الفصل 23
تيستان؟
بيل حدّق بالرجل بعينين متفاجئتين.
شعره بدا وكأنه لم يستفق تماماً من النوم، وتعبير وجهه متكاسل وخطواته بطيئة.
لكن كتفيه العريضتين وبنيته القوية أشاعت جوّاً حاداً، وفي عينيه الباردتين تلألأت حدّة غامضة.
بيل شدّ جسده متوتراً دون أن يدرك.
‘الوحش يظل وحشاً، أليس كذلك؟’
الهالة المتدفقة من تيستان كانت هائلة حقاً.
طغت طاقته على المكان من حوله، بل بدا وكأنها تخنق أجواء النزل بأكمله.
“لقد غفوت أكثر من اللازم فيما يبدو.”
تمطّى تيستان وهو يتثاءب متحدثاً.
راح يتفقد الطابق الأول بهدوء، ثم توقفت عيناه عند نقطة ما.
أمام المنضدة.
حيث كان نوردكس وبيل وباستو.
ضيّق تيسيتان عينيه تتمتم:
“ما الأمر يا لوودِي. كنت ترفع أسعار المبيت بحجة قلّة النزلاء. أرى أن تجارتك مزدهرة الآن، أليس كذلك؟”
هبّ صاحب النزل يلوّح بيديه نافياً بسرعة.
“أي ازدهار! هي مجرد فترة موسمية مؤقتة هذه الأيام. على كلٍّ، بخصوص الأجرة، هل أخصمها من المبلغ الذي دفعتَه مسبقاً؟”
أطبق تيستان شفتيه ثم أومأ برأسه بفتور.
مظهره كان وكأنه لا يبالي.
لكن ما إن أدار جسده ببطء حتى توقفت عيناه فجأة عند مكان ما.
فوق كتف باستو.
هناك، حيث كان رأس تيه مغطى بالقماش الأسود.
تيستان قطّب جبينه وهو يحدّق بالقماش المنتفخ.
“ذلك هو…….”
في تلك اللحظة.
“سيدي القائد! السفينة وصلت! آه، أقول لك وصلت الآن!”
امرأة حمراء الشعر اقتحمت النزل فجأة.
اختفى الفضول الذي ارتسم على وجه تيستان.
أطلق تنهيدة أشبه بالتأفف وأدار جسده مبتعداً.
ثم بخطوات متهاونة اجتاز مجموعة باستو، وخرج مصفقاً الباب خلفه.
سادت لحظات من الصمت، ثم تمتم بيل:
“أليس كذلك؟ إنه زعيم تريفا.”
أومأ باستو ونوردكس برأسيهما.
“صحيح.”
زعيم فرقة المرتزقة الكبرى تريفا، تيستان.
شيطان يسفك الدماء، جزار الوحوش، الشبح، المدمّر……
ما من أحد في الإمبراطورية يجهل تلك الألقاب المروّعة.
“بالفعل، حضوره طاغٍ.”
“صدقت. سمعت أنه يستخدم أسلوب سيف غريب، أليس كذلك؟”
“آه، وأنا سمعت. ماذا كان يُسمى… أسلوب نبلاء لكنه مبتذل؟ ما هذا الهراء أصلاً؟ هل تراه يختلق أي كلام حتى يبدو مميزاً؟”
قهقه صاحب النزل، لوودي، وهو يستمع إلى حديثهم.
“هاهاها! وهل تنتشر مثل هذه الشائعات عن زعيم تريفا؟”
توجّهت أنظار الجميع إليه.
“ليست قولة خاطئة تماماً. فلو كان الأمر عن تيستان، فذلك الوصف يليق به بالفعل.”
قطّب باستو حاجبيه.
“هل تعرف شيئاً إضافياً عنه؟”
لكن لوودي لوّح بيده نافياً.
“أوي، حتى لو علمت فلن أجيب. لا أريد أن أفقد زبائني المخلصين.”
ثم صفق بيديه محاولاً تغيير الأجواء.
“على كل حال، الأهم الآن أن نقرر بشأن الغرف…….”
عندها أخرجت تيه رأسها من تحت القماش وقد استيقظت لتوها.
اتسعت عينا صاحب النزل اندهاشاً.
أما بؤبؤا تيه فقد اتسعا قليلاً أيضاً، لكنها سرعان ما استوعبت الموقف.
“مـ، ما هذا يا باستو! إذا وصلنا، كان عليك إيقاظي!”
وبملامح متعجرفة، راحت تضرب باستو على كتفه بخفة.
وما إن نزلت إلى الأرض حتى رفعت رأسها عالياً وحدّقت مباشرة في لوودي.
“إحم! ليلتان. وعلى الحساب.”
ارتسمت على وجه لوودي علامات ذهول أمام طلبها الواثق.
لكن تيه سرعان ما أبرزت له شارة المرتزقة الجديدة اللامعة.
“أنا، زعيمة أغابيرت، ملكة الموتى، سأردّ لك المبلغ ثلاثة أضعاف لاحقاً.”
كل ذلك وهي غافلة عن الأثر المستقيم البارز على جبينها من أثر النوم.
***
بعد أن سمع لوودي شرح باستو، منحهم غرفة باسم أغابيرت.
بل بدا عليه الاندهاش حين علم أن تيه استدعت هيكلاً عظمياً عند البوابة.
“هُم هُم~”
أخذت تيه تدندن وهي تتذكر كيف كان فم لوودي يتدلى من الدهشة.
الغرفة التي دخلوها كانت نظيفة وواسعة.
على الجدارين وُضعت سريران، وغطاءاتهما ناصعة ولامعة.
“أخيراً أستطيع أن أتقلب كما أشاء وأنام بارتياح، تيه.”
أومأت تيه بحماس.
“نعم!”
