«لا يمكن فتح الممر إلا إذا أُزيل القفل من جهة غرفة الدوق… والأمر نفسه من الجهة الأخرى.»
«إذن أبقه مفتوحًا.»
قالت أليشيا بحزم، وهي ما تزال تشعر بالدوار من الركض في الوقت المحدود.
كانت أنفاسها سريعة، وخدّاها متوهّجان بلونٍ ورديّ بسبب الجهد.
«حسنًا.»
أجاب رايكهارت بخضوعٍ لطيف، ودفن وجهه أكثر في الوسادة.
منذ ذلك الحين، قلّلت أليشيا من حركتها قدر الإمكان أثناء بقائها إلى جواره.
كانت وجبات الطعام، وتبديل الملابس، وحتى الاستحمام، تُؤدَّى بسرعةٍ وهدوء.
الوجبات كانت الأسهل، إذ لبّى هنريك وكوني كل طلباتها بدقّة وإخلاص، وكانا يقدّمان بين الوجبات صواني شاي أو قطعًا صغيرة يسهل تناولها.
أما ملابسها فصارت أبسط يومًا بعد يوم.
استبدلت فساتينها المعقّدة بملابس عملية، وأحضرت صندوق مجوهراتها إلى غرفة الدوق لتزيّن نفسها بلمساتٍ خفيفة: خواتم، أساور، عقود، أقراط، قطع شعر، وبروشات. من دونها، كانت تشعر وكأنها ستذوب بين فخامة السرير وحضور رايكهارت الطاغي.
أما الاستحمام، فكان الجزء الأكثر إزعاجًا.
فمهما أسرعت في غسلها، كانت تعود لتجده يتنفس بصعوبة تحت وطأة الألم.
وحين أعربت عن قلقها، قال شيئًا سخيفًا:
«سأكون بخير لفترة قصيرة، اذهبي.»
كان قوله جنونيًا، ومع ذلك لم تستطع التخلي عن حدٍّ أدنى من الكرامة البشرية، فكانت تغادر على مضض.
أما هو، فكان لا يأكل ولا يغتسل، ومع ذلك يبقى على قيد الحياة.
يمكنه قضاء يومٍ كامل دون أن يشرب قطرة ماء، ونادرًا ما ينام فقط يغفو حين تخفّ وطأة الألم للحظات.
ومراقبته أعادت إلى أليشيا إحساسًا غريبًا، كأنها عاشت ذلك من قبل. ففي الجحيم، كانت هي نفسها على هذه الحال؛ لا تأكل، ولا تنام، إلا حين تُهزم جسديًا تمامًا.
مرّت ثلاثة أيام كأنها لحظة.
كانت أليشيا تتناول قطعة بسكويت بالشوكولاتة من صنع كوني هشّة من الخارج، رطبة من الداخل.
«ماذا؟»
قالت، نصف فمها ممتلئ ببسكويتٍ ضخم بحجم وجهها، وهي تحدّق بدهشة في رايكهارت.
«لقد مضت أربعة أيام… بقي لنا ستة أو سبعة بعد.»
قال رايكهارت بهدوء، بينما كانت فتاتة صغيرة من البسكويت تلتصق بطرف شفتيها الممتلئتين، تشدّ انتباهه بلا رحمة.
«أتقول إن هذا يستمر عشرة أيامٍ كاملة؟!»
لحسن الحظ، لعقت أليشيا شفتيها ومسحت الفتات، لكن ملامحها كانت تعبّر بوضوح عن ضيقها.
«نعم، أعتذر.»
قال رايكهارت معتذرًا، لكنها هزّت رأسها.
«لم أقل ذلك لأجل اعتذار.»
ثم تمتمت في ضيق وهي تلتهم قطعة أخرى:
«عشرة أيام… عشرة كاملة؟»
بعد أن أنهت الكعكة، ارتشفت شايًا عطِرًا بنكهة زهرية رقيقة. وحين تغرق في التفكير، كانت تنسى الشاي تمامًا… ثم تتناوله فجأة كما لو كان ماءً.
تلاقت نظراتهما في صمتٍ مريح.
وضعت أليشيا كوبها برفق وقالت بنبرة عادية:
«ألست جائعًا؟»
«لست كذلك.»
خلال تلك الأيام الثلاثة، تقاربت أليشيا ورايكهارت على نحوٍ لم تتوقّعه.
حين كان ينهكه الألم وينام، كانت ترعاه بصمت.
وحين تغفو هي من الإرهاق، كان يراقبها بعينيه الذهبيتين الدافئتين.
روى لها عن الوضع السياسي حول تيسن والعشائر المنتشرة عبر القارّة، وعن بُنية كل عشيرة، وقوة زعمائها، وطرائق تدميرهم الفعّالة. تحدّث عن الكنوز المفقودة، والقطع الأثرية التي يملكها كل بيتٍ نبيل، وعن لوحات العائلة الإمبراطورية، والقصص خلف بورتريهاتهم.
شرح لها كيف تختار الرسّام المناسب، وذكر أسماء فنّانين موصى بهم. وأخبرها عن طباع الإمبراطور والعائلة الملكية، وكيف يجب أن تتصرّف أمامهم.
ثم عن الأكاديمية الملكية وحكايات مبارزاتها التي كانت تثير ضحكها الهادئ.
كلّما حكى، أصغت إليه بشغفٍ صادق.
