أستغفر الله العظيم واتوب اليه
⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
اعتذر رايكهارت بأدب وغادر غرفة الطعام.
ظلت أليشيا مذهولة، غير مصدّقة أنها لن يُسمح لها بالخروج للصيد رغم أنها ستقيم في القلعة الرئيسية الآن. بالكاد استطاعت أن ترد.
لم تدرك غرابة كلامه إلا بعد أن أنهت كوبين من الشاي.
«تأكدي من إغلاق باب غرفتك حين تنامين.»
كانت جملة غريبة، لا علاقة لها بالحديث.
تمتمت أليشيا لنفسها:
«يا له من كلامٍ عجيب.»
ضحكت البارونة كوني من آل رينز ضحكة صغيرة وهي توافقها الرأي:
«حقًا، إنه رجل يثير الغيظ، غيظ لا يُطاق.»
كانت تبتسم وهي تتحدث، لكن وجهها كان يفيض غضبًا خفيًا لم تفهم أليشيا سببه.
«أه… أهو كذلك؟»
«نعم! لحسن الحظ أنك امرأة صادقة يا سيدتي.»
لم تفهم أليشيا تمامًا ما تقصده، لكنها اكتفت بابتسامة لطيفة وتجاوزت الأمر.
على أي حال، ابتداءً من هذه الليلة، ستقيم في القلعة الكبرى لدوق تيسن.
حلّ الليل عميقًا.
لكن داخل مكتب الدوق الأعظم، كانت الأنوار لا تزال مضاءة.
مصابيح ناعمة وزعت حول المكان، ولم يكن يُسمع سوى صوت الريشة تخطّ الحبر على الورق.
توقفت اليد التي تمسك بالريشة.
وضع رايكهارت القلم جانبًا، ومرّر أصابعه على حافة المكتب.
انزلقت الريشة الموضوعة بخفة في حاملها، وتدحرجت على سطح المكتب.
طَق.
تحرك كرسيّه الثقيل إلى الوراء ثم انقلب بصوتٍ عالٍ.
تأرجح شمعدان رفيع كان مثبتًا على طرف المكتب كما لو ضربته ريح، واهتزّ اللهب كأنه على وشك أن ينطفئ، لكنه سرعان ما استعاد وهجه.
أمسك رايكهارت بحافة المكتب، وانبسطت عروق يده من شدّة قبضته، لكن قبضته سرعان ما تراخت.
ارتجف الشمعدان مرة أخرى، وارتطم جسده الضخم بالمكتب المنحوت بإتقان.
بعد لحظات، انهار رايكهارت على جانبه.
دَوِيّ مكتوم.
حاول أن يُبقي عينيه على اللهب المتراقص، لكن رؤيته سرعان ما تلاشت، وغرقت عيناه في الضباب.
زفر نفسًا حارًا وتقلّص وجهه من شدّة الألم.
تلاشى وعيه، وغمر جسده كله لهيب من الألم المشتعل.
حلقه جفّ كأنه احترق، وفي الوقت نفسه أخذ جسده يبرد على نحوٍ مرعب.
لهث رايكهارت، محاولًا التقاط أنفاسه، وقبض يده بكل ما تبقّى له من قوة.
لكن ألمًا حادًا طعن مؤخرة رأسه، فارتجف جسده بشدّة، وبدأت يده المرتجفة تنفتح ببطء.
وخز مؤلم، كإبرٍ دقيقة، اخترق أطراف أصابعه وقدميه.
وشيءٌ ما راح ينهش أعماق عقله الفارغ، يصاحبه طنين حاد أشبه بأزيز حشرةٍ داخل جمجمته.
كان الألم مألوفًا… مرعبًا كما في كل مرة.
لكن هذه المرة كان مختلفًا أشدّ فجائية.
لم يحن أوانه بعد.
فالألم الذي يأتي مع القمر الثاني «رُوا» لم يكن يظهر إلا عند طلوعه.
لكن «رُوا» لم يكن قد أشرق بعد.
تشنّج جسده وهو يتصارع بين الحمى والبرد، وأجبر نفسه على التنفس.
«سيدي الدوق!»
صوت هنريك جاء من خلف الباب لا بد أنه سمع السقوط وهرع إليه.
