4
كان دايل يبدو أكثر ارتباكًا منها، يمسح كفَّيه المبللتين بقلقٍ على سرواله المرهَق مرارًا قبل أن يتمكّن من فتح فمه أخيرًا.
“…لَمْ تنسي ما درستِه حتى الآن، أليس كذلك؟”
“بالطبع لا.”
“وكيف كانت السيّدة إليزابيث تتحدّث عادةً؟”
“كانت متغطرسة و… سليطة اللسان.”
“بالضبط! فظةٌ إلى حدٍّ لا يُطاق!
من ذلك النوع الذي يجعلك تفكر: ‘هل يُعقل أن يبلغ الإنسان هذا القدر من الوقاحة؟’ ذلك المستوى المذهل من الجفاء!”
كانت إليزابيث في حقيقتها مجرّد امرأة حسّاسة أنهكتها أمراض الطفولة والصداع المزمن…
لكنّ النّاس لم يروا منها إلّا وجهًا عابسًا وطباعًا ناريّة جعلتها في نظرهم سيّدةً متجبّرة النزعة.
اكتفت سينثيا بإيماءةٍ واهنة تُشبه القبول.
قال دايل وهو يشدّ على كلماته: “إنّ الدوق الأكبر قد وصل بالفعل. إيّاكِ أن تتفوّهي بما لا ضرورة له! أجيبي فقط إن وُجِّه إليك الكلام، كما لو كانت هذه اللقاءات الرسميّة تُضجرك!”
“آه، كفى! فهمتُ يا رجل! كم مرّة ستكرّر هذا؟”
“ها! ممتاز… تلك النبرة بالذات — حافظي عليها كما هي!”
ألقى عليها نظرةً فاحصة من رأسها حتى أخمص قدميها، ثمّ تقدّم بخطوةٍ ليُعدّل الزينة التي حادت قليلًا عن مكانها في شعرها.
ولم يكن في وسعها رؤية نفسها على أيّ حال…
ذلك الهوس الغريب بالدقّة الذي يسكنه…
ولم يفتح باب القاعة الفخمة إلّا بعد أن تيقّن من أنّ كلّ تفصيلةٍ فيها مصقولة كما ينبغي.
ثمّ أشار إليها بإيماءةٍ صغيرة تدعوها إلى الدخول.
استجمعت شجاعتها، واندفعت إلى الداخل.
“مساء الخير يا صاحب السّمو. إليزابيث بايلي تُقدّم لك التحيّة.”
نطقت الجملة الأولى التي كرّرها معها دايل عشرات المرّات دون أن تتلعثم في حرفٍ واحد.
رزينة، هادئة، لكن متعالية بطريقتها المتقنة.
راضيةً عن أدائها، اقتربت بخطواتٍ محسوبة من الرّجل الجالس وظهره إليها.
لم يلتفت، غير أنّ صوته العميق تسلّل إليها كما لو انبثق من الجدران ذاتها.
“لقد مرّ زمنٌ طويل، يا سيّدتي.”
فقال دايل وهو يتراجع إلى الخارج: “إذًا، أترك لكما متعة الحديث.” ثمّ أوصد الباب خلفه في هدوء.
لكنّها كانت واثقة أنّه يقف خارج الباب متسمّعًا لأنفاسها.
زفرت في داخلها وجلست في المقعد المقابل لدوق رومانوڤ.
ثمّ تجمّدت تمامًا.
يا للعجب… يا للروعة.
لقد كان مطابقًا لوصفه في الرّواية الأصليّة — وسامةٌ تكاد تخلع الأنفاس.
حاجبان كثّان، وأنفٌ سامق، وفكٌّ مرسوم بدقّة السّيف، وكتفان عريضان كأنّما نُحتا من صخرٍ نبيل…
هيبةٌ لا تُوصف تُغشيه بسكينةٍ مبهمة.
