“هااه… لقد قلتُ إنّني سآتي بأسرع ما يمكن، لكن يبدو أنّهم أغلقوا الباب؟”
ظلٌّ ضخمٌ يتسلّل عبر شقّ النافذة. كانت دينيس ملتصقة بالجدار، تُصغي بتركيزٍ إلى صوت الرجل.
“هااه… كنتُ آمل أن ألتقيها اليوم بأي طريقة كانت…”
بدا الرجل في حيرةٍ وهو يمرّر يده على شعره. “مكتب الوكالة القلميّة للكونتيسة دينيس ريهيـنار…” ألقى نظرةً أخرى على اللافتة المعلّقة أمام المكتب، ثم تنهّد بعمقٍ مرّاتٍ عدّة.
“ساعات العمل… حتى غروب الشمس… لكن كيف لي أن أصل إلى هنا قبل غروب الشمس؟”
ظلّ الرجل يتمتم لفترةٍ طويلة، ثم قال: “أعتذر… أنا آسف…” وطرق الباب بأدبٍ قبل أن يصيح بصوتٍ عالٍ:
“كونتيسة دينيس ريهيـنار!”
هل هو مجنون؟ شعرت دينيس بالدهشة إزاء هذا الرجل الغامض الذي يصرخ بصوتٍ عالٍ في منتصف الليل. ما الذي يمكن أن يدفعه لزيارتي في هذا الوقت؟ وما الذي يجعله متعجلًا إلى هذا الحدّ؟ هل قالت خطيبته المحبوبة إنّها ستنفصل عنه إن لم يحضر خطاب الخطوبة؟ لكن، هل يستحقّ الأمر كل هذا العناء؟ كانت دينيس في حيرةٍ من أمرها.
“أعتذر!! أحتاج إلى مساعدتك!!”
حسنًا، ما هي هذه المساعدة بالضبط؟!
“أنا قادمٌ من عائلة دوق بيولو!!”
مجنون.
هل هو مجنون حقًا؟ لماذا يبحث عني من عائلة دوق بيولو؟
***
“ألا تعليق لديكِ؟”
“وماذا عساي أن أقول بعد هذا…؟”
في مكتبٍ مظلم، على طاولةٍ صغيرة، كان مصباحٌ يتوهّج بنورٍ متّقد. جلست دينيس ريهيـنار بهدوء، تتنهد بعمقٍ مرّات.
أمامها، جلس رجلٌ آخر بوضعيةٍ متشنّجة، على عكس استرخاء دينيس. كان مضطربًا، عيناه تتفحّصان تعابير دينيس بقلقٍ واضح. تنهّدت دينيس مرّةً أخرى بعمق، ثم عدّلت جلستها.
“ألستَ السيد مارشال؟”
“هل تعرفينني؟”
“من الصعب البقاء في هذا المكان دون معرفةٍ بمثل هذه الأمور.”
في مكتب الوكالة القلميّة، حيث تتدفّق أخبار المجتمع الراقي، كان معرفة المعلومات عن النبلاء بمثابة مصدر رزقٍ أساسي.
الرجل العجوز الجالس أمام دينيس هو مارشال، الخادم الوفيّ والسكرتير لعائلة دوق بيولو.
ضحك مارشال ضحكةً خفيفةً وقال: “أشكركِ على معرفتكِ بهذا العجوز.” لكن حتى في تصرّفه البسيط، كان هناك لمحةٌ من الأناقة والكرامة.
“ما الذي يدفع عائلة دوق بيولو للبحث عني؟”
إنّها عائلة دوق بيولو، أقوى العائلات النبيلة التي تهيمن على الإمبراطورية.
عائلةٌ تحمي الإمبراطورية بقوّتها العسكريّة، وتحفظ رعاياها بالفضيلة والسلام. يحلم شعب الإمبراطورية بدوق بيولو، وربّما يُضاهي إعجابهم به إعجابهم بالعائلة الإمبراطوريّة ذاتها.
“لدي طلبٌ من الدوق.”
“في هذا الوقت؟”
“أما عن ذلك… فأعتذر مرّةً أخرى عن زيارتي المتأخّرة.”
انحنى مارشال بإفراطٍ في الاعتذار.
لم تكن دينيس تنزي لوم هذا الرجل العجوز الودود بعد كل هذه الاعتذارات. هزّت يدها برفضٍ لطيفٍ وتابعت:
“إذن، ما هو الطلب؟ رسالة حبّ؟ خطاب خطوبة؟ هل قرّر الدوق أخيرًا الزواج؟”
خطاب خطوبةٍ من دوق بيولو؟ لو كان هذا صحيحًا، لكان عرضًا مغريًا حقًا.
