3
“أنتِ تهمسين بكلماتٍ تُشبه الصدى…”
كانت سينثيا واقفةً بوضعٍ مائلٍ قليلًا، وقد شبكت ذراعيها أمام صدرها.
رمقها دايل بابتسامةٍ رقيقةٍ يغمرها اللطف.
“عرضُنا بسيطٌ للغاية.
ما نطلبه منكِ هو أن تزوري مقرَّ الدوق كلّما طُلِبَ ذلك، وأن تمضي بعض الوقت مع خطيب السيّدة إليزابيث، الدوق الأكبر تيسيون لومانوف.”
“…فقط أنْ أقضي بعضَ الوقت معه؟”
“نعم. لن يتجاوز اللقاءُ ساعةً واحدة. كلُّ ما عليكِ فعله هو تبادلُ حديثٍ خفيفٍ معه. لقد التقيتُما سابقًا مرّةً واحدة فحسب، وبشكلٍ عابر، لذا لا داعيَ للقلق حيال لقائكما الأول.”
نزع دايل نظّارته بهدوء، وبدأ يمسحها بقطعةٍ من القماش الفاخر أخرجها من جيبه.
ومع بساطةِ حركته، بدا كأنّ كلَّ تفصيلةٍ فيها محسوبةٌ بدقّةٍ مدهشة.
الصورةُ المثاليّةُ للتابعِ المخلصِ من عائلة بايلي…
فيما كانت سينثيا تراقبه بصمت، تسلّل إلى ذهنها طيفُ الدوق الأكبر تيسيون لومانوف.
ذلك الرجل—الخطيبُ الرّسميّ لبطلة الرواية الأصليّة، إليزابيث، وأحد الأبطال الذكور الواحد والعشرين.
كان أقربَهم إليها، وأكثرَهم مكوثًا بجانبها، ومع ذلك، اشتهر بكونه رجلًا من فولاذ الإرادة، لم يسمح لنفسه حتّى بأبسطِ تلامسٍ جسديٍّ معها.
فقد بصرَه في حادثٍ مأساويٍّ وهو طفل، وعاشَ في عتمةٍ طَويلةٍ إلى أن استعادَ نظرَه في ختام الرواية تقريبًا…
وفيما كانت شاردةَ الفكر، عادت إليزابيث لتقول بنبرةٍ هادئة:
“على أيّ حال، الدوق الأكبر تيسيون ليس أحمق.
لا يُعقل أنْ لا يُلاحظ أنّ خطيبتَه قد تغيّرت.”
“لا تقلقي حيال ذلك.
لقد تربّت السيّدةُ إليزابيث في ضيعةِ عائلةِ بايلي الريفيّة، ولم تمضِ في العاصمة سوى أقلّ من عام. وحتى خلال تلك المدّة، لم تكن تغادر القصرَ إلّا نادرًا لانشغالها بدروسِ الإتيكيت.
كما أنّها معروفةٌ بطبيعتها الرقيقة الحسّاسة…”
“…”
“بعبارةٍ أخرى، لم يرَها الكثيرون. وينطبق الأمر ذاته على الدوق الأكبر.”
“وماذا بعد؟”
“طالما أنّ لونَ شعركِ وعينيكِ يُطابقان لونَها، فلن تكون هناك أيّ مشكلةٍ تُذكر.”
ظلّت سينثيا متحفّظة الملامح، لا يخلو وجهُها من التوجّس.
“وإذا سارت الأمورُ كما تريدون، لكنّ أحدًا اكتشف من أنا فعلًا—ماذا سيحدث؟”
“كما ذكرتُ آنفًا، عائلةُ بايلي ستضمنُ سلامتكِ بكلّ ما تملكه من نفوذ.”
“…إنّ المبلغ هو حقًّا خمسةُ ملايينِ مينت، أليس كذلك؟”
“نعم، بالضبط.”
أومأ دايل مبتسمًا بلطفٍ ثابت، فمدّت سينثيا يدها الصغيرة، راحةُ كفّها للأعلى.
“أريدُ الدفعةَ المسبقة أولًا.”
“بالطّبع، تفضّلي من هنا.”
مكتبةُ قصرِ آل بايلي.
سارت خلفه إلى قاعةٍ فسيحةٍ عالية السقف تتدلّى منها ثريّاتٌ ضخمة.
اتّجه مباشرةً نحو المكتب، فتح أحد الأدراج، وأخرج ورقةً مُذهّبة الحواف تحمل ختمَ آل بايلي.
تناول قلمًا أنيقًا وبدأ يخطّ بضعَ كلماتٍ بخطٍّ رشيقٍ متقن.
‘لا شكّ أنّه العقد… وذلك شيكٌ مفتوح أيضًا؟’
حدّقت سينثيا مذهولةً للحظةٍ، قبل أن تتدارك نفسها.
“لكن يا دايل…”
“نعم، سينثيا؟”
“لِمَ تفعلون كلَّ هذا؟”
“عذرًا؟”
رفع رأسه إليها ببطء.
التقت نظراتُهما، فهزّت كتفيها قليلًا.
“لقد ماتت إليزابيث، ومع ذلك لم يبدُ أحدٌ حزينًا.
لم أرَ فيهم من ينعى موتها، بل كانوا جميعًا يتشبّثون بالزواجِ من الدوق الأكبر وكأنّه مسألة حياةٍ أو موت.”
“…”
“وعرضُكم هذا مريبٌ أيضًا.
لم تطلبوا منّي أن أملأ الفراغ الّذي خلّفته إليزابيث، بل أن أرتدي وجهَها وأكونَها.”
توقّف دايل عن الكتابة للحظة.
تأمّل قلمَه الصامت ثمّ رفع بصرَه إليها ببطء.
“أنتِ ذكيّة، وهذا… أمرٌ لا أعلمُ بعدُ إن كان في صالحنا أم ضدّنا.”
“هاه؟”
رفع حاجبَه قليلًا وقال:
“كما ذكرتُ سابقًا، هذا المكان هو قصرُ آل بايلي.
هنا لا وجودَ لأشياءٍ مثل الحبّ أو الحنان أو الدفء. هذه ليست عائلةً، بل شركةٌ تديرُ البشرَ كما تُدارُ الأصول.”
“ماذا؟! لكن هناك من مات—”
“تمامًا. ولذلك يفضّلون استبدالَها بشخصٍ آخر بدلًا من خسارةِ الخِطبة.
إنّهم لا يهتمّون بإليزابيث نفسها، بل بما قد تجلبه تلك الخِطبة من مكاسب.”
انعقد حاجبا سينثيا بامتعاض.
في عائلةٍ قلّ فيها إنجاب البنات، جرى تبنّي إليزابيث قبل بضعةِ أشهرٍ فقط بحجّة القرابة، كلّ ذلك لتزويجها سياسيًّا بالدوق الأكبر.
“ولأيّ غرضٍ كلُّ هذا؟ لأجلِ تلكَ شركةِ المجوهرات؟”
كانت تلك الشركةُ، الّتي كانت أصلًا ملكًا لعائلة بايلي، لا تُشكّل في الرواية الأصليّة سوى تفصيلٍ هامشيّ.
كانت تعلم أنّ إليزابيث عانت من طمعِ أقاربها، لكنّها لم تتخيّل أنّ الجشع بلغ هذا القدر.
فالروايةُ لم تُظهِر إلّا جوانبها الجريئة فحسب…
سعلت بخفةٍ، محاولةً التخلّص من الإحراج.
‘ليس غريبًا أنْ تفقد اتزانَها وقد نشأت وسط عائلةٍ كهذه…’
في القصّة الأصليّة، كان فراغُها العاطفيّ يُترجَم إلى علاقاتٍ جسديّةٍ متطرّفةٍ مع الرجال، محاولةً منها لملء فجوةٍ لم تُروِها المحبّة.
والآن وقد فكّرت بالأمر، لم تكن حياتها سوى وحدةٍ قاسيةٍ متنكرةٍ بالأناقة.
تنفّست سينثيا بعمق، ثمّ نظرت نحو دايل الّذي ما زال يكتب.
“لقد تبيّن مؤخرًا أنّ إحدى أراضي آل بايلي، وتُدعى لوتيريا، تحتوي على مخزونٍ ضخمٍ من الأحجار الكريمة.”
“أحجارٌ كريمة؟”
“نعم، كميّةٌ تكفي لتغييرِ ميزان التّجارة في الإمبراطوريّة بأسرها. لا حاجةَ لتفاصيل أكثر… تفضّلي.”
ناولها الورقة الممهورة بختم العائلة.
تصفّحتها سريعًا، تتمتم وهي تقرأ:
سيُطلب منها أن تتقمّصَ شخصيّةَ النّبيلةِ الراحلة إليزابيث، إلى أن تستعيدَ عائلةُ بايلي شركةَ رايتيمبر للتجارة.
مدّةُ التّكليف ثلاثةُ أشهرٍ قابلةٌ للتمديدِ حتّى عامٍ كامل، ويُمنع كشفُ هويّتها الحقيقيّة.
ستُؤدّي واجباتِها بكلِّ إخلاصٍ مقابلَ خمسمائةِ ألفِ مينت مقدّمًا، وأربعةِ ملايينٍ ونصفٍ عند الإنجاز.
“لا تعديلَ ضروريّ.”
“ممتاز. إذًا يُعدّ العقدُ نافذًا من هذه اللحظة. و
هذه هي دفعتُكِ الأولى.”
ناولها شيكًا بمبلغِ نصفِ مليونِ مينت.
“…حسنًا.”
أجابت بصوتٍ منخفضٍ وقد انتابها شعورٌ غريبٌ بالقلق.
غير أنّ دايل واصل الحديث بنغمةٍ مفعمةٍ بالثقة:
“سيكون لقاؤكِ بالدوقِ الأكبر الأسبوعَ المقبل.
ابتداءً من الغد، ستبدئين التّدريب والتحضيرات هنا في القصر.”
بعد عدّةِ أيّام…
عادت سينثيا إلى قصر آل بايلي.
“لقد وصلتِ، آنسةُ سينثيا؟”
استقبلها دايل بابتسامته الهادئة المعتادة.
أومأت بخفّةٍ وتبعته إلى غرفة الاستقبال المضيئة بأشعّة الشّمس المتسلّلة من النوافذ الواسعة.
‘يا للعجب… إنّه مطابقٌ تمامًا لوصفِ الرواية…’
تجوّلت بنظرها بانبهار، فيما عاد دايل حاملاً رزمًا من الأوراق السميكة وأسقطها أمامها بصوتٍ مرتفع.
“ها هي!”
ارتجفت مذعورة.
“م-ما كلُّ هذا؟!”
“معلوماتٌ تفصيليةٌ عن سيّدتنا الرّاحلة إليزابيث. يجب أن تحفظيها جميعًا قبل اللقاء القادم.”
“في أسبوعٍ واحد؟ هذا مستحيل!”
نظر إليها ببرودٍ ثابت.
“وليس هذا فحسب. الكومةُ الأخرى تحتوي على ملفّاتٍ تخصُّ الدوقَ الأكبر.
عليكِ الاطّلاعُ عليها أيضًا.”
“آه…”
“وللتّذكير، سيّدتُنا لم تكن تُصدرُ مثل هذه الأصوات الغريبة.
يُستحسن أن تتجنّبيها أثناء التقمّص.”
“…عذرًا؟!”
‘ولدتُ بهذا الصوت! ثمّ إنّي لم أسمع صوتَها قط!’
وهي تهمسُ في نفسها، عادت إلى ذهنها ذكرى بعيدة—
قبل حادث العربة مباشرةً، على الجانب المقابل من الطّريق، التقت عيناها بعيني إليزابيث.
كان في تلك النّظرة شيءٌ آسر، كأنّها قيودٌ غيرُ مرئيةٍ منعتها من صرف بصرها.
ثمّ تحرّكت شفتا إليزابيث ببطءٍ قائلةً:
“…لو…”
‘ماذا؟’
دوّى صوتُ ارتطامٍ حادّ، وصراخُ عجلاتٍ معدنيّةٍ—ثمّ العدم.
كانت تلك آخرَ لحظةٍ رأتها فيها.
صمتت سينثيا وهي تغرق في دوّامةِ أفكارها.
‘ما الّذي كانت تحاولُ قوله؟’
“هيه! تركّزي!”
صفّق دايل أمام وجهها فانتزَعها من شرودها.
“آه…”
“آه ماذا؟ حين تنتهين من دراسةِ كلِّ هذا، أبلغيني لأُجري لكِ اختبارًا.”
“آاااه…”
“لا تنسي أنّ عليكِ كسبَ خمسمائةِ ألفِ مينت، أليس كذلك؟”
‘يا له من وقحٍ يلوّحُ بالمال سلاحًا…’
نظرت إليه بخفيةٍ ثمّ تناولت الورقة الأولى.
“هممم…”
كانت بعض المعلومات مألوفةً من الرواية، وبعضها جديدًا تمامًا.
في البداية شعرت بالملل، لكنّها سرعان ما انغمست كليًّا، تُقلب الصفحاتِ بنهمٍ كما لو كانت تقرأ ملحقًا خفيًّا لعالم القصّة.
مرّت الساعات دون أن تشعر بها.
وفي نهاية الأسبوع، قال دايل مبتسمًا:
“من هذا الطريق، سيّدتي إليزابيث.”
كانت ترتدي ثوبًا فاخرًا ضيّقًا، تُمسك أطرافه وهي تمشي متبرّمة.
‘يا للعذاب… يومٌ كاملٌ في هذا القيد الذهبي…’
قضت الأسبوعَ بكامله تُهيَّأ على يد ستّ خادماتٍ من الفجر حتّى المغيب.
وبإصرارٍ من دايل على محاكاةِ إليزابيث بدقّةٍ مطلقة، صبغت شعرَها البنيّ إلى الأشقر، وارتدت عدساتٍ خاصّةً بلونٍ أخضرَ فاتح.
‘وما الجدوى من ذلك؟ فالدوقُ لا يرى أصلًا…’
تنهّدت في سرّها، تسيرُ إلى جانب دايل بخطًى مثقلة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"