كان الصّوت خافتًا، لكنّه واضح بما لا يمكن تجاهله على أنّه مجرّد وهم.
رايلي، التي كانت على وشك النهوض، رفعت رأسها لتنظر إلى جينيفر.
اصطدمت بنظرة ساخرة بوضوح.
‘تُذكّرني بـ مارغريت.’
في الوقت ذاته، راودها شعور بالظلم إن بقيت ساكنة تتلقّى هذا الصّنيع.
التّعامل بلطف واحترام لا يكون إلا مع من يستحقّ ذلك.
لم تعد هي الآن تلك الفتاة السّاذجة الخجولة التي كانتها في الماضي…
فهي الآن ضيفة دُعيت رسميًّا من قبل الأميرة الكبرى كعضو في عائلة إليستاين الدّوقيّة.
مدّت رايلي ذراعها ببطء، مستندة على جسدها العلويّ، وقالت:
“يبدو أنّ عائلة الكونت راوم لا تُعلّم أفرادها آداب السّلوك كما ينبغي.”
“مـ… ماذا؟”
“أن تنظري إلى من سقط دون مساعدة، بل وتسخري منه، يبدو تصرّفًا متدنّيًا.”
كانت جينيفر تنوي، إن سألتها رايلي عن سبب تعثرها، أن تردّ بـ: “لم أفعل شيئًا، لماذا تفترضين ذلك وتلقين باللّوم على الآخرين؟” لكنّها ارتبكت لحظيًّا.
فكما قالت رايلي، من الأدب أن تسألي، ولو تصنّعًا، عن حال من سقط وتساعديه على النهوض.
حدّقت جينيفر في رايلي بوجه محمرّ من الغضب، ثم تمتمت كأنّها تمضغ الكلام:
“من قال إنّني لم أساعد…”
مدّت يدها بفتور، لكن رايلي تجاهلتها وسألت بنبرة هادئة:
“إذن، أنتِ تعترفين بسخريّتك؟”
“ما هذا الافتراء الذي تلصقينه بي؟”
“حسنًا، يبدو أنّني سمعتُ أصواتًا وهميّة.”
أضافت رايلي ذلك بنبرة واثقة، ثم نهضت بثبات وكأنّها لم تتأثّر أبدًا.
شعرت جينيفر بالضّيق لأنّ الأمور لم تسر كما خطّطت.
فتاة صغيرة كهذه، كان من المفترض أن تبكي أو تُظهر منظرًا بشعًا تحت هذا الضّغط.
كانت تنوي استغلال ذلك لتتّهمها بسوء السّلوك وتطردها من قصر الأميرة، لكن هدوء رايلي أثار استياءها.
في المقابل، راجعت رايلي الموقف بهدوء.
‘لا بدّ أن يكون هناك سبب يجعل خادمة من عائلة كونت تتصرّف بمثل هذه الجرأة.’
من خلال تصرّفات جينيفر وكلامها، يبدو أنّ هذا ليس تصرّفًا عابرًا.
ومع ذلك، استمرارها في منصب الخادمة دون مشاكل يعني أنّ خلفها داعمًا قويًّا.
لذلك، لم تُصرّ رايلي على جينيفر بالسّؤال عما إذا كانت هي من أوقعتها.
“آهمم، إتبعيني.”
“حسنًا.”
بدأت جينيفر تمشي بخطوات سريعة متذمرة، دون أيّ اعتبار لـ رايلي ذات القامة الصّغيرة والخطوات الصغيرة.
“صاحبة السّمو الأميرة، لقد وصلت السيّدة إليستاين.”
“أدخليها.”
“حاضر.”
منذ البداية، لم يكن موقع مسكن الأميرة الكبرى في الجناح الشّمالي المعزول يبشّر بالخير، وكان غرفة الشّاي التي تُعقد فيها الجلسة ذات طابع متواضع.
بل إنّها، بصراحة، متواضعة لدرجة يصعب تصديق أنّها جزء من قصر نبيل كبير.
كانت إيديليكا جالسة في المنتصف بنظرة غير مبالية.
“رايلي من عائلة إليستاين تُحيّي صاحبة السّمو الأميرة.”
أدّت رايلي التّحيّة بأدب لا تشوبه شائبة، كأنّها تسخر من جينيفر التي قد تعترض على جهلها بالآداب.
وقفت جينيفر إلى جانبها، تطحن أسنانها بغيظ خفيّ.
“لا داعي للتّكلّف. تعاملي معي كصديقة.”
“شكرًا على كلامكِ الطّيّب.”
“لكن…”
نظرت إيديليكا إلى رايلي وجينيفر بالتناوب، مائلة رأسها باستغراب:
“هل حدث شيء في الطّريق؟ ملابس السيّدة إليستاين تبدو فوضوية.”
حينها فقط، دقّقت رايلي في ملابسها. لم تلحظ من قبل، لكنّ شريط الزّينة كان مفكوكًا.
قالت جينيفر بنبرة متشفّية:
“آه، أعتذر لأنّني لم أنتبه لذلك. سيّدة إليستاين، سارعي بالاعتذار. إنّ ظهوركِ بهذا المظهر غير المرتب أمام الأميرة هو إهانة لا تُغتفر.”
“……..”
إذن هكذا ستكون اللّعبة.
انحنت رايلي ببطء لتعتذر لإيديليكا:
“كان ينبغي أن أكون أكثر حرصًا على مظهري، لكنّني تعثّرت في الطّريق من شدّة توتّري. أعتذر.”