الغرفة التي خصصها باستو لتيه كانت قريبة من النافذة.
قفزت تيه على السرير وألقت نظرة إلى الخارج.
خلف الزحام الذي يملأ الساحة، امتدّ البحر بلا نهاية.
“مدينة بيرل سيتي…….”
بعد كل ذاك المشي على الطريق الرملي، أن ترى البحر المشرق أمامك فجأة.
وطن أبيها كان يفاجئها في كل لحظة.
أخذت تيه تستعيد الحلم الذي رأته وهي على ظهر باستو.
‘تيه، يبدو أن تجارتك مزدهرة.’
لم تعلم السبب، لكن والدها في الحلم كان يلعب معها لعبة أدوار.
الأب زبون، وتيه صاحبة نزل؟
خُيّل لها أنها لمحت ملامح وجه أبيها بوضوح.
“تيه، انتظري هنا قليلاً. عليّ أن أنزل مع بيل إلى الطابق الأول.”
قال باستو وهو يضع أمتعتهم.
كانوا يخططون لإجراء بعض التحريات عن والدي تيه في مطعم النزل السفلي.
أجابت تيه بحماس وهي تسحب حقيبتها للأمام:
“نعم! سأبقى هادئة في غرفة تيه!”
ابتسم باستو وربّت على رأسها مرتين.
وبعد أن غادر الغرفة، تأكدت تيه من أن الباب مغلق بإحكام، ثم صعدت مجدداً إلى السرير.
وبسبب التصاق السرير بالجدار، جلست بسهولة على حافة النافذة.
“الرجال للسفن! والنساء للميناء~”
وبدأت تدندن لا شعورياً بأغنية كانت عمّتها في الغرفة 203 تغنيها دوماً،
“هاه؟”
توقف غناؤها فجأة.
على الطريق المزدحم أمام النزل.
وسط الحشود المتجهة نحو الميناء، شدّ انتباهها ظهر شخص مألوف.
“هـ، هه……؟!”
شهقت تيه وهي تمسك النافذة وتنتصب واقفة.
لم يكن هناك شك.
رداء رمادي داكن، والناس يحيطون به.
وذاك الرجل في المقدمة.
قفزت تيه عن السرير متدحرجة واندفعت نحو الباب.
أمسكت بمقبضه وفتحته بسرعة، ثم ركضت نحو أقرب درج رأته.
كان ذاك الدرج يقود إلى الباب الخلفي للنزل، وقد لمحته وهي تصعد سابقاً.
وما إن خرجت حتى شعرت برأسها يدور وهي تحاول العثور على الطريق.
‘السقف الأزرق، السقف الأزرق……!’
من هنا.
ذلك الرجل الذي سار… لقد اتجه من هنا.
وما إن استدارت تيه متجنبة المارة عند المنعطف، حتى انكشف أمامها طريقان متفرعان.
وفي لحظة ارتباك، تاه بصر تيه ولم يعرف أين يمضي.
لكن عند أقصى الطرف من الطريق الأيمن، أبصرت رجلاً يصعد درج الرصيف.
“أبي!”
انفلتت الصرخة من تيه دون وعي.
فذلك الرجل، حتى من شكل مؤخرة رأسه، كان يشبه أباها كثيراً.
لم تشعر بارتجاف يديها المرتعشتين، بل واصلت الركض.
غير أن الزحام المتكدس عند الرصيف حال دون تقدمها إلى الأمام.
“عفواً، عفواً……!”
تفادت عجوزاً ضخم الجثة.
وتجاوزت امرأة شابة تحمل أكياساً مثقلة بالطعام.
كانت تركض بكل ما أوتيت من قوة، لكن كلما بدا أنها اقتربت قليلاً، ابتعد الرجل أكثر فأكثر.
وفي النهاية، بينما كانت تلتف متجنبة الحشود المزدحمة، كان الرجل قد صعد إلى سفينة ضخمة.
“أبي! أبي-!!!”
في عجلةٍ من أمرها، نسيت تيه حتى أنها يجب أن تتظاهر بكونها ملكة الموتى، وصرخت بأعلى صوتها.
لكن صوت البوق الطويل للسفينة غطّى على صوتها تماماً.
“ما هذا؟”
اصطدمت بحقيبة أحدهم فسقطت إلى الخلف متدحرجة.
شعرت بأنفها يحترق ألماً، لكنها انتصبت من فورها كدمية لا تسقط.
ثم تابعت مترنحة حتى بلغت بصعوبة شديدة طرف الرصيف الأخير.
إلا أن الرجل كان قد استقل السفينة، وهي الآن تغادر الميناء بلا تردد.
“أبييييي……!”
انفجرت بالبكاء دون أن تدري.
راحت تخبط بقدميها وتنظر أسفل الرصيف، فلم يكن هناك سوى البحر المظلم المتلاطم.
جدران مغطاة بالمحار، وأعشاب بحرية ميتة تطفو متبعثرة……
شدّت تيه قبضتيها وأطلقت صرخة مزّقت حنجرتها.
“أبي، أبي-!!”
وفي تلك اللحظة.
هل وصل صراخها الملحّ حقاً؟
رأت الرجل يدير رأسه نحوها فجأة.
تجمدت تيه من الدهشة، ووقع بصرها في عينيه مباشرة.
ولم يمضِ وقت طويل حتى أيقنت.
‘……إنه أبي.’
ذلك الرجل لم يكن مجرد شخص يشبه أباها.
إنه حقاً والدها.
لكن أباها الذي بحثت عنه طوال هذا الوقت.
ذلك الأب الذي اشتاقت إليه أكثر من أي أحد.
“…….”
لم يفعل سوى أن رمقها للحظة، ثم صرف بصره عنها ببرود وكأنه غير مهتم.
التعليقات