حَتّى جفناه المطبقان على عينيه الهادئتين أضفيا على طلعته سحرًا مهيبًا.
تسمّرت عيناها عليه، تستكشف ملامحه بفضولٍ طفوليٍّ مهيب، تفكّر أنّها لو التقته بعينيه مفتوحتين، لعدّ ذلك وقاحةً بالغة.
كيف استطاعت إليزابيث أن تُفوّت رجلاً كهذا؟
في الرّواية، وُصف الدوق تِسيون رومانوڤ بأنّه رجلٌ منضبط، صارم حدّ الزهد، كأنّما كرّس حياته للمثاليّة.
شعرت سينثيا بالأسف على إليزابيث، تلك التي خُطبت لرجلٍ بهذه الهيبة ولم تذق منه لحظة ودٍّ واحدة.
‘على الأقلّ، عرفت طريقها إلى المتعة مع العشرين الآخرين’، فكّرت ساخرةً تُواسي نفسها بتلك الحجة الواهية.
إلّا أنّ صوت الدوق قطع عليها خيط أفكارها، وهو لا يزال مغمض العينين:
“نظراتك تكاد تُثقبني.”
حتى صوته كان فاتنًا، عميقًا، مشبعًا بثقلٍ هادئ.
رمشت بذهولٍ، غير مدركةٍ أنّه يُخاطبها.
‘كأنّ تمثالًا نطق!’
“مـاذا؟ أنا؟”
ارتبكت واندفعت واقفةً كمن لُدغ فجأة.
اللعنة! إليزابيث ما كانت لتفعل هذا أبدًا!
شعرت بقطرات العرق تزحف على ظهرها، وصدى صوت دايل المؤنِّب يتردّد في ذهنها.
“بما أنّ بصري غائب، فقد ازدادت حواسّي الأخرى دقّة. أستطيع أن أشعر بنظرك المشعّ عليّ.”
“آسفة…”
‘تبًّا، كارثةٌ كاملة!’
إليزابيث ما كانت لتعتذر أبدًا!
عضّت شفتها في غيظٍ مكبوتٍ وراحت تعبث بخصلات شعرها.
قال بهدوءٍ نافذ: “أراك مختلفة قليلًا يا سيّدتي…
عمّا كنتِ عليه في لقائنا الأخير.”
شهقت بصوتٍ مكتوم.
إذًا، لم يكن يخدعها…
حواسّه فعلًا حادّة على نحوٍ مزعج.
بضع كلماتٍ فقط، وكشف اختلاف الجوّ بين الأمس واليوم.
‘تماسكي، يا سينثيا… تنفّسي بعمق…’
كان صوتها شبيهًا جدًّا بصوت إليزابيث الحقيقيّة، كما أكّد دايل مرارًا، يحمل ذات الرنّة المتعالية.
طالما بقيت متزنة، فلن يساوره شكّ.
قالت بنبرةٍ باردةٍ متوازنة:
“لا أظنّ ذلك.”
“أهكذا إذن.”
امتدّت يدها نحو فنجان الشّاي طلبًا لشيءٍ يسكّن اضطرابها.
“هل سارت أمور عائلة بايلي على خير ما يرام؟”
“نعم، بلا مشكلات.”
أجابت بأقصر عبارةٍ ممكنة.
كان موت إليزابيث الحقيقيّة في حادث العربة قبل أسبوعٍ قد اختفى من العالم بفضل سرعة العائلة وثروتها في طمس كلّ أثرٍ له.
غُسلت أرض الحادث حتى لم تبقَ فيها شائبة، وكأنّ شيئًا لم يقع.
ولم يتجرّأ أحد على الإشارة إلى ذلك بعد اليوم.
‘المال يشتري الصّمت، بل يُعيد كتابة الواقع نفسه.’
ارتشفت من فنجانها رشفةً خفيفة، تُحاول أن تُطفئ اضطراب قلبها.
