كان جواب سؤال تيه عن إمكانية مساعدتهم لها واضحًا وصريحًا.
لم تتردد طويلًا.
“إذن، أريد سفينة الآن.”
[ما دمتِ تنتمين إلى أعماق حاكم البحر، فكل شيءٍ ممكن. أيّ شيء.]
وما حدث بعد ذلك كان بلا شكّ أكثر الأمور إثارةً في حياة تيه الصغيرة.
“القائدة؟!”
“ملكة الأرواح! ما الذي يحدث بحق السماء؟!”
وقفت تيه مذهولة وسط الناس الذين بدؤوا ينادونها بتوتر.
من أعماق البحر الأسود المتلاطم، كان شيءٌ ضخمٌ يرتفع ببطءٍ نحو السطح.
في البداية، بدا بحجم كف يدها الصغيرة،
لكن مع فوران الفقاعات البيضاء خرج كاملًا إلى العلن.
“ملكة الأرواح استدعت سفينة أشباح!”
لقد كانت سفينة عملاقة شامخة، تمتد إلى السماء كأنها خرجت من أسطورةٍ قديمة.
“إنها سفينة الموتى! أرواحٌ هائمة!”
وكما قال الناس، كانت أطيافٌ رمادية شفافة تتحرك بلا توقف فوق سطحها.
صرّت السفينة الفارغة صريرًا غريبًا وهي تُنزل جسرًا خشبيًا صغيرًا للصعود.
تجمعت الظلال السوداء حولها لتدلها الطريق.
ترددت قليلًا وهي تتبع الأرواح، ثم التفتت نحو الرصيف.
كان الناس هناك يحدقون بها بوجوهٍ مذهولة.
قالت بخجلٍ طفولي:
“هل هناك أحدٌ يريد أن يأتي مع تيه؟”
لم يأتِها أي رد.
فرفعت كتفيها ببساطة وقالت:
“حسنًا، تيه ستذهب وحدها لتنقذهم.”
كانت الأرواح بالنسبة للآخرين مجرّد أشكالٍ ضبابيةٍ لا ملامح لها،
لكن تيه كانت تراهم بوضوحٍ مدهش —
ألوان شعرهم، أعينهم، التجاعيد التي تظهر عندما يبتسمون، وحتى انتفاخ خدودهم.
“يا لهم من طيبين…”
تمتمت وهي تبتسم، ثم خطت داخل الجسر.
وفي تلك اللحظة بالذات—
“اسمحي لي أن أذهب معكِ!”
ركضت ماريان من بين الحشود.
وقفت أمام الجسر ويداها ترتجفان بشدّة.
“أريد الصعود أيضًا. يجب أن أنقذ راوول وإنزو… كليهما!”
حدّقت فيها تيه بدهشةٍ ثم أومأت بحماسٍ طفولي:
“نعم!”
وتنحّت جانبًا لتفسح لها الطريق.
استنشقت ماريان الهواء بعمق، ثم صعدت إلى السفينة المليئة بأرواح الموتى.
ومنذ تلك اللحظة بدأت الشائعات:
أن ملكة الأرواح، قائدة أغابيرت، قادرة على استدعاء أرواح الأعماق كما تستدعي الهياكل العظمية.
***
السفينة التي استدعتها تيه — والتي سمّتها السفينة الشراعية —
انطلقت بسرعةٍ نحو موقع الحجر السحري،
ثم التصقت بجانب السفينة التي استولى عليها مرتزقة “كلاب الموت”.
“ما هذا بحق الجحيم؟!”
تجمّد الرجل الذي كان على وشك قتل باستو وهو يرى ظلًا هائلًا يغطيه.
رفع رأسه فرأى مشهدًا لم يصدّقه عقله.
كانت السفينة المريبة الهائلة ترتفع فوقهم كجدارٍ أسودٍ يبتلع الضوء.
أشرعتها الممزقة تصرخ مع الرياح كأن أشباحًا تبكي فيها،
وصواريها الثلاثة تميل كأنها توشك على الانكسار.
مرّ شيءٌ غامضٌ خلف السور المتشقق، فارتجف الرجل وأسقط سلاحه من الذعر.
“قائد! إنها سفينة ملكة الأرواح!”
صرخ ريكار وهو يهرع إلى قائده كال.
“ماذا تقول؟!” صاح كال بوجهٍ شاحب.
“كيف يمكن لملكة الأرواح أن تصل إلى هنا بنفسها؟!”
قبل الإبحار،
كان كال قد أفسد جميع سفن القرية، خشية أن تهاجمهم أغابيرت أو أن تصلهم تعزيزات.
بعضها أحدث فيه ثقوبًا أسفل الهيكل،
وبعضها أزال منه الأحجار الموازنة.
ورغم أن باستو أنقذ آخر سفينةٍ سليمة بسرعة،
إلا أن كال لم يهتم، لأنه كان ينوي تحطيمها بسفينته الكبيرة على أي حال.