«لا… تقترب!»
خرج صوته مبحوحًا، جافًا كأنه يحتضر.
كان حلقه يحترق، يخشى أن يتكلم أكثر فيتفجر دمه.
كل مرة كان الألم يسحقه، يتركه كظلّ رجلٍ محطم.
يتلوى على الأرض، يئنّ، ويتمنى الموت.
«سيدي، أرجوك، نادِني إن احتجت شيئًا!»
لكن رايكهارت صرخ بجهد:
«اتركوني… جميعًا!»
بصعوبة، حاول أن ينهض وسط العذاب، وسحب خنجره من خصره، وغرسه في ذراعه.
انطلقت صدمة ألمٍ خاطفة عبر معصمه المرتجف.
وحين سحب النصل، لم يتدفق دم، بل أخذ الجرح يلتئم ببطء.
لم يُفاجأ بالمشهد الغريب فقد اعتاد جسده على هذا منذ زمن.
اتكأ على الخنجر كعصًا ونهض متعثرًا.
كان عليه أن يعود إلى غرفته قبل أن يفقد وعيه تمامًا.
لكن المسافة القصيرة بين مكتبه وغرفته بدت بلا نهاية.
راح يلعن بصوتٍ خافتٍ كل ما يعرف من كلمات السخط.
لو رآه أحد الآن، لأصابه الفزع.
وفي الممر الطويل أمام غرفته، ضرب ظهر يده بالخنجر مرتين، متحاملًا على الألم والغضب.
أضرم الجفاف في حلقه نارًا من السخط.
صرخ في العدم، لعن الجميع بلا هدف.
أخيرًا وصل إلى غرفته وانهار على السرير.
انكمش جسده، متكورًا على نفسه، يتمتم:
«اللعنة… على كل شيء…»
بين الدوقات السابقين من آل تيسن، حاول بعضهم استدعاء أطباء من كل البلاد، بحثًا عن دواء يخفف هذا العذاب، لكن دون جدوى.
لم يجدوا دواءً يسكّن الألم، ولا سُمًّا يميت الإحساس.
كانت الصلاة بلا فائدة، واللعنات أكثر عجزًا.
منهم من دمّر كل ما حوله، ومنهم من مزّق جسده بيديه.
لكن حتى هذا كان يدوم قليلًا… فالألم يمنعهم من الحركة.
أما رايكهارت، فكان يطعن نفسه فقط حين يضطر.
كان يسكب كراهيته كلّها في لعن الإمبراطور الراحل، أبيه، الذي أورثه هذا الدم الملعون.
كان يندم لأنه لم يقتله وهو حيّ.
تذكّر وجهه وهو يداعبه كمن يحاول التكفير عن ذنبٍ قديم.
غضب منه لأنه جعله وريثًا وحيدًا.
تذكّر إخوته الذين أحبّوه، والنبلاء الذين عاملوه كأداة.
عضّ شفته حتى سال الدم… ثم شُفيت على الفور.
«سأقتلهم جميعًا…»
تمتم بها بلغته الغامضة تعويذة يكررها كل ليلة عذاب.
كل يومٍ يمر كان كالسنة.
وكان يعلم أن أمامه عشرة أيام أخرى من الجحيم.
«نعم… سأقتلهم جميعًا…»
أنّ وهو يكرر وعده الذي لن يتحقق.
تمنى أن يخف الألم كفاية لينام، أو يشتدّ سريعًا فيفقد وعيه.
في تلك الليالي، كان يخشى أن يفقد السيطرة فيقتل من يقترب.
كان الألم يحوّله إلى وحش.
وحين يغضب، يكره العالم بأسره.
وحين يكره، لا يعود قادرًا على تقييد نفسه.
كانت ليالٍ يتمنى فيها أن يقطع كل من يراه بالسيف… فقط لأنهم بشر.
ومع ذلك، وسط العذاب، أبقى رايكهارت الجميع بعيدًا.
مرت الساعات ببطء قاتل… ببطء لا يُحتمل.
ثم جاء الفجر… ومعه المطر.
انهمر كالسيل، كأن السماء انشقّت.
برقٌ ورعد، وأمطار لم يعرف مثلها تيسن من قبل.