تلمع عيناها البنفسجيتان حين يروي عن المبارزات والكنوز، وتغدو نظرتها شاردة حين يصف لوحات القصور.
وشهدت شيئًا لم تتصوّره قطّ مدح رايكهارت تيسن الكامل لها.
كلّما سألته بقلق إن كان بخير أو يتألّم، كان يقبض على يديها بكلتي يديه ويُشبه نفسه بالمصلّي الورع، في مشهدٍ أقرب للسخرية منه للخشوع.
لكن هذا هو الرجل نفسه الذي رفضها مرتين. حتى مع قربهما الآن، كانت تذكّر نفسها دائمًا بأن لا تنسى ذلك.
أحيانًا، كانت تحدّق فيه طويلًا.
«لماذا تنظرين إليّ هكذا؟»
«لأنني أشفق عليك.»
ابتسم رايكهارت لمخطوبته المتعجرفة وقال بهدوء:
«نعم، أنا مثير للشفقة… لذا، لا تتركي يدي.»
«يا صاحب السمو.»
«تفضّلي.»
لم تُحوّل أليشيا بصرها عنه وهي تقول:
«حين لم تستطع إمساك يدي، كيف تحملت عشرة أيامٍ كاملة؟ أليس لديك دواءٌ أخير لحالاتٍ كهذه؟»
«ليس لدي.»
تبدّلت ملامحها إلى الجدية.
ثم حرّر رايكهارت اليد التي أقسم ألّا يتركها، وهمس:
«لحظة فقط.»
وما إن ترك يدها حتى انعقدت ملامحه تحت موجة ألمٍ حادّة.
«يدك…»
«قلتُ إنها لحظة فقط. لن أهاجمك.»
قال بثقةٍ هادئة، ثم أخرج خنجرًا من خاصرته.
تجمّدت أليشيا من المفاجأة مريضٌ طريح الفراش يحمل سلاحًا؟!
لكنّ المشهد التالي كان أدهى.
دار الخنجر اللامع في الهواء، ورفع رايكهارت كمّ قميصه، ليكشف عن معصمٍ أملس خالٍ من أي أثر… ثم غرس الخنجر في معصمه مباشرةً.
«…!»
كان المشهد صادمًا.
وحين سحب النصل، سال خيط رفيع من الدم… لكنه اختفى فورًا، والتأم الجرح في لحظة.
شعرت أليشيا بقشعريرة تسري في جسدها.
«أرجوكِ… لا تهربي.»
قال بصوتٍ خافت بعد فوات الأوان.
لكنها لم تتحرك.
اكتفت بمشاهدته ينظّف الخنجر ويُعيده إلى مكانه، بصمتٍ ثقيل.
ثم مدّ يده نحوها مجددًا، فأذعنت دون كلمة.
«أنا فقط أستبدل ألمًا كبيرًا بألمٍ أكبر منه مؤقتًا.»
قال ذلك بهدوء، وعيناه تراقبان وجهها الخالي من الانفعال.
كانت عيناها البنفسجيتان تتابعان يده ثم ذراعه السليم، بجرأةٍ صافية لا تخشى شيئًا.
«الجرح… لقد…»
قالت بصوتٍ خافت، غير متأكدة من قدرتها على تكوين جملة صحيحة.
«لا أعرف السبب أنا أيضًا.»
ردّ عليها بخمولٍ هادئ.
كانت الكلمات التي أرادت قولها على طرف لسانها
«ولا أنا.»
لكنها كتمتها بأسنانها.
تأمّلها رايكهارت، مدركًا أن من يرى حالته تلك لا بد أن يصفه بالشيطان أو الوحش.
إلا أن وجهها لم يُبدِ اشمئزازًا ولا خوفًا فقط فضولًا خالصًا.
هل جربتَ الجحيم؟
كانت تلك الجملة تدور في ذهنها بقوة، لكنها قاومتها.
لم يكن من الحكمة الكلام قبل أن تهدأ أفكارها.
أما هو، فكان واضح الانزعاج من نظرتها الثابتة، وأطلق صوتًا خافتًا من حنجرته.
لكنها لم تُحوّل بصرها.
قال ساخرًا بنبرة شبه هامسة:
«لست شيطانًا، ولم أزر الجحيم، ولا أظنّ أن حالتي معدية.»
فكّرت أليشيا بمرارة:
لم تذهب إلى الجحيم، أليس كذلك؟ أما أنا… فقد ذهبت.
لم تبتسم. نظرت حولها بعينٍ باهتة، يغمرها شعورٌ بالظلم والمرارة.
لقد كنتُ هناك… في الجحيم.
راودتها رغبةٌ حارقة بأن تقولها بصوتٍ عالٍ، فقط لترى وقعها عليه، لكنها كتمتها بقوةٍ قاهرة.
تلاشت شدّة نظرتها أخيرًا، لكن بداخلها إحساسٌ غريب بالنصر البارد.
كيف تعرف أنك لست شيطانًا؟ وكيف تجزم أنها ليست معدية؟ أنا كنت مثلك… وماذا لو..
لكن الفكرة تبخّرت كما ولدت، كالدخان.
تحوّلت أفكارها سريعًا؛ ففي لحظة واحدة أدركت أن رايكهارت، رغم ضعفه، خصمٌ لا يمكن المساس به.
التعليقات لهذا الفصل " 32"