الفصل 25
شعرت تيه وكأنها صارت دمية قطنية مبتلة تمامًا.
جسدها المنكمش كان ثقيلاً للغاية، فلم يتحرك بسهولة، ولم تعد تدري كم من الوقت قد مر.
وفوق رأسها كان الأفق يكتسي شيئًا فشيئًا بلون الغسق القرمزي.
‘حتى لو قابلتِ أباكِ، ذلك الرجل لن يعرف من تكونين.’
في البداية، لم تفهم تيه بدقة ما كان يعنيه كلام تانيبانغ.
فظنت أنه مجرد كلمات مبهمة نابعة من قلقه.
لكنها الآن بدأت تفهم.
تفهم تمامًا ما الذي كان يعنيه ذلك الكلام.
هي التي ظلت تنادي أباها بيأس.
الأب الذي التفت نحوها للحظة حين سمع صوتها.
ثم، سرعان ما أدار رأسه بلا اكتراث.
حين فكرت في ذلك… خارت ما تبقى من قواها، فدفنت وجهها بين ركبتيها.
وكانت دموعها تنهمر قطرةً قطرةً على الأرض.
“أستيه!”
“يا صغيرة-!!”
“تيه؟”
رنّت أمامها أصوات مألوفة.
رفعت تيه رأسها أخيرًا.
تحت وهج الغسق، رأت ثلاثة أشخاص واقفين.
باستو، وجهه شاحب.
بيل، ملابسه غارقة بالعرق.
نوردكس، ملامحه متوترة.
إنهم أعضاء “أغابيرت” الذين جمعتهم تيه… رفاقها.
شهقت تيه، والتقطت أنفاسها.
وبمجرد أن رأت حالهم، أدركت من تلقاء نفسها.
لقد ظلوا يبحثون عنها طوال الوقت.
كانت ترغب أن تعتذر لهم لأنها أقلقتهم، لكن…
“… أه… قِـق.”
ما إن فتحت فمها، خرجت شهقة مع حازوقة رغماً عنها.
“قِق… هـه… إه.”
وفجأة انفجرت كل المشاعر التي كانت تكبتها، وغمرتها موجة من الحزن.
“آه… عمو… وأوبا.. وجدي…”
“…….”
“أبي… أبييي…”
‘تيه، أنت تعلمين أن أباكِ يحبكِ أكثر من أي شيء في هذا العالم، أليس كذلك؟’
ذلك الأب الذي كان يحتضنها دومًا ويقبّل خدها.
‘ابنتي هي كنز أبيها. ما دام أبيكِ يملككِ، فهو قادر على فعل أي شيء… أي شيء حقًا.’
الأب الذي كان في أيامه العصيبة يضمها بصمت ويغرس وجهه في كتفيها الصغيرين طويلاً.
لكن ذلك الأب، حين نظر إلى تيه الآن، ابتعد عنها ببساطة.
وكأنها مجرد غريبة.
جرت الدموع حزينةً على خديها بلا توقف.
“أبييي… قِق… أشتاق إليك يا أبي… هـه…”
لقد كانت تشتاق لأبيها.
أباها الذي كان يعانقها بقوة كما في الماضي، لا ذاك الذي أشاح بوجهه عنها.
“كنت أظن… هـه… أن كل ما عليّ فعله هو الوصول إلى العاصمة فقط…”
لطالما كان هدف تيه الوحيد أن تصل إلى العاصمة.
كانت تعتقد أن ذهابها إلى مقر فرسان المعبد سيجعلها تلقى أباها.
لكن بعدما أعرض عنها قبل قليل، بدأت الأجزاء المنسية تطفو على السطح.
ماذا بعد أن تلتقي أباها؟
ماذا ستكون الخطوة التالية؟
لقد تأكدت للتو.
في هذا العالم، بالنسبة لأبيها… تيه ليست إلا شخصًا غريبًا.
وكانت فكرة أنها ستتقبل عدم اعترافه بها مجرد وهم كبير.
لأنها الآن أدركت شيئًا بديهيًا:
‘أن ينسى الأب ابنته… يعني أنه لم يعد يحبها كما كان.’
قد يعني أيضًا أنه بات يراها عبئًا… أو لا حاجة له بها.
خارت قواها أكثر فأكثر.
لقد عاشت الأمر ذاته حتى في كوريا.
لم يكن كل البالغين يحبونها.
الجدة في الشقة 107 أو السيدة في الشقة 203 كانتا تهتمان بها.
لكن هناك سيدة أخرى كانت تكرهها.
وحين كان قدرها أن تقضي النهار تحت رعايتها، لم يكن يومها يمر دون أن تسمع التذمر طوال الوقت.
‘يا إلهي… لولا أنه أصلح لي المرحاض لما وافقت على رعاية هذه الطفلة. ليست ابنة أخي ولا لي بها أي صلة… مجرد إزعاج لا أكثر.’
ذلك الطبق الفظّ الذي كانت تضعه على الطاولة.
وتلك النظرات الباردة التي تمنعها من الاقتراب.
بالنسبة لبعض البالغين، الأطفال ليسوا سوى مصدر إزعاج.
لأنهم يتطلبون الكثير من العناية والجهد.
فماذا لو صارت تيه بالنسبة لأبيها في هذا العالم مثل ذلك؟
‘… لن أستطيع. لن أستطيع فعلها.’
لم تملك الجرأة لتقول الحقيقة.