“………”
حاولت جينيفر إخفاء نواياها بتظاهر باللامبالاة.
نظرت إيديليكا إلى رايلي، ثم قالت:
“لم أقصد السخرية من مظهركِ. كنت فقط أودّ التأكّد إن كان قد حدث شيء. جينيفر، لا داعي لإجبارها على الاعتذار لهذا الأمر.”
احتجّت جينيفر بوجه متجهّم:
“إنّما هذا من إخلاصي لرعاية هيبة صاحبة السّمو! لا يمكنني التّسامح مع من يعاملون ابنة الدّوق الأكبر إيديليكا باستهتار!”
“حسنًا، أعرف قلبكِ.”
أجابت الأميرة الكبرى بفتور، ولوّحت بيدها:
“الآن أرغب في التحدّث مع السيّدة إليستاين على انفراد. تنحّي قليلًا.”
“لكن، بالطّبع يجب أن أبقى إلى جانبكِ، صاحبة السّمو!”
“هذا أمري. أمّي ليست على ما يرام اليوم، فاذهبي نيابة عنّي لتطمئني عليها.”
“………”
عند سماع كلمة “أمر”، عبست جينيفر لكنّها انحنت وغادرت غرفة الشّاي.
ما إن اختفت جينيفر، ابتسمت إيديليكا برفق لأوّل مرّة بعد أن كانت محايدة التعبير:
“شكرًا لقدومكِ.”
“لا شكر على واجب، فالدّعوة شرف لي.”
“اجلسي أوّلًا. لا بدّ أنّكِ عطشى، فما رأيكِ أن نشرب شيئًا؟”
“حسنًا.”
عندما رفعت رايلي كوب الشّاي، بدأت إيديليكا تكتب شيئًا بخط سريع.
نظرت إليها رايلي باستغراب، فمدّت إيديليكا الورقة والقلم إليها.
<من المحتمل أن يُراقب هذا المكان. فكوني حذرة في كلامكِ وسلوككِ.>
تنهّدت رايلي باختصار.
كانت تتوقّع ذلك، لكن يبدو أنّ وضع إيديليكا أكثر هشاشة ممّا ظنّت.
<إذن، ماذا عن إفراغ أكواب الشّاي والخروج إلى الحديقة؟ ليس هناك أيّ أجهزة سحريّة متّصلة بجسدكِ، أليس كذلك>
<صحيح، الخارج آمن. كنتُ سأقترح ذلك أيضًا. أنتِ ذكيّة حقًّا.>
ابتسمت إيديليكا برضا، ثم قالت:
“الطّقس اليوم رائع جدًّا. إن لم يزعجكِ ذلك، سأريكِ الحديقة الخلفيّة.”
“إنّ عرضكِ لإظهار الحديقة يُسعدني حقًّا.”
أفرغتا كوبيهما باعتدال وتوجّهتا إلى الحديقة.
* * *
كانت جينيفر تمشي نحو جناح الدوقة الأمّ الجنوبيّ، وهي تشعر بالاستياء.
‘كيف تجرؤ على معاملتي هكذا؟’
منذ أن فقد الدّوق الأكبر وعيه بسبب المرض، كانت الدوقة الأمّ تتولّى شؤون الدّوقيّة.
بالطّبع، كانت سلطتها مستمدّة من ابنتها الشرعيّة إيديليكا، لكنّها ليست سوى دمية، أليس كذلك؟
في الواقع، يمكن القول إنّ الدوقة الأمّ هي السّيدة الحقيقيّة للدّوقيّة الآن.
وكانت والدة جينيفر، الكونتيسة راوم، أقرب المقرّبين إلى الدوقة الأمّ.
كابنة لشخصيّة مرموقة، أُوكلت إلى جينيفر مهمّة هامّة.
كان عليها أن تبقى إلى جانب الأميرة الكبرى، تراقبها وتتأكّد أنّها لا تقوم بأيّ تصرّفات غير ضروريّة.
“اجعلي الأميرة تعتمد عليكِ. اجعليها لا تثق إلا بكلامكِ.”
اعتقدت جينيفر أنّ تعليمات والدتها بسيطة للغاية.
كانت إيديليكا هادئة بطبيعتها، وكانت تخشى ذكر الدوقة الأمّ فورًا.
حتّى الفتيات النّبيلات اللواتي يتفاعلن معها أحيانًا كنّ يتسابقن لإرضاء جينيفر.
فمن الواضح لأيّ فتاة من عائلة مرموقة من هو الحاكم الحقيقيّ الآن.
كانت تظهر أحيانًا بعض الفتيات الغبيّات، لكن جينيفر كانت تُعاقبهنّ سريعًا لتُعلّمهن من هو الشّخص الذي يجب استرضاؤه.
ونتيجة لذلك، تقلّصت علاقات إيديليكا الاجتماعيّة بشكل طبيعيّ.
كانت جينيفر واثقة تمامًا أنّها تسيطر على إيديليكا بالكامل.
لكن فجأة، تدعو هذه الفتاة المنبوذة وتطردها هي!
‘سنرى، سأجعلكِ تندمين..’
بينما كانت تفكّر هكذا، شعرت فجأة بشيء غريب.
كان المكان هادئًا بشكل مخيف.
حتّى أصوات الرّياح أو الضّوضاء اليوميّة التي كان يفترض أن تُسمع اختفت.
في اللحظة التي أدركت فيها ذلك، ظهر أمامها فجأة كائن غير متوقّع.
كان كائنًا صغيرًا يشبه كلبًا أسود.
التعليقات لهذا الفصل "31"