رغم أن الفوضى كانت تعمّ المكان، إلا أن الصوت كان يبدو واضحاً بشكلٍ غريب، كأنه ينبعث من قاعةٍ فارغة لا صدى فيها سوى صداه.
[سيدتي، لقد انتظرنا. انتظرنا كثيراً.]
ظل الصوت المثير للقشعريرة يكرر العبارة نفسها بلا انقطاع.
ابتلعت تيه ريقها بتوتر.
كانت المعركة ما تزال مستمرة في الأفق البعيد.
رجال السفينة يقاتلون حتى الوحوش الطائرة التي هاجمتهم من السماء.
الوقت ينفد بسرعة، والوضع فوضوي لا يُحتمل.
‘من أنتم؟’
فجاءها الرد فوراً:
[سيدتي، نحن خدمك.]
اتسعت عيناها دهشة.
خدم؟
‘الخدم يعني التابعين؟’
لكن لم يكن هناك أحد من أتباعها في أعماق البحر يتحدث إليها بهذا الشكل.
‘تيه لا تملك خدمًا. أتباع تيه هم العم باستو، والأخ بيل، والجد نوردكس فقط… هاه؟’
[لا، نحن كنا أولاً. نحن هنا منذ البداية. دائماً من أجلكِ يا سيدتنا. فقط من أجلك.]
كانت كلماتهم تتردد في ذهن الطفلة، كأنها قادمة من أعماق سحيقة.
فكرت تيه للحظة، ثم سألت بصوتٍ خافت يشوبه التردد:
‘إذن، هل تستطيعون مساعدة تيه الآن؟’
كانت تحدق بالسفينة البعيدة التي يوجد فيها باستو وبيل.
سفينة الحاكمة ماريان التي استعاروها كانت قد تحطمت نصفين تقريباً.
‘هل يمكنكم أن تفعلوا ما تطلبه منكم تيه؟’
إذا استمر الأمر على هذا النحو، فالسفينة ستغرق، والجميع سيسقط في البحر.
باستو، وبيل، وابنا الحاكمة ماريان، كلهم في خطر.
ثم جاءها الرد…
عندها فقط ارتسمت على وجهها الطفولي ابتسامة خفيفة.
وانطلقت من فمها الصغير همسة واثقة:
“إذن، أريد سفينة الآن.”
***
“يا هذا! استفق!”
فتح راوول عينيه على إثر صفعةٍ قوية على خده.
كانت رؤيته مشوشة للحظة، ثم اتضح أمامه وجه امرأة. * مترجمة: ليه كل اللي يشوف بيل لأول مرة يفتكره امرأة 🤔 *
وجه أبيض مستدير، عينان كبيرتان حادتان، يحيط بهما سوادٌ عميق.
وبينما يحدق مذهولاً بجمالها، صفعته ثانية على خده الآخر.
“أما سمعتني؟ قلت استفق!”
“هاه!”
نهض راوول بارتباك.
وبينما يدور رأسه، بدأت الذكريات تعود سريعاً:
كان يصطاد مع إنزو،
ثم هبّت عاصفة مفاجئة،
وحين حاولا تفادي الدوامة التي نشأت في البحر، اصطدمت سفينتهما بشيءٍ ما.
“…الحجر السحري…”
“أجل، أيها الأحمق! إن كنت قد أفاقت عقولك، فانهض بسرعة! ألا ترى ما نحن فيه؟!”
كلماتها الحادة كانت تتناقض مع جمال ملامحها، فبقي راوول يحدق فيها مذهولاً.
رفع رأسه نحو السماء المظلمة،
كانت الأمطار تهطل بغزارة، والرياح تزداد قوة.
“لماذا أنتِ هنا؟!”
سألها دون وعي، فالظروف كانت مرعبة، وهذا المكان لا يمكن أن تكون فيه امرأة بهذه الرقة.
في تلك اللحظة، مالت السفينة بعنف وارتفع جانبها الأيسر.
أمسك راوول بسياج خشبي ومد يده نحوها،
لكنها كانت قد تشبثت بشيء آخر بإحكام.
“يجب أن ننتقل إلى السفينة الكبيرة! أخوك ذهب إليها بالفعل!”
أخوه؟ هل تعني إنزو؟
عندها فقط لاحظ السفينة الأكبر حجماً المتلاصقة بسفينتهما.
حول ساريتها الشاهقة كانت تدور وحوش طائرة، وتحتها يشتد القتال.
لكن ما أدهشه هو…
“لماذا يقاتلون بعضهم؟ أليس عليهم أن يهاجموا الوحوش؟”
أجابته المرأة بضجر وهي تتسلق السور الخشبي:
“تشبه أخاك كثيراً. حتى في مثل هذا الوقت تطرح الأسئلة! وهل هذا وقتها؟!”
ثم رمقته بنظرة حادة وأردفت سريعاً:
“اسمع جيداً، لن أكرر كلامي. أنا، وذاك الرجل الضخم هناك، وهؤلاء القلّة، كلنا مدنيون جئنا لإنقاذكم وكدنا نموت لأجلكم.”