‘ظننت أنه لن تبقى سوى هاتين السفينتين… لن تصل أي تعزيزات من البر.’
لكن السفينة التي أمامه الآن كانت أكبر من سفينته التجارية نفسها.
مهترئة، مظلمة، ومع ذلك لا تهتزّ رغم العاصفة العاتية.
“يبدو أننا تحركنا بوضوحٍ أكثر من اللازم! كان علينا أن نتذكر أن ملكة الأرواح قادرة على استدعاء الموتى!”
كان ريكار يرتجف بجنون، عيناه شاحبتان، وسواره الحديدي يرنّ كلما ارتعشت يداه.
“ريكار!” ناداه كال.
لكن ريكار لم يُجب، فقد بدت عيناه زجاجيتين بلا بؤبؤ، وجسده يبرد تدريجيًا.
“…ريكار…”
وسقطت من شعره قطرة ماء.
لمسها كال بيده فشعر ببرودتها الشديدة — كأنها مياه بحرٍ من الأعماق.
استدار كال بسرعةٍ فرأى رجاله مطروحين أرضًا،
بعضهم منكفئ على جانبه، وبعضهم ممددٌ على ظهره، يهمهمون:
“سنموت… سنموت جميعًا…”
كانت أجسادهم مبللة بالكامل، وعيونهم خالية من الحياة.
“اللعنة!”
وفي تلك اللحظة سُمع صوتٌ من فوق رأسه.
رفع كال رأسه فارتجف؛
رأى ملكة الأرواح تيه ممسكة بسور السفينة الغارقة،
تحيط بها أرواحٌ سوداء تتماوج في الهواء.
“أيها العدوّ اللدود لعمي باستو!”
كان صوتها الطفوليّ يرنّ في الهواء، يحمل مزيجًا من الجدية والبراءة.
كاد كال يضحك من المشهد الغريب لولا الرعب الذي يخنقه.
“حول سفينتي تسري لعنة الموتى! وخاصة عندما تلامس صمت الأعماق!”
توقفت تيه لحظة، ونظرت إلى جانبها حيث أومأت روحٌ سوداء بخفة.
ثم رفعت رأسها من جديد وقالت بصوتٍ مهيبٍ لا يليق بطفلةٍ في عمرها:
“برودة أعماق البحر ستغرس الخوف في أرواحكم! ولن تنجوا إلا بملاقاة الموتى أنفسهم!”
تجمّد كال في مكانه،
رجاله لم يعودوا في وعيهم، والماء يتساقط من أجسادهم رغم أنهم لم يلمسوا البحر.
[خافوا أكثر…]
همس صوتٌ غريبٌ في أذنه.
“اللعنة! من هناك؟!” صرخ كال واستدار حول نفسه بجنون.
[أجل، هكذا…]
هبّت نسمة باردة على أذنه الأخرى.
ارتجف بشدة وصرخ: “اختفوا! اختفوا أيها الأشباح!”
بدأ يهزّ رأسه ويغلق أذنيه وهو يترنّح،
وحين التفت بحثًا عن رفاقه… لم يجد أحدًا.
“…ريكار؟”
ناداه بصوتٍ مرتجف.
لكن الماء بدأ يتقاطر من شعره هو الآخر،
وشيءٌ ما زحف من تحت قدميه صعودًا على جسده.
“أر… أرجوك، أنقذني…”
تمتم بخوفٍ لا يجرؤ معه على النظر للأسفل.
ثم خيّم الصمت.
اختفى صوت المطر، وصوت الأمواج، وحتى زئير الوحوش.
لم يبقَ سوى سكونٍ ثقيلٍ يُطبق على المكان.
“أنقذ… أنقذ…”
[كال ووربن!!!]
دوّى صراخٌ مرعبٌ في الفضاء، فصرخ هو الآخر وأغلق عينيه بقوة.
وحين فتحهما، رأى أمامه امرأةً شاحبة تمسك بذراعيه الاثنتين.
ملابسها مبللة بالدماء، جسدها مثخنٌ بالجراح،
وعيناها غائرتان في وجهٍ باهتٍ لا حياة فيه.
[دفعتَ زوجي إلى الهلاك، وتركتنا طعامًا للوحوش… أخبرني، كيف كان شعورك حين نجوتَ وحدك؟]
كانت تلك إيف — زوجة باستو الراحلة —
المرأة التي تركها كال تموت في قرية بان أنرا حين اجتاحتها الوحوش.
اقترب وجهها البارد حتى كاد يلامس أنفه،
وانفرجت شفتاها الخاليتان من التعبير،
ثم تمزقتا بابتسامةٍ مرعبةٍ وهي تهمس:
[أيها الكريه…]
“لي… ليلي…” تمتم كال بذعر.
[يبدو أنك مستعد لتتألم كما تألّم زوجي… وابنتي ليليا أيضاً.]
التعليقات لهذا الفصل "36"