⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
«أليشيا.»
ناداها صوتٌ عميق بينما كانت غارقة في أفكارها.
«جرّبي هذا.»
استفاقت أليشيا من شرودها ومدّت يدها، تحمل قطعة بسكويت صغيرة نحو شفتي رايكهارت.
تردّد لحظة، ثم فتح شفتيه ببطء.
تابعته أليشيا بعينيها وهو يأكل البسكويت بصمت.
«لقد مرّ أربع وعشرون عامًا.»
قال رايكهارت بتردّد.
«عذرًا؟»
رمشت أليشيا بدهشة.
«هذه أول مرة يطعمني فيها أحد، منذ أن كنت في الخامسة من عمري.»
أطلق رايكهارت ضحكةً جافة.
ارتشفت أليشيا قليلاً من الشاي، ثم وضعت الفنجان برفق.
التقطت قطعة أخرى من البسكويت وقدّمتها إلى شفتيه اللتين لم تتذوّقا الطعام منذ ثلاثة أيام.
«خذ واحدة أخرى.»
تقبّل رايكهارت البسكويت بهدوء.
وبينما كان يمضغها، قال بلا مبالاة:
«لكن لماذا تنظرين إليّ بتلك الطريقة؟»
«لأنني أشفق عليك.»
قالت أليشيا بلهجة أكثر صرامة من أي وقتٍ مضى، وعيناها البنفسجيتان تلمعان بتأمّلٍ عميق وهي تنظر إليه.
في الجحيم، لم تشعر أليشيا بالجوع قط.
استغرقها الأمر قرابة عامٍ لتدرك ذلك.
وحين أدركته، قبلت أخيرًا بأنها ماتت حقًا.
لكنها لم تستطع التخلّي عن ارتباطها بالحياة، فحاولت أن تبتلع لحاء الأشجار والتراب.
لم يحدث شيء.
لم يُهضم الطعام، ولم تشعر بالغثيان.
وحين عادت إلى هذا العالم، حاولت تناول التراب مجددًا، لكن ما إن لامس فمها حتى تقيّأت بشدة وتخلّت عن المحاولة.
رؤية رايكهارت وهو يتلوّى من الألم أعادت إليها ذكريات تلك الأيام.
ومنذ الوجبة التالية، صارت وجبة خاصة تُحضّر أيضًا لرايكهارت.
كانت أليشيا تتناول طعامها بشكلٍ طبيعي، بينما تعتني به في الوقت نفسه.
مرّت ثلاثة أيام أخرى.
وخلالها، توصلا إلى الطريقة الأمثل لتناول الطعام وهما متشابكا الأيدي.
اعتادا على الأكل، وشرب الشاي، وتذوّق الحلوى بتلك الطريقة.
ثم مضت ثلاثة أيامٍ أخرى حافلة بالفوضى.
ورغم أن الألم لم يختفِ تمامًا، إلا أنه خفّ تدريجيًا مع طلوع الصباح.
حينها وصلت رسالة مفاجئة من العاصمة الإمبراطورية بادن.
كان الإمبراطور يخطّط لأن تلد امرأة ليست بإمبراطورة ولا جارية داخل القصر الإمبراطوري.
تلك المرأة الحامل كانت الليدي مود، ابنة المستشار.
أما والدها، المركيز ماينارد، فكان أعظم خصمٍ سياسي للإمبراطور وللدوق الأكبر تيسن.
وقد حان الوقت لتُلقي أليشيا نبوءتها الثالثة على رايكهارت.
عادةً، حين تصله رسالة طارئة من البلاط الملكي، كان رايكهارت يغادر تيسن في اليوم نفسه، يصطحب معه الحدّ الأدنى من الحرس فقط.
لكن بعد دورة «روا»، كان يتجنّب السفر لثلاثة أو أربعة أيام بسبب الأعراض اللاحقة.
ولأن الإمبراطور لم يكن يستدعي تيسن إلا حين تلوح الحرب في الأفق، فاستدعاؤه الآن كان يعني أن وجوده ضروري سياسيًا.
وكان واضحًا من توقيت الرسالة وطريقة تنظيمها أن البلاط قد أخذ وقت سفره بعين الاعتبار.
ومن ذلك أمكن استنتاج أن القصر يعيش حالة من الفوضى.
فتردّد الإمبراطور القويّ في اتخاذ القرار كان بحد ذاته دليلًا كافيًا.
الإمبراطور والإمبراطورة.
عائلة الإمبراطورة، دوقية إيشترن.
مكانتها بين الجواري والإماء في القصر.
الجواري القادمات من دولٍ أخرى في زيجاتٍ سياسية.
النبلاء الذين يوالون هؤلاء النسوة أو يدعمونهن.
