أسندت “تيه” ظهرها إلى الجدار، وجمعت ركبتيها بين ذراعيها بإحكام.
ثم واجهت الحجر الذي ظل يحدّق بها منذ قليل، دون أن تتهرّب هذه المرة.
في البداية كانت خائفة، لكن كلما أطالت النظر إليه، ازداد يقينها.
‘……إنه تانيپانغ.’
لقد تحوّل، وأظهر السحر.
صحيح أن شكله بدا مختلفاً بعض الشيء، لكنه لم يكن خطأ، إنه تانيپانغ بلا ريب.
تشجعت “تيه” قليلاً، وزحفت إلى الأمام متخطية مسافة صغيرة.
وعيناها الصغيرتان تلمعان وهي تتأمل الحجر عن كثب.
‘من الرأس حتى أخمص القدمين… كلّه أسود.’
خفق قلبها بعنف.
لعل ما قاله والدها عن قدومه من عالمٍ آخر كان صحيحاً حقاً.
لعل أباها كان فارساً مقدساً بالفعل، يرافقه جنّي صغير…
وأن هذا الكائن الحجري أمامها لم يكن سوى ذلك الجني، وقد جاء ليعيد والدها للحياة؟
“كـ… كامنغپانغ…….”
همست باسمٍ ارتجالي بصوتٍ حالم.
فأمال الحجر رأسه متسائلاً.
حينها اندفعت “تيه” برجاءٍ شديد:
“أنقذه، أرجوك!”
اقتربت زاحفة على ركبتيها، وضمت كفّيها بتضرع.
“سيدي كامنغپانغ! أرجوك… أعد أبي إلى الحياة!”
[أأعيده للحياة؟]
في البداية، لم تصدّق ما تسمع.
حتى “تيه” كانت تعلم أن الأموات لا يعودون.
لكن… أليس هذا ما ينطبق على البشر فقط؟
أما الجني، فربما الأمر مختلف!
‘بإمكانه أن يعيد أبي.’
تحوّل الشك إلى يقين، واليقين إلى أمل.
شعرت كأن جناحين نما لها، يحلقان بها بعيداً عن الحزن والوحشة.
لكن بينما كانت تنتظر الجواب بلهفة، جاء صوته فجأة:
[إن أردتِ أن أعيد أباكِ……]
وقف الجني برشاقة، ثم حدّق بعينيها مباشرة وسأل:
[فعليكِ أن تتركي “هنا”. هل تستطيعين ذلك؟]
ارتسمت على وجه “تيه” ملامح حيرة.
ما معنى “هنا” بالضبط؟
هل يقصد الغرفة التي عاشت فيها مع أبيها؟
أم يقصد هذا الزقاق؟
أم أنه يعني أنها لن تعود إلى الروضة أبداً؟
[كل شيء. كل ما عشتهِ هنا… عليكِ أن تتركيه وراءك.]
كأن الجني قرأ ما يدور في بالها، فأجاب مسبقاً.
ارتسمت على وجه “تيه” سحابة من الكآبة.
كل شيء يعني كل الذكريات… الجيدة والسيئة.
يعني أن تترك خلفها الجدة في الشقة 107، والعمة في الشقة 203، وكل الذكريات السعيدة التي عاشتها مع والدها هنا.
بينما بقيت عاجزة عن الرد، خطا الجني خطوة نحوها.
[ومع ذلك… إن كنتِ ترغبين، فسأعيده لك.]
“……”
[إلى المكان الذي ولدتِ فيه. حيث كان يجب أن تكوني. إلى العالم الذي لا يزال ذاك الرجل حيّاً فيه.]
شهقت “تيه” نفساً صغيراً.
كان الأمر صعباً عليها، لكن شيئاً واحداً بقي واضحاً.
أبوها… كان دائماً أغلى ما تملك.
ولم يتغير ذلك قط، لا مرة واحدة.
“…سأذهب.”
هزّت رأسها موافقة.
وما إن فعلت حتى انطفأت فجأة جميع مصابيح الشارع التي كانت تنير الزقاق.
ارتجّت نافذة الشقة 106 تحت وطأة الرياح.
