الفصل 24
الطابق السفلي لمطعم الحانة ذات القفازات الحمراء.
“باستو! ألست تملك ذرة من الشجاعة؟ تظهر بعد غياب طويل ثم يكون أول ما تسأل عنه اللعنة على هؤلاء الفرسان المقدسين؟!”
أنزل أحد المرتزقة الضخام كأسه الخشبية على الطاولة محدثاً دوياً.
ارتفع حاجب باستو قليلاً.
لكن قبل أن يفتح فمه، تقدّم بيل.
“هذا مثير للضحك. يعني يجب أن نستأذن منك قبل أن نسأل أي سؤال؟ هل علينا أن نرفع أيدينا لنأخذ إذناً بالحديث؟”
“أنت، من تكون؟ وجه لم أره من قبل.”
“طبعاً لم تره من قبل، هل كنت ستراه مرتين؟ يا مجنون، هل تعتقد أنك تعرف وجوه جميع البشر؟ متعجرف وبغيض حقاً.”
“أ- أنا لم أقصد……!”
“اصمت. ألم تسمع أنني طلبت منك أن تتكلم بما تعرفه عن عائلة لومينين؟ قلت لك إن وقتي ثمين.”
تردد المرتزق الضخم قليلاً ثم رفع الكأس من جديد، متجنباً نظرات بيل، وبدأ يتكلم.
“عائلة… عائلة لومينين، أي عائلة الفرسان المقدسين تلك…….”
ارتسمت على وجهه تعابير معقدة.
عائلة لومينين.
المكان الذي يفيض برجال يستحقون أن يُدعَوا أقوى الفرسان المقدسين في الإمبراطورية.
وكان رئيس العائلة، فالينتيس لومينين، يملك أربعة أبناء. (انه جد تيه)
وجميعهم كانوا يملكون مناصب رفيعة داخل فرسان المعبد، كلٌّ منهم شخصية كبيرة بحد ذاته.
“إن لم تخني الذاكرة، فالبكر إدموند لومينين يشغل منصب المستشار العسكري. الثاني قائد لواء، والثالث مسؤول عن القسم الطبي بأكمله.”
“وهذا كل شيء؟! تحدثت وكأنك تملك معلومات خطيرة، لكن ما قلته لا يساوي شيئاً!”
“لا! هناك المزيد!”
صرخ المرتزق غاضباً وأردف بعجلة.
“الرابع! في الآونة الأخيرة اختفى أثر الابن الرابع لعائلة لومينين. لا أحد يعرف، ربما اعتزل للتدريب في مكان ما.” ( الأبن الرابع هو والد تيه)
تبادل باستو وبيل النظرات.
ثم سألا تباعاً.
“ماذا؟ هل قيل إنه أنجب طفلاً؟”
“هل لديه امرأة؟ ويقال إنهما أنجبا طفلة معاً. عمرها الآن أربع سنوات تقريباً؟”
اتسعت عينا المرتزق في دهشة وسأل بلهجة مذهولة:
“ما هذا الهراء؟! ذاك الصغير ما زال فتى يافعاً، كيف يعقل أن يكون له طفلة؟”
ثم رفع يده يعدّ على أصابعه أمام باستو وبيل.
“ذلك الصغير، ربما تجاوز سن البلوغ للتو العام الماضي. فكيف يمكن أن يكون له طفلة في الرابعة؟ بالحسابات هذا مستحيل…….”
“إذاً ليس هو الصغير.”
“بالضبط، ليس هو.”
لمعت أعين باستو وبيل من جديد.
“وماذا عن بقية أبناء العائلة؟”
“أتعني الأول والثاني والثالث؟”
“……أيها الغبي. إن استثنينا الصغير، فبالطبع هم الثلاثة الباقون. أتظن أن هناك آخرين؟ هل لديك عقل في رأسك؟”
“س- سألت فقط للاحتياط!”
قال المرتزق محرجاً ثم بدأ يئن متردداً:
“صحيح أنهم في سن مناسب للزواج، لكن لم أسمع قط أنهم أسسوا أسراً أو أنجبوا.”
عائلة لومينين كانت أسرة من كبار النبلاء.
حافظت دوماً على علاقة ودية مع العرش الإمبراطوري، وفوق ذلك كله كانت العمود الفقري الذي يقود الفرسان المقدسين المعروفين بـ’حماة النور’.
“لو كان في عائلة لومينين مناسبة كهذه، لما خفي الأمر عنا. على الأرجح كانوا سيقيمون زفافاً ضخماً في العاصمة.”
“……أجل، صحيح. هؤلاء الفرسان لو أرادوا الزواج لدعوا الإمبراطور والإمبراطورة وأقاموا احتفالاً مبالغاً فيه حتى يثير الاشمئزاز.”
إذن لم يبقَ إلا احتمال واحد.
اقترب بيل من المرتزق الضخم وانحنى نحوه.
“ما احتمال أن يكون فالينتيس لومينين، رئيس العائلة، قد أنجب طفلاً متأخراً من امرأة أخرى؟”
“فالينتيس لومينين؟!”
تفاجأ المرتزق بشدة وفتح عينيه على وسعه.
ثم هز رأسه بعنف.
“ذلك الرجل ليس من هذا النوع! يعرفه كل سكان الإمبراطورية بأنه كرس حياته كلها في حب قديسة ريتشارد، فكيف…….”
قديسة ريتشارد.
هذا هو اللقب الذي يطلق على زوجته، إلينورا، أم أبناء لومينين الأربعة.