قضية الخلافة كانت تهزّ أركان العاصمة الإمبراطورية وحتى تيسن البعيدة شعرت بارتداداتها.
لكن لم يكن في وسعهم فعل شيءٍ حالًا، فالمسافة بينهما ليست قصيرة.
حتى على صهوة أسرع الخيول، كان الطريق من تيسن إلى بادن يستغرق خمسة أيام.
وكالعادة، لم يستطع رايكهارت المغادرة فورًا.
ومع انتشار الخبر، عمّت القلعةَ حالةٌ من التوتر.
جادل هنريك وكوني بصوتٍ مرتفع بأن الاستعداد للرحلة سيتطلب ثلاثة إلى أربعة أيام على الأقل.
لكن رايكهارت أعلن أن دورة «روا» قد انتهت، وأنه سيغادر غدًا.
قال مبعوث الإمبراطور إنه سيستريح يومًا واحدًا، ثم يعود إلى العاصمة برفقة الدوق الأكبر.
وبإذنٍ من رايكهارت، أرسل المبعوث رسولًا يسبقهم ليخبر الإمبراطور بأن الدوق سيغادر غدًا.
أما هنريك وكوني، اللذان كانا يفرضان عليه فترة العزلة الصارمة، فقد قضيا اليوم يتجادلان خارج غرفته.
هنريك، الذي كان عليه مرافقة الدوق إلى العاصمة، ظل يسأله مرارًا عن صحته.
أما كوني، فكانت تبكي وتردد أن الإمبراطور بلا قلبٍ ليستدعي سموّه وهو ما يزال مريضًا.
ثم لم تلبث أن خنقها البكاء حتى صارت تبكي بصمتٍ كطفلةٍ ثكلى.
وخلال تلك الفترة، غاب جيمي عن الأنظار، لكنه كان يظهر كل فترة أمام الباب ليخبرهم بأخبار البارون والبارونة رينس.
قال إن والده هنريك حزم الجوارب فقط ونسِي السراويل، وأن والدته أحرقت كل المربّى وهي تخبز البسكويت، وأنهما أغرقا طاولة الشاي حين سكبا الشاي في أكوابٍ مقلوبة.
وفي الليلة الثانية من القمر الثاني، حين اختفت «روا» من السماء، توقف ألم رايكهارت المبرّح أخيرًا.
ومع ذلك، بقي الصفير في رأسه أعلى من المعتاد.
كان ذلك الصوت المزعج يؤلمه أكثر كلما غادر تيسن، وأحيانًا ترافقه آلامٌ حادّة.
لهذا السبب قرر وللمرة الأولى أن يؤجّل رحيله يومًا رغم أمر الإمبراطور.
أخبر أليشيا بأنه سيمضي الليلة بمفرده.
شكرها على مساعدتها، ووعدها أن يفي بوعده حسب اتفاقهما.
تجادل رايكهارت ورجاله طوال الليل، حتى انقضى سريعًا، وجاء الصباح.
وقفت أليشيا أمام غرفة الدوق الأكبر.
كان انتظارها إذن الدخول أمام الغرفة التي أقامت فيها لأيامٍ أمرًا غريبًا، لكنها ابتسمت بخفة حين أدركت كم سرّها أن تعتبرها «غرفتها».
«تفضّلي.»
قال هنريك وهو يفتح الباب مشيرًا إليها، وعيناه تُظهران شيئًا من الأسى.
«شكرًا لك.»
أومأت أليشيا بخفة ودخلت.
تابعها هنريك بنظراتٍ حزينة حتى أُغلق الباب.
كانت الغرفة هادئة على عكس ضجيج الليل الماضي.
حين غادرت أليشيا الليلة السابقة، بدا رايكهارت منهكًا، أما الآن فوجهه أكثر راحة.
«سموّك.»
«لا حاجة للألقاب. هل أنتِ مستعدة؟»
قال رايكهارت بينما همّت بالانحناء احترامًا.
«نعم.»
دعاها رايكهارت لمرافقته إلى بادن.
حتى لو لم يقل ذلك، كانت تنوي الذهاب.
فهي تعرف ما سيحدث.
لم يكن أحدٌ يتوقع ذلك، لكن ولادة مود ماينارد كانت وشيكة.
رغم أن الإمبراطور وعائلة ماينارد زعموا أنها في شهرها الثامن، إلا أن الطفل سيولد قبل الربيع.
رفعت أليشيا نظرها إلى رايكهارت الذي لم يكن قد ارتدى معطفه بعد.
«لماذا تنظرين إليّ هكذا؟»
ابتسامته، وقد زال عنها شحوب المرض، بدت مألوفة الآن.