الغطاء المطوي بعناية، والرسوم الملوّنة المعلقة على الحائط،
كوب الأسنان الذي يحوي فرشاتين غير متساويتين… كلها أخذت تهتز.
ثم عادت أضواء الشارع لتضيء.
لكن الشقة 106 كانت قد فرغت تماماً.
كأن أحداً لم يعش فيها يوماً.
—
“أووم……”
فتحت “تيه” عينيها، فإذا بها مستلقية على ما بدا كأنه غيمة قطنية ناعمة.
لكنها سرعان ما ارتجفت ذعراً.
‘هذه ليست غيمة قطنية!’
المكان الذي كانت مستلقية فيه لم يكن سوى سرير وثير ناعم الملمس.
عندها فقط استعادت وعيها كاملاً.
“……أبي.”
حين عادت إلى ذهنها الأحداث التي جرت قبل أن تغفو، أخذ قلبها يخفق بقوة.
وفي تلك اللحظة سمعت صوتًا غريبًا ينبعث من جوارها مباشرة.
“لقد استيقظتِ.”
قفزت تيه من مكانها بفزع. كان صبي لم تره من قبل واقفًا بجانب السرير.
لكن بينما كانت تشد الغطاء لتختبئ، لمحَت فيه شيئًا مألوفًا، فأمالت رأسها متسائلة:
“كّامانغبانغ……؟”
شعر أسود قاتم كليل السماء.
عينان متلألئتان كالجواهر، وأذنان بارزتان قليلًا فوق رأسه.
وحين هزّ الصبي رأسه اختفت الأذنان، لكن تيه كانت واثقة.
“كّامانغبانغ! كنتَ تستطيع أن تتحوّل إلى إنسان كل هذا الوقت!”
تبدّل وجه الصبي فورًا إلى ملامح متبرّمة. ثم قال بصوت خالٍ من أي انفعال:
“أنا؟”
“هاه؟”
“لا تقولي إن ذاك الـ’كّامانغبانغ’ الذي ظللتِ تنادين به من قبل هو أنا؟”
أمالت تيه رأسها حائرة. كانت تظن أنه ذكي بما يكفي، فهو يستخدم السحر ووعد بإعادة أبيها إلى الحياة.
لكن يبدو أن كّامانغبانغ يشبه أولئك الأطفال في الروضة الذين يخطئون دائمًا في نطق أسمائهم.
“إييه! لأنك جنّي…….”
“لستُ كذلك.”
“هاه؟”
“لستُ كّامانغبانغ.”
شهقت تيه وأطبقت فمها. لا عجب أنه ظل يقطّب حاجبيه على الدوام، لقد كانت تفهم الأمر خطأ.
حقًّا، لم يسبق لها أن رأت تانيبانغ قادرًا على التحوّل لإنسان ثم يعيد الموتى إلى الحياة.
‘كّامانغبانغ، لا، كّامانغ فقط… يبدو أنه جنّي أعظم. ربما من أولئك الذين يظهرون في الأساطير……’
أوه! هل يمكن أنه ليس تانيبانغ بل بوبيتّـمون؟
ففي حالة بوبيتّـمون، هناك مستويات أسطورية تستطيع حتى السفر عبر الزمن.
‘مؤكد.’
بدأت تيه تتلفّت بحذر حولها. قبل أن تغفو كانت في البيت، لكنها الآن في مكان آخر تمامًا.
وهذا يعني أنّها انتقلت فورًا من مكان إلى آخر.
قد يبدو هذا المكان كغرفة عادية فيها سرير ضخم وأغطية وثيرة، لكن……
‘إنه خيمة.’
حين أبصرت الستار المتدلّي فوقها أدركت أنّها داخل خيمة.
“كّامانغ، ما هذه الخيمة؟”
“كّامانغ…… لا بأس.”
تنهد كّامانغ بعمق لسبب لم تفهمه. ثم شبك ذراعيه وأجاب:
“إنها مسقط رأس أبيك. ألم تقولي إنكِ تريدين المجيء؟”
“……مسقط رأس أبي؟”
“أجل.”
اتسعت عينا تيه شيئًا فشيئًا.