‘لكن، بحقّ السماء، عمّ أتحدّث معه الآن؟’
لم يكن بينهما ألفةٌ تُذكر، وها هما يجلسان في لقاءٍ رسميٍّ باردٍ لخطوبةٍ صوريّة.
‘النبلاء أسرى المظاهر والشكليّات فعلًا.’
كان من المتوجّب عليهم، وفق العرف، أن يلتقوا خمس مرّاتٍ على الأقل قبل الزواج، ما يعني أنّ ثلاثة لقاءاتٍ أخرى من هذا العذاب لا تزال في الانتظار.
‘أيّ قانونٍ سخيف هذا…’
نظرت إلى الساعة في توجّسٍ ورجاءٍ أن يدخل دايل في أيّ لحظةٍ لينقذها من هذا الصّمت المتجمّد.
أما الدوق، فكان يلوذ بالسكون كتمثالٍ رخاميٍّ نُسي في معبدٍ قديم، فلا يُحرّك ساكنًا ولا يبدّل نظرةً.
كلّ محاولةٍ منها لفتح حديثٍ كانت تموت بين شفتيها في الهواء الخانق.
قبضت على فنجانها بقوّةٍ تفكّر: ‘ما الذي كانت إليزابيث ستقوله في موقفٍ كهذا؟’
طال الصّمت حتى غدا تعذيبًا حقيقيًّا، والزّمن يزحف كسلحفاةٍ كسيحة.
ثمّ لاح في ناظرَيها أمرٌ لم تستطع تجاهله.
‘يا إلهي… لا!’
شعرةٌ واحدة، شعرةٌ سوداء تائهة سقطت على جبهته الناصعة.
‘لا تفعلي، لا تفعلي يا سينثيا…’
لكن طبيعتها المهووسة بالترتيب لم تسمح لها بالصّبر.
لو رأت قبعةً مائلة للاحقت صاحبها لتعدّلها.
ولو انحلّ خيطٌ في ثوبٍ ما، لقصّته فورًا بالمقصّ.
ولو التصق طعامٌ بشفة أحدهم، لأزاحته دون تفكير.
والآن، لم تعد ترى في العالم شيئًا سوى تلك الشعرة.
ارتجفت أصابعها بإلحاح الرغبة في إصلاحها.
‘لن أستطيع التحمّل… يجب أن أزيلها حالًا!’
بلعت ريقها بتردّدٍ مرتجف.
‘هو لا يرى، على أيّ حال…’
إن تحرّكت ببطءٍ كافٍ، قد لا يشعر بها مطلقًا.
طالما لم تُحدِث نسمةً واحدة، فلن يدرك شيئًا.
أما تلك الشعرة، فستبقى تُنغّص عليها هذا الصمت الأبكم.
شدّت على نفسها وأمدّت يدها ببطءٍ قاتل نحو جبينه.
قريبةٌ الآن… قريبةٌ جدًّا…
ظلّ ساكنًا كأنّ الزمن تجمّد من حوله، وعيناه المغمضتان توحيان بالسلام التّام.
لولا أنفاسه الهادئة، لظنّت أنّه تمثالٌ من الرّخام.
انحنت قليلًا، تحبس أنفاسها.
‘أعيديها فحسب ثمّ تظاهري وكأنّ شيئًا لم يكن!’
لامست أصابعها تلك الشعرة أخيرًا.
لكنّ التحدّي بدأ لتوّه.
“…”
لم تجرؤ على التنفّس، وهي تُعيدها بحذرٍ لا نهائيّ.
انزلقت الشعرة ببطءٍ على جبهته لتستقرّ مع سائر خصلاته في نظامٍ تامّ.
‘أخيرًا…’
أطلقت زفرةَ ارتياحٍ هادئة وسحبت يدها ببطء—
—لكن فجأة—
طَقّ!
“!”
في لحظةٍ خاطفة، رفع الدوق يده وأمسك بمعصمها بقبضةٍ صارمةٍ لا فكاكَ منها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"