«لأنني أشفق عليك.»
«ليس لذلك أطلب مرافقتك.»
ضحك رايكهارت بخفة على صراحتها، ثم أضاف:
«سموّك.»
«نعم؟»
كان يختار زوجًا من القفازات الجلدية.
ظنّت سابقًا أن كل القفازات متشابهة، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد صُفّت عشرات القفازات السوداء المتقنة في صفوفٍ منتظمة.
اقتربت أليشيا منه وقالت:
«كنت أفكر.»
«في ماذا؟»
«في الألم الذي تشعر به في أوقاتٍ محددة، وكيف يزداد حين تغادر تيسن. قلتَ إن الأمر يتحسّن عندما أمسك بيدك أو ألمس موضع الألم. وقلتَ إن اللمس المباشر أفضل من خلال القماش، وأن الجلد يمنع التأثير تمامًا، أليس كذلك؟»
كانت عيناها البنفسجيتان ثابتتين وهامدتين وهي تنظر إلى القفازات.
«لا بأس.»
اختار رايكهارت ثلاثة أزواجٍ متشابهة من القفازات السوداء، وأمال رأسه قليلًا، وكأنه يمنعها برفق من لمس جبينه.
كان مستعدًا لارتداء القفازات وتسلق أعلى مكان إن لزم الأمر.
«بل ليس الأمر بخير.»
ما إن أنهى اختياره واستدار ليغادر، حتى وقفت أليشيا بسرعة أمامه.
«أليشيا.»
«اسمح لي لحظة.»
كان على وشك أن يؤكد لها أنه بخير فعلًا، فمع أن الصفير في رأسه ما يزال يحدث أحيانًا داخل تيسن، إلا أن الأعراض كانت تتراجع، وكان متأكدًا أن حاله سيتحسن قبل الرحلة.
لكن قبل أن ينطق، اقترب جسدها الناعم من صدره دون إنذار.
كانت صغيرة بالمقارنة معه ليست قصيرة، لكنها ليست طويلة أيضًا.
تجمّد رايكهارت في مكانه، وعيناه متسعتان بدهشة.
ألصقت أليشيا ذراعيها حول كتفيه العريضتين وحاصرته بذراعيها.
لم يتحرك، ولم يبادلها العناق.
كل ما فعله هو الوقوف صامتًا، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.
«كيف هو الآن؟»
همست بصوتٍ ناعمٍ قرب أذنه.
«ما الذي تعنينه؟»
أجابها تلقائيًا، وكأن الكلمات خرجت منه دون وعي.
انزلقت يداها ببطء عن كتفيه، وتلاشت حرارة جسدها التي كانت تلامسه.
«الصوت في رأسك.»
رفعت نظرها إليه، تنتظر الإجابة.
تجمّد وجهه للحظة، ثم بدأ وعيه يعود تدريجيًا.
وأدرك عندها أن ذلك الصفير المزعج في رأسه قد اختفى تمامًا.
«…إنه بخير.»
«صحيح؟ كنت أظن أن مساحة التلامس الأكبر ستكون أكثر فاعلية. في الحالات الطارئة يمكننا المحاولة بهذا الشكل.»
قالت أليشيا بابتسامةٍ خفيفة وكأنها تتحدث عن أمرٍ عادي.
لكن رايكهارت سارع بالرد:
«لا حاجة لذلك.»
كان ما يزال بلا قفازات، وهمّ بارتدائها، لكنه بدلًا من ذلك، وتحت نظراتها، وضعها في جيبه الخلفي.
«سموّك.»
التفتا معًا عند سماع الصوت القادم من الخارج حان وقت الرحيل.
«تحدثي.»
انحنت أليشيا انحناءة رسمية وهي تتراجع خطوة إلى الوراء.
وقبل أن يردّ، قالت وهي تبتعد خطوة أخرى:
«اركب عربتي.»
كانت نبرتها حازمة إلى حدٍّ بدا كالأمر.
«ولماذا أفعل ذلك؟»
كان قد قضى الليلة الماضية يرفض بشدة إلحاح هنريك وكوني بأن يركب مع أليشيا حتى دون حديثٍ معها.
ورأى أن ركوبه عربتها في اليوم التالي سيبدو سخيفًا.
«لقد عانقتك، أليس كذلك؟»
قالت أليشيا جملةً لو سمعها أحدٌ لأساء فهمها تمامًا.
فأجابها بسرعة:
«أليشيا »
«كان ذلك أكثر فاعلية من الإمساك باليد، أليس كذلك؟ لقد عقدنا اتفاقًا: في كل مرة أمسك فيها يدك، تفعل ما أطلبه منك. والآن أستأذنك.»
التعليقات لهذا الفصل " 33"