مع بروز هيكل السفينة الضخم فوق الأمواج، ارتفعت المياه العاتية حتى غمرت الأرصفة بأكملها.
قطّبت تيه حاجبيها وهي تلتفت نحو مصدر الضجيج.
“…اللعنة، الأشرار جاؤوا مجدداً.”
كان كال واقفاً فوق قمة الصارية العالية، يسند جسده بثقة ويبتسم ابتسامة خبيثة وهو يحدّق نحو الأسفل.
“لا تقولوا إنكم تنوون اقتحام الحجر السحري بأنفسكم؟ أخبركم مسبقاً، ذلك الحجر قد وُسم باسمي سلفاً!”
صرخ أحد مرتزقة فرقة كلاب الموت قائلاً:
“نعم! تخلّوا عن فكرة اقتحامه! أول من سيظفر بالحجر السحري الذي ارتفع من البحر سيكون سيدنا كال!”
انطلقت ضحكات مستفزة من المرتزقة المنتشرين على ظهر السفينة، بينما تمتمت تيه بوجه متبرّم:
“ما سألناكم ولا يهمنا، فلمَ كل هذا الصراخ؟”
ارتجف بعض المرتزقة بخفة، فقد بدا وكأن تلك العبارة الصغيرة تحمل سحراً خفياً.
لكن تيه، دون أن تعبأ بهم، وضعت يديها على خصرها ورفعت رأسها نحو السفينة العملاقة قائلة:
“هيه! جدّف جيداً أيها القبيح كال!”
عند سماع كلمة قبيح، برز عرق غاضب على جبين كال.
ومع ذلك تابعت تيه بثقة مدهشة رغم صغر سنّها:
“أنا، ملكة الأرواح المهيبة، أتنازل لك عن الحجر السحري هذه المرة أيها القبيح!”
ساد الهمس بين مرتزقة كلاب الموت، فقد ظنّوا أن فرقة أغابيرت كانت تنوي اقتحام الحجر أيضاً، فكيف يتنازلون عنه الآن؟
تابعت تيه بصوت طفولي وملامح جادة:
“افعل ما تشاء! رغم أني أتمنى أن تغرق في قاع البحر أيها القبيح، إلا أنك إن اقتحمت الحجر فسيسعد الناس في القرية!”
ارتجفت يد كال القابضة على الصارية.
هل تسخر مني؟
وإلا فكيف تتحدث بهذه الوقاحة؟
وما زاد غضبه أن وجه تيه بدا جاداً ومهيباً، كأنها تعني كل كلمة قالتها.
قال كال بابتسامة ملتوية:
“كل هذا التظاهر بالقوة… وفي النهاية تبين أنك خائفة؟ هل هذا كل ما تملكه مرتزقة أغابيرت؟!”
فردّت تيه بثقة ومرح:
“صحيح! كيف عرفت؟! نحن أربعة فقط حتى الآن، ولو خرج وحش يشبه التيرانوصور فسأخاف قليلاً!”
صمت الجميع للحظة، بينما تابعت تقول بابتسامة مشرقة:
“لكن أنت لديك الكثير من الأتباع، لذا لا مشكلة! وسفينتك رائعة جداً أيضاً! بالتوفيق أيها القبيح!”
تجمّد وجه كال تماماً.
بينما استدارت تيه عنه بلا مبالاة وكأنها فقدت الاهتمام به كلياً.
ثم لوّحت لـ باستو وبيل وهي تقول بمرح:
“نلتقي بعد قليل~!”
وأمسكت بيد الحاكمة ماريان برفق.
“يا حاكمتنا~ لنذهب إلى مقر الإدارة قبل أن نبتلّ من المطر~؟”
كان تصرفها اللطيف مع الحاكمة نقيضاً تاماً لطريقتها الفوضوية مع كال.
هل كانت تمثّل؟ إن كان هذا تمثيلاً، فهي مجنونة حقاً.
قال نائبه ريكار هامساً إلى كال:
“سيدي، ما العمل الآن؟”
زمجر كال بنبرة متوترة وهو يحدّق في ظهر تيه الصغير البعيد:
“اتركوهم. لن نخسر شيئاً.”
“وماذا عن الخطة التي ذكرتها سابقاً؟”
“ستُنفّذ كما هي.”
تحولت نظرات كال إلى باستو الذي كان على متن سفينة أصغر، مشغولاً بتجهيز الدفّة.
“ذلك الوغد المزعج… هذه المرة سأقتله حقاً.”
لقد منحه فرصاً كثيرة، لكنه رفض الخضوع له.
ولو أنه تخلّى عن كبريائه وتبعه، لما اضطر لقتله.
“حين تغرب الشمس، نفّذوا ما أمرتكم به.”
كان ينوي استغلال فوضى الغروب لقتل باستو، وبموته سيتضرر أغابيرت وتيه معاً، فيكسب من الجهتين.
‘كان باستو مقاتلاً في الخطوط الأمامية عادةً، ومثل هؤلاء يُعدّون كنزاً بشرياً لأي فرقة مرتزقة. فكيف بفرقة حديثة التأسيس؟’
ابتسم كال ابتسامة شرسة وهو يراقب باستو يرفع المرساة.
***
“ما الذي يفعله هؤلاء الحمقى بحق الجحيم؟!”
زمجر بيل وهو يتشبث بدرابزين السفينة التي كانت تتأرجح تحت عصف الرياح والمطر.
ومن بين الضباب الكثيف، بدت سفينة ضخمة تلاحقهم على مسافة ثابتة.
قال أحد البحّارة بجانبه:
“لست متأكداً، لكنهم قالوا إنهم سيهاجمون الحجر حين ينفتح الصدع، ربما يجرون استطلاعاً مسبقاً؟”
صرخ بيل بغضب:
“إذن لماذا يتبعوننا من الخلف بدلاً من الذهاب مباشرة إلى الحجر؟ أيتصرّفون مثل كلابٍ على وشك التبوّل؟!”
ارتبك البحّارة من نبرته الغاضبة، فقال باستو بهدوء وهو يمسك بالدفة:
“لا تهتم بهم يا بيل. هدفنا الآن هو العثور على ولدي الحاكمة فقط.”
ثم تابع بصوت حازم وهو يتفقد الأفق:
“أبقوا المراقبة على الجانبين. ماكترين وجين، تأكدا من أي إشارة استغاثة.”
تحرك الطاقم بسرعة.
كانت السفينة تدور ببطء حول ساحل بيرسيتي بحثاً عن أثرٍ لـ راوول وإنزو، تحسباً أن تكون سفينتهما قد رست في مكان ناءٍ.
لكن لم يُرَ أي أثرٍ لهما.
قال باستو بصرامة:
“تحسباً فقط… ابحثوا إن كانت هناك جثث أيضاً.”
أومأ بيل بصمت، وهو يفكر بقلق:
إن كانا قد ماتا، فربما جرفتهما الأمواج منذ زمن…
ومع ذلك، لم يشأ أن يخذل الحاكمة ماريان التي تبحث عن ولديها بلهفةٍ أموميةٍ لا تهدأ.
“لا شيء في الجوار. أودّ التحقق من الخلف أيضاً، لكن…”
زمجر بيل وهو يضرب الدرابزين بقبضته:
“اللعنة! من أين حصل هؤلاء الأوغاد على سفينة ضخمة كهذه؟! بدل أن يساعدونا، يحجبون الرؤية تماماً!”
قال أحد البحّارة:
“يبدو أنهم اشتروا سفينة ركّاب كاملة. أحد ملاك السفن فرّ هذا الصباح، أظنها سفينته.”
“اللعنة عليهم! بالكاد نرى شيئاً في هذا الطقس، وهم أيضاً يحجبون الرؤية!”
ضاق بيل ذرعاً، فتسلّق بحبل إلى مؤخرة السفينة وصرخ بأعلى صوته نحو سفينة كال:
“انصرفوا! قلت انصرفوا أيها الحمقى!”
سمع صوتاً غامضاً من بعيد، لكنه لم ينتظر ليفهم، بل تابع الصراخ:
“ماذا تهذرون؟ قلت اختفوا من ورائنا! تحركوا! ألا تسمعون؟!”
وأشار بيده نحو اليسار، حيث كان الحجر السحري يسطع وسط البحر قائلاً:
“وجهتكم هناك! هناك الحجر أيها العميان!”
لكنه صمت فجأة.
تصلّب جسده، ثم اتسعت عيناه بقلق، فقفز من المؤخرة وبدأ بتسلّق الصارية إلى منصة المراقبة.
وحين وصل القمة، تجمّد وجهه، ثم صرخ بصوتٍ شقّ العاصفة:
“باستو! الحجر!”
رفع باستو رأسه بقلق، والبحّارة ينظرون إلى بيل بتعجّب.
صرخ مجدداً:
“هناك سفينة مربوطة بالحجر! تكاد تنجرف مع التيار القوي!”
أدار باستو الدفة بسرعة.
وصاح أحد البحّارة وهو يمسك بالمنظار:
“صحيح! لا نرى بوضوح بسبب الموج، لكن هناك بالفعل شيء متدلٍّ من الحجر! يبدو كقارب صيد صغير!”
نزل بيل من الصارية، ثم التفت فرأى سفينة كال تغيّر اتجاهها لتتبعهم.
قال بصوت منخفض:
“باستو… ألا تراهم غريبين؟”
“بماذا تعني؟”
“مجرد شعور… ملاحقتهم لنا، تصرفاتهم كلها غريبة.”
“أعلم.”
قطّب باستو حاجبيه وأضاف بجدية:
“قرب الغروب… حين يحلّ الظلام، سينفتح الصدع داخل الحجر السحري.”
هزّ بيل رأسه بتوتر.
‘لكن هذه المرة الحجر في البحر… لا نعلم ما الذي سيخرج منه.’
قال بقلق:
“ربما علينا الانسحاب قبل فوات الأوان. برأيي هذا أخطر من اللازم…”
قاطعه باستو بصوت هادئ:
“قلت إنك افترقت عن والديك وأنت في الثانية من عمرك، أليس كذلك؟”
أطبق بيل شفتيه بصمت.
“أما ليليا، فلم تفترق عني يوماً طوال سبع سنوات. ولا مرة واحدة.”
التعليقات لهذا الفصل "33"