‘مسقط رأس أبي، تالوتشيوم، بلد جميل. قبل أن تظهر الأحجار السحرية كان أجمل بكثير…… على أي حال، إنه أوسع من هنا بكثير، والهواء فيه أنقى…….’
كانت عينا أبيها تتلألآن كالنجوم كلما تحدّث عن وطنه. وقد سمعت تيه منه الكثير عن تالوتشيوم حتى كأنها تعرفه حق المعرفة.
“المشكلة أنني، حتى أنا، لم أستطع أن أعيد أباك إلى الحياة.”
لكن كلمات كّامانغ التالية بدّدت ذكرياتها كالدخان المتناثر.
حدّقت تيه إليه بوجه مرتبك يملؤه التوتر.
‘لم يستطع أن يعيد أبي إلى الحياة؟’
إذن، لم يستطع أن ينقذه فعلًا؟
هل يعقل أنني جئتُ إلى مسقط رأس أبي من دونه؟
صُدمت بهذا الخبر غير المتوقع، فتصلّب جسدها.
لكن كّامانغ أضاف بهدوء:
“لذلك جئنا إلى الماضي.”
فانطفأت فجأة كل قواها. سألت بذهول:
“جئنا إلى الماضي……؟”
“أجل. ما دامت العودة بالزمن ممكنة، فكل شيء سيُحل.”
عقدت تيه ما بين حاجبيها بكل ما أوتيت من قوة، وبدأت تُعمل فكرها إلى أقصى حد.
الزمن قد عاد إلى الماضي.
أي أنّ تيه، القادمة من العالم الأصلي، أي من المستقبل، قد انتقلت إلى الماضي!
وهذا يعني……
“إذن صار في الدنيا تيهان؟”
انفجر كّامانغ ضاحكًا، ثم اتجه نحو مدخل الخيمة وفتح الباب.
“محاولة جيدة، لكنها أخطأت الهدف. نحن الآن في زمن يسبق ولادتك بسنوات طويلة.”
فتحت تيه فاها مندهشة أمام المشهد المنبسط.
غابة.
كانت تلك أول مرة ترى فيها غابة حقيقية.
خطت خطواتها مأخوذةً، فإذا بمنظر الغابة وقد بان أوضح مع أول خيوط الفجر.
أشجار صنوبر عالية تكاد تخترق السماء.
وبينها أشجار صغيرة متفتحة الأوراق، وكروم متشابكة، وحزاز مبلل بالندى……
“في هذا العالم، لن تولدي إلا بعد سبع سنوات.”
بدأت العصافير تزقزق.
“حتى لو قابلتِ أباك، فلن يعرف من أنت.”
تجمعت الدموع في عيني تيه شيئًا فشيئًا.
“بل ليس هناك ضمان أن تلتقيه أصلًا. هذا المكان أوسع بكثير مما تظنين.”
“سأجده!”
استدارت تيه بجسدها، وعلى وجهها المبتل بالدموع ارتسمت ابتسامة مشرقة.
“طالما أن أبي على قيد الحياة، فأنا قادرة على العثور عليه!”
حتى لو لم يتعرف إليها، لا يهم.
حتى لو عاملها ببرود على أنها طفلة غريبة، فلا بأس.
يكفي أن تلتقيه مرة أخرى، أن تراه حيًّا معافًى!
تنفست تيه بجرأة، وأدارت عينيها حماسًا.
‘أبي قالها بنفسه. كان أقوى الفرسان المقدسين على الإطلاق.’
ولأن تيه كانت دائمًا تصغي بإخلاص إلى قصص أبيها التي يرويها كل ليلة، فقد كانت تعرف:
“فلننطلق، كّامانغ!”
كانت تعرف أن مقر فرسان الإمبراطورية المقدسين يقع في العاصمة.
لكن لم يطل الوقت حتى أدركت تيه الحقيقة.
أن الحياة ليست سهلة كما تظن.
“هف… هف… ما هذا…….”
لقد شعرت أنها قطعت مسافة طويلة.
لكن حين التفتت، رأت الخيمة التي خرجت منها لا تزال مرئية من بعيد.
“لماذا لم أبتعد سوى هذا القدر……؟”
ومن جانبها، تنهد كّامانغ تنهيدة عميقة بلا سبب ظاهر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"