اليوم التالي
بدلاً من الذهاب إلى غرفة أستر، وجدتُ نفسي جالسةً في الحديقة بذهول.
“السحب رقيقّةٌ كالقطن…”
بينما كنتُ أحدق في السحب البيضاء، تذكرتُ ما حدث البارحة.
تلك اللحظات التي رسمنا فيها معًا على دفتر الرسم الأبيض.
“كلما فكرتُ في الأمر، يبدو غريبًا…”
منذ عودتي إلى غرفتي البارحة، لم تكف الأفكار عن مطاردتي.
تصرفات أستر الغريبة هي السبب.
أولًا:
“لماذا فتح الباب أصلًا؟”
عندما زُرته، كان واضحًا أنه منزعج.
الأوراق المبعثرة على مكتبه دليلٌ على ذلك.
“يبدو أنه كان يدرس ثم واجه شيئًا مزعجًا.”
حتى أنا عندما لا تسير الأمور كما أريد، أحيانًا أريد أن أرمي كل شيء!
أليس هذا ما شعر به أستر؟
رغم ذلك، بدل أن يرفض استقبالي، دعاني للدخول.
“كما يفعل دائمًا… بلطفٍ مفرط.”
هل من المعقول أن يكون شخصٌ بهذا اللطف؟
أليس هذا مبالغًا فيه؟
“حتى أطيب الناس يرفضون الآخرين عندما يكونون منزعجين!”
ثانيًا:
تلك العبارة التي قالها:
“إنها ليست مثالية. ما ليس مثاليًّا لا قيمة له.”
كان يبدو وكأنه تعرض لغسيل دماغ!
كأنها قناعةٌ متجذرةٌ عميقًا تخرج تلقائيًا.
وجهه الشاحب، العرق البارد، حتى عيناه المرتعشتان…
في تلك اللحظة، بدا هشًّا وخائفًا.
“هل أجبره أحدٌ على تبني هذه الفكرة؟”
لا يسعني إلا أن أشكّ في ذلك.
لطفه القهري وهوسه بالمثالية…
هل هما حقًّا اختياراته، أم نتاج ضغوطٍ من آخرين؟
قد يبدو هذا تخمينًا مبالغًا فيه، لكنني أفهمه جيدًا.
“…لأنني مررت بتجربة مشابهة.”
في الماضي – قبل العودة بلزمن:
في دار الأيتام حيث عشتُ، كان المدير والمعلمون يقولون لي:
“أنت حالة ميؤوس منها!”
“أوبخك من أجل مصلحتكِ!”
“لو كنتِ جيدًة بما يكفي، لما اضطررتُ لمعاقبتكِ! حتى أنا متعبٌ من هذا!”
صدقتُ كلامهم حرفيًا.
ظننتُ أن عدم حبي وعقابي سببه نقصي.
حتى تلك الإطراءات النادرة التي كانوا يرمونها بين الحين والآخر:
“أرأيت؟ يمكنك فعلها إذا بذلتَ جهدًا!”
كانت تجعلني أضغط على نفسي أكثر.
“إذا بذلتُ قصارى جهدي، سيثنون عليّ!”
ولهذا، كل عقابٍ كان خطئي أنا.
لأنني لستُ جيدًة بما يكفي.
ففعلتُ كل ما يُطلب مني:
التنظيف، الغسيل، الدراسة…
لم أتمرد ولو لمرة واحدة.
لكن معاييرهم أصبحت أعلى… وأعلى…
بغض النظر عن مدى اجتهادي… لم أستطع اللحاق بمعاييرهم التي كانت ترتفع باستمرار.
حينها فقط أدركتُ:
“بغض النظر عن مدى محاولتي… لن ينظر إليهم أبدًا.”
لأن ما أرادوه حقًا لم يكن سعيّي…
بل القوة للسيطرة عليّ.
القوة التي تسمح لهم بالتلاعب بي كما يشاؤون.
رغم إدراكي هذا، لم أستطع التوقف عن لوم نفسي كلما تعرضت للتوبيخ:
“هذا لأنني ناقصة… بسببي… لأنني أخطأت.”
فالعجز المُكتسب ليس شيئًا يزول بسهولة.
في النهاية، حتى يوم طردي من دار الأيتام، لم أتمرد ولو لمرة واحدة.
“…كان عليّ أن أُلقنهم درسًا قبل الرحيل.”
قبضتُ على كتفيّ بقوة.
“على أي حال، يبدو أنني البارحة رأيتُ نسخةً من ماضي في أستر…”
هوسه بالكمال، تعابير وجهه المرعوبة، وحتى لطفه المصطنع…
“يبدو وكأنه يعيش مبتسمًا خوفًا من أن يُكره أو يُنبذ.”
…قد يكون هذا مجرد تخمين سخيف.
“لكني أتمنى لو كان هذا هو الواقع!”
على أي حال، ربما يجب أن أتحقق أكثر؟
إذا كان أستر حقًا عالقًا في مثل هذه الظروف…
“أريد مساعدته.”
في حياتي السابقة، لم أستطع إنقاذ نفسي… لكن ربما يمكنني إنقاذ أستر الآن.
إذا كان يعيش في جحيمٍ يأكله من الداخل، أريد أن أمد له يدي.
“همم… من أسأل عن هذا؟”
“عن ماذا تريدين السؤال؟”
“عن الأخ الكبير أستر!”