لم تستطع أن تعترف بأنها في الحقيقة ابنته.
وتدفقت دموعها الحزينة كحبات اللؤلؤ على وجنتيها.
‘حتى لو التقيت أبي مجددًا، فلن يعود كل شيء كما كان.’
ربما كانت تيه تتمسك بأمل خفي.
كانت تصدق أنه بمجرد أن تراه، سيعود كل شيء كما في الماضي.
لكن الواقع لم يكن بتلك البساطة.
في النهاية، كان تانيبانغ محقًا في كل ما قاله.
‘الأب الذي في جونغنو… ‘
لقد انتهى الأمر في اللحظة التي عاد فيها جثمانه في صندوق التذكارات.
حين غادرت تيه جونغنو، كانت قد تخلت عن كل شيء هناك.
فقط، أدركت هذه الحقيقة متأخرة جدًا.
وهذا ما جعل دموعها تنهمر بلا توقف.
مرة تلو أخرى، دون أن تهدأ.
***
“اللعنة… هذا جنون.”
وضع بيل يده على جبينه وهو ينظر إلى تيه النائمة.
“ماذا سنفعل الآن؟ الطفلة ليست بخير!”
“اخفض صوتك يا بيل.”
قال باستو بصرامة، فقبض بيل على أسنانه لكنه تبعه مع نوردكس إلى الممر.
وما إن أغلق الباب حتى بادر نوردكس بالكلام:
“هل عرفتم شيئًا عن عائلة لومينين؟”
تبادل باستو وبيل نظرات ثقيلة.
العائلة التي يُرجّح أن والد تيه ينتمي إليها أكثر من غيرها… هي عائلة لومينين.
لقد تحققوا بالفعل في أمر أفرادها صباحًا، لكن…
“لم نصل لشيء حاسم. فلا واحد من الأمراء الأربعة يناسب أن يكون والد تيه.”
“وماذا عن دوق لومينين، رئيس العائلة؟”
“بالحقيقة، هو الاحتمال الأقوى.”
كان الدوق رجلاً عجوزًا يناسبه وصف الجد أكثر من الأب.
لكن ذلك لا يعني أنه بلغ سنًا يمنعه من الإنجاب.
“وإن كان هو، ألن يملك من السلطة ما يكفي لطرد تيه من العائلة؟”
“لكن هناك ما يثير الشك في ذلك.”
تدخل باستو قائلاً:
“لقد قالت تيه ذلك بنفسها. إنها كانت تعيش مع أبيها وحدهما حتى وقت قريب.”
ساد الصمت بين بيل ونوردكس.
فقد تذكرا أيضًا.
تذكرا أن تيه قالت تلك الكلمات.
“إن كان ما تقوله صحيحًا، فهذا يعني أن تيه عاشت دائمًا مع دوق لومينين وحدهما. لكن الدوق لم يغب يومًا عن المناسبات الرسمية، أليس كذلك؟”
فالينتيس لومينين كان لا يزال يشارك أحيانًا في حصار الأحجار السحرية.
ظل يتنقّل بين ساحات القتال بلا توقف، وحين يطول الحصار كان كثيرًا ما يمكث أشهراً يخيم عند تخوم الحجر السحري.
لكن شخصًا كهذا كان يعيش مع تيه وحدهما؟
“صحيح، هذا غير منطقي.”
“ثم إن الصغيرة قالت إن أباها لن يتذكرها، لأنه وقع تحت تأثير سحر النسيان.”
لكن من الذي يجرؤ على العبث بذاكرة فالينتيس لومينين؟
سيد عائلة لومينين وربّما أعظم الفرسان المقدّسين؟
بأي حال، بدا أن الدوق فالينتيس بعيد كل البعد عن صورة “الأب” الذي تحدثت عنه تيه.
“ربما مكان والد تيه ليس قصر دوق لومينين أصلاً…”
“لكن، من غير لومينين يوجد من يستحق أن يُدعى الفارس المقدس الأقوى؟”
ساد الصمت بين الثلاثة وقد خيّم عليهم الإحباط.
وفيما الصمت يثقل الأجواء، فتح بيل الباب قليلاً.
ومن خلال شقّ الباب رأى تيه وقد غلبها البكاء حتى نامت.
“يا لها من حمقاء صغيرة. أي ملك أرواح هذا الذي تتحدث عنه…”
كان القلق مرسومًا بوضوح على وجه بيل.
“كل ما تفعله هو البكاء شوقًا لأبيها…”
وبما أنها كانت المرة الأولى التي يرون فيها تيه تبكي بتلك المرارة، فقد خيّم الصمت على نوردكس وباستو أيضًا، ولم يجد أي منهما ما يقوله.
“غدًا، سأذهب أنا إلى <جيستر>.”
قالها باستو حينها.
“بيل، اعتنِ أنت بتيه. فـ ‘جيستر’ دائمًا تعج بالمرتزقة، وربما نجد هناك أخبارًا أكثر عن فرسان المعبد.”
وإن حالفهم الحظ، ربما يجدون فارسا مقدسًا آخر يمكن أن يكون والد تيه المفقود.
وبينما كانت هذه الفكرة تدور، تمتم نوردكس بهدوء:
“أيها الرفاق… ما رأيكم أن نسألها مباشرة؟”
التفت إليه بيل وباستو.
“عن اسم أبيها الحقيقي. عن هيئته، وأين كان يعيش.”
التعليقات