دوق بيولو هو الرجل الأكثر شهرةً وغموضًا في الإمبراطورية.
من رآه مرّةً واحدةً لا يكفّ عن الحديث عن وسامته. شعرٌ كبحر الليل وعينان كسماء الليل! كانت دينيس ترى أنّ الناس يبالغون في مدحه.
أمّا من رآه مرّتين، فقد أثنوا على طيبته وأخلاقه. قالوا إنّ ابتسامته الهادئة دائمًا ساحرة. لكن النبلاء ذوي البطون المنتفخة كانوا يتذمّرون، قائلين إنّ هذا كلّه مجرّد انبهارٍ بمظهره.
إذا ما ظهر دوق بيولو في مناسبةٍ اجتماعيّة، تحدّث الناس عنه لأسبوعٍ كامل. مع هذه الشعبيّة، كان من المتوقّع أن يظهر بين الحين والآخر، لكنّه لم يفعل.
إمّا أن يكون في قصره، أو في ساحة المعركة، لا ثالث لهما.
لو انتشرت إشاعةٌ أنّ دينيس كتبت خطاب خطوبةٍ للدوق بيولو… فإنّ مكتب الوكالة القلميّة للكونت ريهيـنار سيغصّ بالزبائن.
ربّما تجني دينيس ما يكفي لتعيش مرتاحة طوال حياتها.
رأى مارشال بريق عيني دينيس، فضحك ضحكةً خفيفةً ومسح زاوية عينيه بيده.
“الأمر ليس كذلك…..”
فتح مارشال حقيبةً جلديّةً بنيّة، وأخرج منها رزمةً من الأوراق ووضعها على الطاولة، ثمّ دفعها نحو دينيس.
“قد يكون من الوقاحة قول هذا لكِ، لكن هل يمكمكِ العمل لدى عائلة الدوق لبضعة أشهر؟”
بدا مارشال مرتبكًا وهو يقول هذا، مبتسمًا بلا داعٍ.
أمسكت دينيس بالأوراق التي قدمها لها بنظرةٍ غير مبالية، وأشارت بعينيها إلى داخل المنزل.
“كما ترى، لستُ موهوبة في الأعمال المنزليّة.”
“وهل نجرؤ على توظيف سيادتكِ لهذا السبب؟”
“إذن، ما السبب؟”
“نريد منكِ كتابة ردودٍ على رسائل الحبّ التي تصل إلى الدوق.”
تقلّصت ملامح دينيس مرّةً أخرى.
نعم، لقد كتبت دينيس العديد من رسائل الحبّ الموجّهة إلى عائلة دوق بيولو. كانت السيدات اللواتي يأتين لطلب خدماته يزرن المكتب بخجلٍ ووجوهٍ محمرّة.
تذكرت دينيس وجوه تلك السيدات اللواتي كنّ يشعرن بالحرج لكونهنّ يقدمن على هذا الطلب لأوّل مرّة، ومع ذلك كنّ مليئات بالأمل بأن يلاحظهنّ الدوق.
كانت دينيس تساعدهن في اختيار الورق الرقيق، و تختار معهنّ العطر الذي يقمن برشه على الرسائل. كان هذا أكثر تصرّفٍ جريءٍ تستطيع الفتيات في مثل عمرهنّ القيام به.
كانت دينيس تشجعهن، متمنية من قلبها أن تعكس كلماتهنّ مشاعرهنّ الحقيقيّة، فتكتب كلّ حرفٍ بعنايةٍ فائقة.
والآن، الطلب الذي وصلها هو كتابة ردودٍ على تلك الرسائل، ومن الواضح أنّها ستكون ردود رفض. واصل مارشال حديثه:
“أعلم أنكِ قد تجدين هذا الطلب غريبًا.”
“لا، الأمرُ ليس كذلك. طلبات كتابة ردود الرفض تأتيني دائمًا.”
“نشكركِ على تفهمكِ. لكن لعائلة الدوق ظروفها الخاصّة.”
على الرغم من أدبه، لم تستطع دينيس إخفاء شعورها بالضيق. التفهّم شيء، والشعور بالانزعاج شيءٌ آخر.
لاحظ مارشال تعابير دينيس وواصل شرحه.
كان المغزى كالتالي: مع وصول دوق بيولو إلى سنّ الزواج، بدأ النبلاء الطامعون في السلطة والفتيات الحالمات بالحبّ بإرسال الرسائل بلا توقّف.
“مكانة الدوق ليست بالهيّنة، أليس كذلك؟” أضاف مارشال.
“نعم، أعلم ذلك أكثر من أيّ شخصٍ آخر.”
حاولت دينيس ضبط حواجبها التي كادت تعكس صراحتها المتّقدة.