“أخي؟ إذا كان الأمر عنه، فأنا أعرفه أفضل من أي أحد!”
لحظة التفتُ مصعوقةً إلى مصدر الصوت:
“يا إلهي!”
لويس كان يضحك بسعادة، مستمتعًا بمفاجأتي.
“الأخ الكبير لويس؟”
“نعم، أنا لويس. إذن، ما الذي تريدين معرفته عن أخي، أيتها الصغيرة؟”
وقف لويس بوضعية مهيبة مشيرًا إلى نفسه بإبهامه.
ترددتُ للحظة:
“هل يجب أن أسأل لويس عن هذا…؟”
لكن بعد التفكير، فهو أحد أقرب الناس لأستر…
“اه، لا أعرف!”
“حسنًا إذن…”
سألتُ لويس عن كل ما يخطر ببالي:
– هل أستر مهووس دائمًا بـ”الكمال”؟
– هل كان دائمًا شخصًا لا يغضب بسهولة؟
“همم…”
أخذ لويس وقته في التفكير قبل أن يجيب:
“عند التفكير، أخي بالفعل لديه جانب وسواسي تجاه الكمال.”
“حقًا؟”
“نعم، يصرّ على أنه يجب أن ينجز كل شيء… دائمًا يقول: ‘يجب أن تبذل جهدك، أن تنجح، أن تكون كاملاً.’ أما عن عدم غضبه بسهولة…”
ابتلعُ ريقي بلهفة في انتظار إجابته…
“لقد كان هكذا منذ الماضي. بالطبع، لم يكن أبدًا عديم الغضب… ولكن حين أفكر في الأمر، لم أره يغضب أبدًا منذ أربع سنوات.”
“حقًا؟”
“نعم. بالتحديد منذ أن سقطت أمّي مغشية عليها، لم أرَ أخي يغضب أبدًا.”
قال ذلك وهو يبدو وكأنه أدرك شيئًا جديدًا.
“إذًا، هل يوجد شخص صارم حول الأخ أستر؟”
“شخص صارم؟”
“نعم! شخص يمكنه أن يأمر الأخ أستر ويوجهه…!”
“حسنًا… الأشخاص الذين يمكنهم توجيه أخي هم ربما الجد أو العم… أو…”
توقف لويس للحظة ثم أكمل:
“على الأرجح أبي.”
أبوه، أي زوج السيدة سيينا؟
“إذن فهو عمي من ناحيتي…”
سمعت أنه كثير التغيب عن المنزل. كان نادرًا ما يعود بسبب أعماله التجارية…
“وبعد أن سقطت السيدة سيينا، أصبح حضوره أقل.”
حيث قال إنه يبحث عن طريقة لإنقاذها.
“ولكن لماذا تسألين فجأة؟”
“آه! فقط… لأنني أريد معرفة المزيد عن الأخ أستر.”
“همم… هل هذا كل شيء؟”
أومأت برأسى بحماس وابتسمت بتلعثم متجنبة النظر إليه.
ثم…
“ألا تتدرب على المبارزة اليوم؟”
حولت الموضوع بسرعة.
همم… الآن أشعر بالفضول.
عادة في هذا الوقت، كان لويس يتدرب على المبارزة. صدقًا، ظننت أنه سيأخذ قسطًا من الراحة هنا في البلدة، لكنه واصل التدرب يوميًا كما كان يفعل في مقاطعة بانتيفاير.
كان لويس يفخر بانتظام أخيه أستر واجتهاده، ولكن من وجهة نظري، لويس نفسه كان مجتهدًا لا يقل عن أخيه…
“لا، لن أتدرب اليوم!”
هذا غريب. كان دائمًا مجتهدًا.
“لماذا؟”
سألتُ مندهشة، فرفع لويس كتفيه محدقًا في مكان ما.
تبعتُ نظره فرأيت ثلاث عربات متراصة.
الخدم والخادمات وسائقو العربات…
ثلاث فرق من الخدم كانوا منهمكين في تجهيز العربات.
“أتعرفين ما هذه، يا صغيرة؟”
“عربات!”
“إجابة صحيحة… ولكن هذه العربات متجهة إلى المعبد.”
عربات إلى المعبد؟
آه…
“لعلاج العمة؟”
“نعم. سنغدو بعد غدٍ إلى المعبد. العربة الأولى للجد، والثانية لأمي والطبيب، والثالثة للتبرعات والعطايا.”
فالمعبد يأخذ الكثير جدًا.
“أوه…”
هز رأسه باستياء ثم استلقى على ظهره.
استلقيتُ بجانبه بتثاقل.
“ألن تذهب معهم؟”
“لا. قررت عدم الذهاب هذه المرة. ذهبتُ المرة الماضية ولم تستفق أمي. لذا فكرت… ربما إذا لم أذهب هذه المرة، ستستيقظ…”
ضحك لويس ضحكة خافتة.
“على أي حال، لهذا السبب. شعرت اليوم أن السيف لا يلتصق بيدي.”
“نعم، يمكن أن يحدث ذلك…”
“……”
“……”
حدقنا في السماء الزرقاء بصمت.
سماء زرقاء صافية.
صيف كامل.
لا، في الحقيقة كان الصيف يبدأ بالانحسار الآن.
“…يا صغيرة!”
“وااه!”
التعليقات لهذا الفصل " 76"