العائلة المالكة المقيمين في القصر. ولا يُسمح لأي غريب بالدخول. تفرّقوا جميعًا.»
قال الإمبراطور بصرامة.
ــ «أمرُك مطاع، جلالتك.»
انسحب النبلاء بسرعة عند سماع نبرته الغاضبة.
ــ «جلالتك، أنا بريئة…!»
حاولت فيفيانا الإمساك بثوبه، لكنّه صدّها ببرود.
ــ «ستُسمع شكاويك في حينها.»
ثم استدار مغادرًا، تاركًا وصيفات الإمبراطورة لمنع أي صدام آخر.
أحاطت الخادمات بالسيدتين، وتبعت أليشيا الموكب الإمبراطوري وهي تلعن في سرّها:
«اللعنة…»
أُعدَّت قاعة صغيرة للمساءلة، مستطيلة الشكل، تتصدرها مقاعد الإمبراطور والإمبراطورة، وحولها طاولات للمراقبين، وفي الأمام كرسيّان منخفضان لأليشيا وفيفيانا، دلالة خفية على الإهانة، لكن أليشيا لم تكترث.
دخل الإمبراطور والإمبراطورة معًا، يدًا بيد.
وكان مركيز لينوكس والكونت إيستيفنا حاضرين مسبقًا بأمر ملكي.
ثم دخل مركيز مانرز، رئيس الوزراء ووالد فيفيانا، فصرخ فور رؤيتها:
ــ «فيفيانا! لقد ضُربتِ؟ ماذا حدث بحق السماء؟!»
كان واضحًا أنه يُدلّل ابنته الصغرى.
فيفيانا، التي كانت تبكي تمثيلًا قبل قليل، بدت الآن تبكي حقًا وهي ترفع نظرها إليه.
لكن قبل أن تنطق، دوّى صوت الإمبراطور من مقعده العالي:
ــ «يا لورد مانرز، لم نحدّد بعد من المخطئ ومن البريء، اجلسْ ولا تُحدث ضوضاء.»
ــ «…كما تأمر، جلالتك.»
ksel081 حساب أنستا
Sel للدعم : https://ko-fi.com/sel08 أستغفر الله العظيم واتوب اليه
التعليقات لهذا الفصل " 40"