استيقظت أليشيا على وقع المطر والبرق.
كان الصباح رطبًا وباردًا.
«ما أبرد الجو…»
احتست أكوابًا متتالية من الشاي الذي أحضرته ديزي، وهي تتذمر من البرد.
وفجأة تذكّرت قول رايكهارت بأنه لن يُسمح لها بالخروج للنزهة، فتساءلت:
«هل كان يقصد هذا الطقس؟ لكن… كيف عرف؟»
ثم ابتسمت لنفسها فقراره بالبقاء في البيت لم يُنفذ بعد؛ يبدأ غدًا.
«سيدتي.»
دخلت ديزي تحمل صندوق مجوهرات كبيرًا، وخلفها آني تحمل قبعات خفيفة الزينة، وليز تحمل معاطف المطر ومظلات منسّقة الألوان.
كانت أليشيا تستعد لزيارة منزل بريغيه.
ارتدت بالفعل ثوب الصباح الذي اختارته البارحة، وشُدّ شعرها بعناية.
لكن وصيفاتها الثلاث أوقفنها، كأن نهاية العالم ستحلّ لو خرجت بلا زينة.
لم تكن أليشيا تكره المجوهرات، لكنها لم تجد داعيًا للتكلّف في يوم كئيب كهذا. وحين قالت إنه لا أحد مهمًا ستقابله اليوم، أجابوها فورًا:
«ستقابلين صاحب السمو الدوق!»
«إذن… هذه، وتلك، وهذه أيضًا.»
اختارت قطعًا عشوائية من الصندوق دون اكتراث، متجاهلة نظراتهنّ المتحفظة.
ثم جاء دور القبعات.
لم تجرؤ أن تسأل إن كانت القبعات للزينة أم لحماية الشمس فهي تعلم أنهنّ سيوبخنها. فأشارت فقط إلى قبعة داكنة اللون، بدت صالحة للأمطار.
أما معطف المطر، فقد اختاروه هنّ الأكبر حجمًا، والأثقل وزنًا، وأضيفت إليه مظلة ضخمة.
«لن أموت لو ابتللت قليلًا!»
تذمرت أليشيا في نفسها وهي تخرج.
كانت الأمطار غزيرة إلى درجةٍ أن حتى مع القبعة والمعطف والمظلة، ابتلّ خدّاها.
عند المدخل، كانت كوني بانتظارها بابتسامتها المعتادة، فتناولت منها القبعة المبللة قائلة:
«سيدتي.»
سألتها أليشيا وهي تخلع المعطف:
«ألم يستيقظ سموّه بعد؟»
ترددت كوني قليلًا قبل أن تقول:
«يبدو أن سموّه مريض…»
رفعت أليسيا حاجبيها دهشة فالدوق الذي لُقّب بالشيطان، والذي قاتل في اليوم التالي لطعنةٍ في جنبه، لا يمرض!
«الطبيب؟»
أجاب هنريك وهو يقترب منها:
«زارَه بالفعل وانصرف.»
«هل حالته خطيرة؟»
تجنّبت كوني النظر إليها، واكتفت بجمع القبعة المبللة جانبًا.
قال هنريك بنبرةٍ لطيفة:
«إنه ليس بخير. ينام الآن. لا يعتاد المرض، وإذا مرض لا يسمح لأحد بالاقتراب. يقولون إنه يصبح كالطفل حين يمرض.»
كانت كلماته تحمل شيئًا من المزاح الخفيف، لكنها أوحت بأن لقاء الدوق اليوم مستحيل.
«لا بد أن البارونة رينز تعاني الأمرّين معه إذًا.»
ضحك هنريك:
«بل هو عذاب حقيقي. مؤسف أنك جئتِ في مثل هذا الطقس ولم نتمكن حتى من تقديم فنجان شاي. أعتذر بشدة يا سيدتي.»
«حتى الشاي لن تقدموه؟»
انحنى هنريك بعمق وقال بجديةٍ تامة:
«خالص اعتذاري، يا سيدتي.»
Sel
للدعم :
https://ko-fi.com/sel08
أستغفر الله العظيم واتوب اليه
التعليقات لهذا الفصل " 28"