إلينورا كانت المرأة التي امتلكت أعظم قوة مقدسة في التاريخ.
وحكاية حبها مع فالينتيس لومينين كانت أسطورة يعرفها كل إنسان في الإمبراطورية.
وفعلاً، أنجبا معاً أربعة أبناء، ما يكشف عن عمق المودة بينهما دون الحاجة للتفسير.
غير أن رأي بيل كان مختلفاً بعض الشيء.
“سخيف. لماذا برأيك يقال ‘لا أحد يعرف ما يجري بين الزوجين’؟ أيها الغبي.”
ارتبك المرتزق، لكن بيل تابع بحدة.
“قد يبدوان أمام الناس في غاية الانسجام، كأنهما يعيشان قصة حب القرن، لكن الحقيقة بينهما لا يعلمها سوى هما.”
لقد تعلم بيل هذا من واقع خبرته حين كان يعمل في الدير.
طلبات السيدات النبيلات للتخلص من أزواجهن الخائنين بالسم كانت تأتيه بمعدل مرة كل شهر تقريباً.
وبالعكس، لم يكن قليلاً عدد الرجال الذين أرادوا التخلص من زوجاتهم.
المضحك أن كلاً منهم كان يظهر للعامة حياة مثالية بلا شائبة.
في الخارج، يضحكون ويظهرون الحب، وفي الخفاء يبحث كل طرف عن طريقة لقتل الآخر.
“لو كان لفالينتيس لومينين ولد غير شرعي، فربما يكون ذلك مرتبطاً أيضاً بالحادثة التي جرت للقديسة إلينورا…….”
“باستو! بيل!”
في تلك اللحظة، اندفع أحدهم لاهثاً من الدرج.
كان صاحب الشعر الأبيض المتطاير هو الجد نوردكس نفسه.
توجهت الأنظار كلها نحوه، فصرخ بصوت مرتجف:
“ا- القائدة قد اختفت!”
***
“تبا! إلى أين ذهبت تلك الصغيرة؟”
مسح بيل العرق المتصبب عن جبينه وهو ينعطف عند زاوية زقاق.
وبسبب سرعته الكبيرة في الجري، اضطر أن يمسك بأنبوب معدني مثبت على الحائط ليدور في الهواء قبل أن يتابع اندفاعه.
“استيه! استيه-!”
سمع من بعيد صوت باستو الملهوف ينادي.
ربما لأنه جرّب فقدان طفل من قبل، فما إن سمع خبر اختفاء تيه حتى شَهِدَت عيناه انقلاباً شبه كامل.
وكاد وهو ينهض من مقعده أن يحطم إحدى الطاولات تماماً.
أما نوردكس فقد توجه مباشرة إلى الساحة ليتأكد ما إذا كان أحد المارة قد رأى تيه.
“ها…….”
كان بيل يفرك صدغيه حين توقف فجأة.
تجمّدت عيناه على الأنبوب المعدني الذي كان ممسكاً به.
وفي اللحظة التالية، أمسك به دون تردد وبدأ يتسلقه صاعداً إلى الأعلى.
‘إن صعدت للأعلى فلا بد أن أرى شيئاً.’
لقد مضى زمن طويل منذ تحركه بهذه الطريقة، فتفصّد العرق البارد على صدغيه، لكن ذلك لم يكن مهماً الآن.
لا يعلم كم صعد.
إلى أن بلغ بيل السطح، وتمسّك بالحافة ثم وقف فوقها.
وكما توقع، انكشف أمامه مشهد الشارع كاملاً.
وفي مدى بصره الواسع، لمح نوردكس في الساحة القريبة.
كان يتحدث مع أحد المارة، ثم فجأة انطلق يعدو باتجاه المرفأ.
قطّب بيل حاجبيه.
“لا يكون…….”
وانصرفت عيناه نحو البحر المظلم المتلاطم.
ثم اندفع هو الآخر يركض فوق أسطح المباني باتجاه المرفأ.
“أيها الأحمق.”
تفلتت الشتيمة من بين شفتيه.
صحيح أنه كان يمازح استيه يومياً فقط لأن ردود فعلها كانت لطيفة، لكنه كان يعلم أنها طفلة استثنائية.
ولهذا ظن أن الأمر سيكون بخير.
أن يتركها وحدها في الغرفة لساعتين أو نحو ذلك.
“لكنها في النهاية لا تزال في الرابعة فقط، هذا الغبي…….”
شدّ بيل أسنانه وضغط بقوة أكبر على ساقيه.
وحين بلغ آخر مبنى قفز نحو أكياس الحبوب المكدسة على الأرض.
وفي تلك الأثناء كان نوردكس وباستو قد وصلا بالفعل إلى المرفأ.
“هناك من قال إنه رأى استيه تتجه نحو المرفأ!”
وما إن لمح نوردكس بيل حتى بدا عليه الاضطراب.
“ل- لا يمكن! لا بد أنه خطأ. البحر…… لم أقصد أن…… كان عليّ أن أبقيها في الغرفة…… أنا…….”
أما باستو فقد غدا وجهه لا شاحباً فحسب، بل أزرق باهتاً من شدة الفزع.
وفي تلك اللحظة وقعت عينا بيل على شيء.
“……ما هذا؟”
أقصى طرف المرفأ.
في مكان تكدست فيه بضائع مهملة.
بدت نقطة صغيرة منكمشة هناك.
“تيه!!”
“……أيتها الصغيرة!”
“استيه!”
وما إن أدرك الثلاثة أنها استيه، حتى اندفعوا جميعاً نحوها دون تردد.
التعليقات