تجاهل كلّ الرسائل والخطابات سيثير استياء النبلاء، الذين يزعمون أصلاً أنّ عائلة بيولو تقلّل من شأن سلطتهم، ممّا سيضيف وقودًا إلى نار الخلافات.
لكن كتابة ردودٍ على كلّ رسالةٍ كانت مستحيلةً، إذ كانت الرسائل تتراكم بسرعةٍ تفوق قدرتهم على الردّ. أيّ طريقةٍ كانت ستكون مضيعةً للجهد.
“بعد تفكيرٍ طويل، فكّر الدوق في الاستعانة بمكتب وكالةٍ قلميّة.”
“أليست كلّ هذه الرسائل تمرّ عبر مكاتب الوكالة أصلاً؟ يجب أن يطلب منهم عدم قبول طلباتٍ تتعلّق بعائلة الدوق.”
— سيدي الدوق، هذا أيضًا مصدر رزقٍ للناس.
— والأوراق المتراكمة هناك هي مصدر رزقنا أيضًا.
كان مارشال حكيمًا بما يكفي ليتجاهل سخرية الدوق وهو يشير إلى كومة الأوراق الإداريّة المتراكمة. كان مارشال نفسه بحاجةٍ ماسّة إلى الكونتيسة ريهيـنار، بل ربّما أكثر من أيّ شخصٍ آخر.
كان الدوق، الغارق في انشغالاته، قد أوكل نصف الردود إلى مارشال. زعم أنّ لا سيدةً ترغب في تلقّي ردٍّ من عجوز، لكنّ ذلك لم يجدِ نفعًا.
فهم مارشال الأمر، لأنّه بدون ذلك لن يتمكّنوا من الردّ على جميع الرسائل.
وهكذا، كان الدوق ومارشال يبدآن يومهما بفرز رسائل الحبّ وتقارير العمل منذ الصباح. وبمجرّد أن يبدآ الردّ ومعالجة الأعمال، كانت الشمس تغرب. ثمّ يواصلان العمل على الأوراق المتأخّرة حتى وقتٍ متأخّرٍ من الليل، وعندما يعتقدان أنّهما أنهيا كلّ شيء، تشرق الشمس وتصل رسائل جديدة.
— مارشال، هل حاولتَ عدّ عدد الرسائل التي تصلنا يوميًا؟
— ومتى لي أن أعدّها؟
— حقًا، من الصعب تصديق أنّ هذا العدد من النبلاء يرسلون إليّ رسائل.
— لو أن سموكَ لديه خطيبة، بل لو وقعتَ في الحبّ فقط، لقلّت هذه الرسائل إلى النصف.
— حديثٌ ممتع.
— بما أنّ الأمر كذلك، لمَ لا تختار أجمل رسالةٍ من بينها؟
— أليست كلّها تمرّ عبر أيدي مكاتب الوكالة؟ لا فائدة من الاختيار.
ضحك الدوق ضحكةً خفيفةً، ثم توقّف فجأةً كما لو أنّ فكرةً عبقريّةً خطرت له، وغرق في التفكير.
— ريهيـنار… الكونتيسة ريهيـنار، أليس كذلك؟
تمتم الدوق، ثمّ ابتسم ابتسامةً عريضةً.
— مارشال، لديّ فكرةٌ رائعة. ربّما نجد طريقةً تجعلنا سعيدين جميعًا، طريقةً للهروب من جحيم هذه الرسائل.
“…وهذا ما حدث.”
“حسنًا.”
“أشعر وأنا أتحدّث أنّني أحفر قبري بنفسي. لكن، سيدتي الكونتيسة، نحن بحاجةٍ ماسّة إليكِ. ما تملكينه…”
“سأفعلها.”
“ماذا؟”
“قلتُ إنّني سأفعلها.”
أمسكت دينيس برزمة الأوراق السميكة الموضوعة على الطاولة، ورفعتها إلى ضوء المصباح. فوجئ مارشال بقبولها السريع ونظر إليها بدهشة.
نظرت دينيس إليه وسألت:
“ما الذي يقلقك؟”
“توقّعتُ أنّ إقناعكِ سيستغرق أيامًا على الأقل.”
“حقًا؟”
“بالطبع. ربّما يبدو طلبنا وكأنّه يناقض عملكِ.”
“لو فكّرتُ بهذه الطريقة، لما كنتُ لا أزال على قيد الحياة.”
نظر العجوز إلى عيني المرأة الشابّة الجالسة أمامه. كانت عيناها متّقدتين. هل كان ذلك انعكاس ضوء المصباح على الطاولة؟
لا، كانت عيناها هي التي تتّقد بنفسها.
— ترجمة إسراء
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات