كان شكلُ الخاتمِ غريبًا.
ثعبانٌ مغروزٌ في رأسه سيف.
لسببٍ ما، شعرتُ أنّ هذا الثعبانَ يحدّقُ فيّ. أو لعلّه كان يسخرُ منّي.
وتلك كانت آخرَ ذكرياتي.
«لا… أُريد أن أعيش.»
مع تضاؤلِ الرؤية شيئًا فشيئًا، أغمضتُ عينيّ.
—
…نعم، كان الأمرُ كذلك تمامًا.
«كيفَ ما زلتُ حيًّة؟»
لحظةُ اختراقِ السيفِ لجسدي لا تزالُ راسخةً في ذهني بوضوح.
لكنَّ الغريبَ لم يكن هذا فحسب.
“…يدي صغيرة، صح؟”
اليدانِ صغيرتان، والقدمانِ صغيرتان، وكلّ شيءٍ قصير.
وفوق ذلك…
“حتى النُّطق غريب.”
كأنّ طفلًا هو من يتحدّث. مخارجُ الحروفِ كلُّها مشوّهة.
«انتظري لحظة… طفل؟»
بدهشةٍ مفاجئة، ركضتُ بسرعةٍ نحوَ مرآةٍ قريبة.
وما إن رأيتُ انعكاسَ صورتي فيها…
“…يا إلهي.”
لم أستطعْ أن أُخفي صدمتي.
شَعرٌ أبيضُ وعيونٌ بلونِ زهرةِ البنفسج.
جسدٌ صغيرٌ ذو أربعِ رؤوسٍ (نسبةً إلى الطول)، ويدانِ وقدمانِ ضئيلتان.
«لا شكّ أنّ هذه ملامحي عندما كنتُ طفلًة…»
ما الذي يحدثُ هنا؟
آه… هل أنا في حلم؟
هل فقدتُ الوعي بعد أن طُعِنتُ، والآنَ أحلم؟
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثمّ شددتُ خدّي الطريَّين.
“…مؤلم؟”
يعني هذا أنّه ليس حلمًا.
1. تمَّ اختطافي، وهربتُ ثمّ متُّ.
2. كنتُ أظنُّ أنني متُّ لا محالة، لكنني نجوتُ بطريقة ما.
3. ولكن… أنا طفلة؟
لا يوجدُ أيُّ رابطٍ منطقيٍّ بين الأحداث.
بينما كنتُ أقفُ مدهوشة، بعقلٍ جامدٍ تمامًا…
كرييييك
صوتُ بابٍ يُفتَح، وظهرت امرأةٌ فجأة.
“ما الأمر، ميلوني؟”
“…هاه؟ أ-أنا؟”
“سمعتُ شيئًا يشبهُ الصراخ. هل رأيتِ كابوسًا مثلًا؟”
اقتربتْ منّي، وعيناها مليئتان بالقلق.
«انتظري لحظة… هذا الوجه…»
“جـ… جانّ أوني…؟”
“نعم، أنا هنا.”
ماذا؟ هل هي فعلاً الأختُ جان؟
ردُّها الطبيعيّ جعلني أفتحُ فمي من الدهشة.
جان أوني كانت الأختَ التي عشتُ معها في سجنٍ غير قانونيٍّ يُدعى ‘برامشوا’.
وهذا يعني…
«لا يمكن… هل عُدتُ بالزمن؟»
قبل موتي… إلى أيامِ طفولتي؟
“ميلوني، ما بكِ؟ وجهُكِ شاحب.”
هاه… هاها.
“جان… أوني…”
“نعم، ميلوني؟”
مددتُ يدي الصغيرة، وربّتُّ بخفّةٍ على كتفها.
“أنا… أتذكّر، أونني.”
“ماذا تتذكرين؟”
“…العالمُ غريبٌ جدًّا.”
العالمُ حقًّا مكانٌ عجيبٌ، أختي.
وما إن أنهيتُ تلك العبارة، حتّى أُغمي عليّ.
“ميلوني؟ ميلوني! استفيقي، ميلوني!”
من وراء وعيي المتلاشي، سمعتُ صوتَ الأخت جانّ يعلو.
“سأذهبُ لغرفةٍ أُخرى للحظة.”
“نعم، اِذهبي، أونني.”
“لو شعرتِ بأيّ ألم، نادي عليّ، حسنًا؟”
“لا تقلقي. ميلوني الآن بخير تمامًا.”
ضربتُ صدري الصغير بثقة، فابتسمتْ أختي ابتسامةً مشرقة وغادرت الغرفة.
بقيتُ وحدي، أفرك أنفي البارد بشدّة بينما أتأمّل ما حولي.
«إنّه حقًّا برامشوا…»
موطني.
جنّتي الصغيرة.
هذا المكان كان الوحيد الذي عشتُ فيه لحظاتِ سعادةٍ حقيقية وسطَ حياةٍ لم تكن يومًا سهلة.
«الأمر يبدو مضحكًا نوعًا ما.»
أن يكون سجنٌ غير قانونيّ هو موطني وجنّتي…
في الحقيقة، برامشوا كان سجنًا، لكنه لم يكن سجنًا بالمعنى الحقيقي.
كان مكانًا يُودَع فيه أولئك الذين يُشكّلون إزعاجًا للأثرياء، عبر تلفيق التّهم والزجّ بهم داخله.
أحيانًا كان يُجلب مجرمون حقيقيّون لإبعادِ الشُّبهات، لكنّ الأغلبية كانوا مظلومين طيّبين.
ربما لذلك كان التآزر بين الجميع قويًّا.
الجميع كان لطيفًا، وحنونًا.
حتى أنا، الطفلةُ الرضيعةُ التي لا أحدَ يعرف من هم والداها، والتي ترعرعت داخل هذا السجن، حظيتُ بعنايةٍ صادقة من الجميع.
ولهذا، لا عجب أن يكون هذا المكان جَنّتي.
«…إنّني سعيدةٌ حقًّا بعودتي إلى برامشوا.»
لو كنتُ قد عُدتُ إلى أيامِ دار الأيتام بدلاً من هذا…
أُووه، مجرّد التفكير يُرعبني.
«لكن… كيف عدتُ بالزمن يا ترى؟»
لقد مرّت ثلاثةُ أيّامٍ منذ أن عُدتُ إلى الماضي.
وخلالها، أرهقتُ نفسي تفكيرًا، لكن دون فائدة.
من الأساس، لم أكن أتصوّر أنّ العودة بالزمن ممكنةٌ أصلاً.
الشيء الوحيد الذي قد يُفسّر الأمر هو ذلك الرجلُ الذي أنقذني…
ربّما كان يملك قدرةً خارقة، أو أنّه مثلِي كان يُستخدم كعينةٍ للتجارب؟
«لا… لا أستطيع الجزم بشيء.»
كم شخصًا في هذا العالم يُولدُ بقدرةٍ خارقةٍ كالتي أملكها؟
«بل الأدهى، أنّني لا أعرف حتى من هو ذاك الرجل، ولا لماذا قرّر إنقاذي أصلاً.»
وبينما كنتُ أُمعنُ التفكير، قرّرتُ أن أُوقف هذا السيل من الأسئلة.
«لا جدوى من التفكير الآن.»
ما أهميةُ كيفيّة عودتي؟
الأهمّ هو أنّني حصلتُ على فُرصةٍ جديدة!
فرصةٌ للهرب من موتٍ عبثيّ.
فرصةٌ لأعيش طويلًا، ولو حياةً بسيطة.
«لذا، في هذه الحياة، سأتمسّك بها حتى النهاية وأظلُّ حيّة!»
قبضتُ قبضتَيّ الصغيرتين بحزمٍ، وأقسمتُ بذلك في داخلي.
«أوّلًا، عليّ أن أضع خطّةً لحياتي!»
أخرجتُ كومةً من الأوراق الباهتة.
لم يكن هناك أطفالٌ سواي في برامشوا، ولهذا لم تكن هناك ألعاب.
ومن ذا الذي يتوقّع وجودَ ألعابٍ في سجن؟
لكنّ الإخوة والأخوات الطيّبين جمعوا لي بعضَ الأوراق القديمة وضمّوها معًا.
كانت تلك الأوراق بمثابة دفتر رسومات بديل.
جلستُ أحدّق فيه بشرود، ثمّ قرصتُ فخذي خلسة.
«مؤلم.»
جيّد… لا يزال هذا ليس حُلمًا.
وبعد أن أنهيتُ طقوسي الخاصة للتأكّد من الواقع، ركّزتُ مجدّدًا على وضع الخطّة.
«لو كتبتُ الخطّة بالكلمات، سيبدو الأمر غريبًا. لذا، سأرسمها على شكل صور!»
أجل، إنّني مدروسة التفكير!
أنا ميلوني ذات الأربعِ سنوات، الذكيّة والرائعة!
أمسكتُ بعلبة التّلوين الوحيدة لديّ، وبدأتُ برسمِ خطّتي على الورق بخربشاتٍ طفوليّة.
أوّل ما رسمتُه كان طفلةً صغيرة.
«عمري الآن أربعُ سنوات، وبرامشوا أُغلِق أيضًا عندما كنتُ في الرابعة…»
هذا يعني أنّ برامشوا سيُغلق قريبًا.
لأنّ دوقية “فانتِيبي” ستكشف سرّ هذا المكان.
وستُظهِر للعالم أنّ برامشوا لم يكن سوى سجنٍ يُحتجز فيه الأبرياء ظلمًا.
«هُوْ… هدفي في هذه الحياة بسيط.»
أن أعيش طويلًا، بهدوء، وبشكلٍ طبيعي.
فأنا أعيش حياتي للمرّة الثانية، ولا أرغب أبدًا في أن أكرّر مآسي حياتي السابقة.
«ولتحقيق ذلك، عليّ أن أركّز على أمرَين أساسيّين.»
أوّلًا: أن أُخفي قُدرتي الخارقة.
ثانيًا: ألّا أسمح لمديرة الميتم بسرقة تعويضي المالي.
نظرتُ من حولي بعينين ترتجفان.
«لا أحد هنا، صحيح؟»
وبعد لحظات، أطلقتُ طاقةً خفيفة من يدي، فانبثق ضوءٌ أزرق باهت حول كفّي، وظهر عليه نَقشٌ غامض.
“هَفْ!”
سارعتُ بسحب طاقتي، وألقيتُ نظرةً متوتّرة على المكان. لحسن الحظ، لم يكن هناك من يُراقب.
أوه… يا إلهي.
زفرتُ تنهيدةَ ارتياح، وأنا أُدلّكُ ظاهر يدي بقلق.
«إذًا، لا يزال بإمكاني استخدام قدرتي…»
لقد جرّبت ذلك عدّة مرّات خلال الأيام الماضية كلّما وجدتُ نفسي وحدي، والنتيجة كانت دومًا ذاتها.
«لكن لماذا أستطيع استخدام قُدرَتي في هذا السن المبكر؟»
قبل عودتي في الزمن، لم أتمكّن من استخدامها إلا بعد بلوغي الثامنة عشرة…
«مهما يكن، عليّ أن أُخفيها بأيّ ثمن.»
وكأنّها لم تكن موجودة من الأساس. لا أريد أن يُكبّلني هذا “القدَر” مجدّدًا.
«لكن… ماذا أفعل بخصوص الميتم؟»
قدرتي يمكنني كتمُها، لكن الميتم…
«إن عدتُ إلى نفس المكان، فسوف يُسرق مالي من جديد، لا محالة.»
أرغغغ…
رسمتُ في دفتر الرسم شكلًا كاريكاتوريًّا يُشبه المديرة، ثمّ شطبتُ عليه بعلامات × حمراء متتالية.
في الماضي، بعد إغلاق برامشوا،
كلّ الإخوة والأخوات الذين عشتُ معهم حصلوا على تعويضاتٍ ماليّة، ومساكن خاصّة بهم.
وقد كان ذلك ممكنًا لأنّ “فانتِيبي” — أغنى دوقية في الإمبراطورية — تولّت أمرَ إعادة التوطين.
لكن أنا… كنتُ طفلةً بلا وصيّ.
فأُرسِلتُ إلى ميتمٍ تابعٍ للكنيسة، مع تعويضٍ ضخم من المال.
«ضربوني، جَوّعوني، أهانوني.»
بل إنّ المديرة والمعلّمات سرقن كلّ تعويضي. أنا واثقة أنّهنّ أنفقنه في القمار.
أيعقل أن يفعل رجال الدين ذلك؟
ومنذ ذلك الحين…
بدأ شَكّي في الكنيسة.
«هِيئ… مالي الذي تعبتُ من أجله…»
زادت حِدّة العلامات التي أرسمها فوق المدير
ة، وكلّي غضب.
لكن بعد لحظات، فقدتُ حماسي، وتوقّفت يدي، وأخرجتُ شفتيّ بتبرّم.
«…أُريد أن أذهب إلى ميتمٍ آخر.»
مكانٍ جيّد.
مكانٍ لا يسرق مالي.
مكانٍ يُطعمونني ثلاثَ وجبات… أو على الأقلّ وجبتين.
ومكانٍ لا أضطر فيه لتقاسم البطّانية مع شخصين آخرين… بل يكفيني مشاركتها مع واحد فقط.
«لكن… هل هذا ممكن؟»
التعليقات لهذا الفصل " 2"