“……”
“أما أولئك الأوغاد ذوو العصابات الحمراء فهم من فرقة المرتزقة ‘كلاب الموت’،
هؤلاء الحقيرون هم من عرقلونا حين كنا نحاول الوصول إلى اليابسة معكم بأمان.”
اتسعت عينا راوول.
بدأت الصورة تتضح أمامه.
‘إذن هؤلاء هم من استأجرتهم والدتي لحمايتي انا وأخي.’
لكن فرقة “كلاب الموت” انقلبت عليهم وجعلت الكل في خطر.
تجهم وجهه.
كان يعرف أن المرتزقة كثيراً ما يختلفون حول المال،
لكن أن يفعلوا هذا أثناء انفتاح الحجر السحري؟!
رفع بصره نحو السماء حيث الوحوش تحلق.
قالت المرأة بصوتٍ متوتر:
“لا ترفع رأسك كثيراً، فخطرنا ليس في السماء فقط. إن أردت أن تعيش، فكن يقظاً.”
التفت نحوها، فرأى مخلوقاً مروعاً يتسلق السفينة المقابلة،
جسده لامع مغطى بمئات العيون الصغيرة،
وأذرع طويلة كمجسات تضرب الخشب وتسحقه وهي تزحف إلى الأعلى.
لم يكن مخلوقاً عرفه البشر من قبل.
‘…اللعنة.’
ارتجف عموده الفقري من الخوف الغريزي.
لقد توقع شيئاً كهذا حين رأى الحجر السحري يخرج من البحر،
لكن الوضع الآن كارثي.
“علينا أن نصعد للأعلى أولاً…”
أشار راوول إلى مؤخرة السفينة الصغيرة المتشبثة بالسفينة الكبيرة،
لكن فجأة—
دوّى صوت الموج العاتي، واهتزت السفينة بعنف.
“يا فتى! انتبه—!”
اختل توازنه، وانفلتت قبضته.
شعر بجسده يطفو في الهواء والوقت يتباطأ على نحو غريب.
‘راوول، إنزو… ما واجب الفارس في ساحة المعركة؟’
سمع صوت أبيه القديم يتردد في ذهنه.
كان ذلك في اليوم الذي خرجت فيه الكتائب الأربع لتحاصر حجراً سحرياً ضخماً.
جلس التوأمان قرب النار وضحكا قائلين:
‘ولمَ تسأل؟ طبعاً القضاء على العدو!’
ابتسم الأب برفق وقال:
‘عادةً نعم. لكن مهمتي مختلفة قليلاً.’
‘هاه؟’
‘مهمتي أن أحميكما. وعدت أمكما بذلك.’
‘……’
‘قد لا يكون هذا ما يجب على الفارس فعله، لكن أنتما وأمكما أغلى عندي من أي شرفٍ آخر، تفهمان؟’
كانت لمسته على رأسيهما دافئة وحنونة.
وقد وفى بعهده في النهاية—
أنقذ راوول وإنزو، وقاتل في المقدمة حتى مات.
‘…أبي.’
لم يكن أبوه يتمنى سوى أمرٍ واحد: أن ينجوا.
ارتطم وجه راوول برذاذ البحر فعاد إلى وعيه.
وفهم أن تلك الأمنية لن تتحقق هذه المرة.
مرّ أحد مجسات الوحش قريباً جداً منه،
فأخذ نفساً عميقاً وأغمض عينيه بقوة.
“أيها السيد العزيز! لاااااا!”
دوّى انفجار هائل، وتحطم سطح السفينة والوحش معاً.
لكنه لم يسقط في البحر،
بل على شيءٍ ناعمٍ دافئ.
فتح عينيه بسرعة، فرأى قشّاً يتطاير في الهواء.
“ماذا…!”
“أيها السيد العزيز!”
ظهر أمامه وجه صغير…
شعرٌ مبلل يلمع بالماء،
وعينان بلون خضرة الربيع،
وخدان ممتلئان، وفمٌ صغير تنفرج شفتاه عن سنين صغيرتين ناصعتين.
“أيها السيد العزيز! الآن أصبحت بخير! تيه جاءت لتنقذك!”
كانت طفلة صغيرة.
‘ما الذي… حدث للتو؟’
قبل لحظات فقط كان على وشك السقوط في البحر المليء بالوحوش.
السفينة كانت تغرق، والموت حتمي.
فكيف نجا؟
نظر حوله، فرأى أنه ممدد على سطح سفينة ضخمة،
مغطاة بالقشّ الرطب في كل مكان.
وبعيداً، كان علمٌ ممزق يرفرف في الريح.
أخشابها مهترئة، مثقوبة هنا وهناك،
ومع ذلك كان هيكلها شامخاً مهيباً.
“أيتها الصغيرة، أنتِ…!”
ركضت المرأة التي أيقظته نحوه،
توقفت مبهوتة وهي تحدق بالسفينة الهائلة.
وفي الصمت الذي عمّ بينهما،
انطلق صوت طفولي ناعم مفعم بالحماسة:
“أخي بيل! تيه استدعت البُنبُني، لا، أقصد السفينة الشراعية!”
التعليقات لهذا الفصل "35"