أدركت فانيل سبب تجهم سيرجو، فأسرعتْ بإضافة كلامها:
“إذًا، هل نبدأ بالانطلاق؟ سأتبعكما من الخلف، فتفضّلا بالسير جنبًا إلى جنب في المقدّمة.”
لم تكن هناك حاجة للحذر من الجوار بسبب وجود حراس يتبعونهم من بعيد، لكنها أرادتْ مراعاة مشاعرهما كزوجين ليمشيا معًا.
تقدّمتْ رايلي خطوةً واحدةً بنوع من الإحراج.
لم يسبق لها أن خرجتْ وسارتْ إلى جانب سيرجو هكذا من قبل، بل إنّهما لم يقضيا أبدًا وقتًا حميميًّا معًا.
بل على العكس، عندما كان سيرجو في هيئة ثعلب، كانتْ تحمله بين ذراعيها أحيانًا.
‘حتّى لو كان زوجي، إلا أنّه يبدو وكأنّ أحدهم قال لي فجأة: “من اليوم، كوني صديقة له”، فالأمر أقرب إلى علاقة محرجة.’
لم تكن تلك الإحراجات خاصّةً برايلي وحدها، فقد وقف سيرجو إلى جانبها متردّدًا ومتوترًا أيضًا.
بدأ الاثنان بالتحرّك مع الحفاظ على مسافة غير مريحة بينهما.
نظرت فانيل إليهما من الخلف وابتسمتْ ابتسامةً مريرةً.
‘إنّهما زوجان، ومع ذلك لا يمسكان حتّى بأيدي بعضهما…’
لكنّهما، بالطبع، كانا طفلين محبّبين لدرجة تجعل المرء يبتسم بسرور من مجرّد رؤيتهما.
توقّف الثلاثة في الساحة الأكثر شهرةً في العاصمة ليشاهدوا تمثالًا ضخمًا، ثم اتّجهوا إلى متجر بضائع قريب.
كان متجرًا شهيرًا يستهدف النبلاء، يحتوي على مجموعة متنوّعة من الأغراض، من ألعاب الأطفال إلى ديكورات داخليّة.
لم يكن مجرّد متجر بضائع، بل يشبه متجرًا متعدّد الأقسام بفضل حجمه الضخم.
‘حجم المتاجر في العاصمة ليس بالأمر الهيّن!’
كانت هذه المرّة الأولى التي تزور فيها متجرًا بهذا الحجم، فشعرتْ أنّ عينيها تدوران من كثرة ما ترى.
كان هناك العديد من الزبائن يمسكون بأيدي أطفالهم ويتجوّلون، وبعض الأزواج الذين جاؤوا لقضاء وقتٍ رومانسيّ.
أثناء تجوّلها في قسم الزينة بعد قسم الألعاب، توقّفتْ رايلي في مكانٍ ما.
‘واه، هذا جميل جدًّا.’
لفت انتباهها كرة ثلجيّة تحتوي على نحتٍ لأصدقاء حيوانات صغيرة متجمّعين يعزفون على آلات موسيقيّة.
كلّما هزّتها، تتساقط حبات بيضاء ناعمة تخلق عالمًا فضيًّا، حيث تتألّق الحيوانات الصغيرة بألوان زاهية.
لم تمتلكْ رايلي أبدًا ألعابًا في طفولتها، ولا حتّى أغراضًا خاصّةً بها.
كلّ ما كانت تحصل عليه كان أشياء أخيها التي سئم منها وتركها.
في منزل عائلة بيتينسي، كانت غرفة رايلي في الطابق الثاني، أشبه بمخزن في زاوية المنزل.
كانت ضيّقة، كريهة الرائحة، مزوّدة بأقلّ الأغراض ضرورةً، مما جعلها تبدو قاحلةً.
لكنّها تقبّلت ذلك كأمرٍ طبيعيّ.
– “يجب أن تعتادي على حياة بسيطة ومتواضعة حتّى تظلّي محبوبةً بعد الزواج.”
– “إذا تركتِ نفسكِ للأوهام، ستصبحين إنسانةً سيّئة تمارس الإسراف! أليس ذلك مكتوبًا في كتب المعبد؟”
كانت تعليمات مربّيتها مارغريت ووالديها تبدو مطلقة بالنسبة لها.
ومع ذلك، لم يتلاشى شغفها بالأشياء الجميلة والأنيقة بسهولة.
ذات يوم، شعرتْ بالحزن وهي تقرأ وصفًا لحفل شاي مزيّن بالزهور والجواهر في كتاب قصص.
‘الزهور ليست إسرافًا، أليس كذلك؟ لا تكلّف شيئًا…’
لذا، ملأتْ رايلي كوبًا متصدّعًا بالماء، وقطفتْ بضع زهور من الحديقة لتزيّن غرفتها.
لم تتناسب الزهور مع الغرفة القاحلة أبدًا، لكنّ ذلك جعلها سعيدةً.
لكنّ هذا الفرح البسيط لم يدم طويلًا.
لم يكن والدها يزور غرفتها عادةً، لكنّه في ذلك اليوم جاء فجأة.
– “من أين أتيتِ بهذه؟”
– “أنا… من الحديقة…”
– “كيف تجرئين على إتلاف الحديقة التي أنفقنا عليها أموالًا طائلة!”
بين عائلات النبلاء المتوسّطين الذين يمتلكون منازل في المدينة، كانت الحديقة واجهة العائلة، لأنّها تُرى مباشرةً من قبل المارّة.
لذا، حتّى لو كان المنزل من الداخل متهالكًا، كان النبلاء ينفقون أموالهم في تنسيق الحدائق.
كان ذلك نوعًا من التباهي رغم الفراغ الداخلي.
كان الفيكونت بيتينسي واحدًا من هؤلاء.
مهما ادّخر المال كالبخيل، كان يهتمّ كثيرًا بالمظهر الخارجي أمام الضيوف.
لذلك، غضب غضبًا شديدًا عندما اعتقد أنّ ابنته أفسدت الحديقة.
بالطبع، الزهور التي قطفتها رايلي لم تكن سوى ثلاث أو أربع، صغيرة جدًّا في زاوية لا تُرى، لكنّ ذلك لم يكن مهمًّا.
في النهاية، عوقبتْ رايلي بقسوة في ذلك اليوم ومرضتْ لفترة طويلة.
منذ ذلك الحين، تخلّت عن فكرة تزيين غرفتها، ولم تنظر حتّى إلى الأماكن التي تُزهر فيها الزهور.
شعرتْ رايلي بضيق في صدرها وهي تتراجع خطوةً عن الرفّ الذي يعرض الكرة الثلجيّة.
سألها سيرجو الذي كان يراقبها من الجانب:
“…هل تريدينها؟”
“آه…”
خطر ببالها أنّها تريدها قليلًا.
لكنّ رايلي شعرتْ بالخجل، إذ بدت لها تلك الرغبة كأمنية طفوليّة.
على الرغم من أنّها تتذكّر حياتها السابقة، إلا أنّ تلك الذكريات كانت بالنسبة لها مجرّد ظلال باهتة.
كانت السنوات التي عاشتها كابنة عائلة بيتينسي، التي تخشى كلّ شيء، هي الأكثر وضوحًا في ذهنها.
كان جوهرها أقرب إلى طفلة.
ومع ذلك، قمعتْ رغبتها الطبيعيّة بالقوّة.
“لا بأس! مجرّد التفرّج كان ممتعًا.”
“……”
“هل هناك شيء أعجبك، سيرجو؟”
“لا، ليس بالضرورة.”
“إذًا، هل نذهب إلى مكان آخر؟ ربّما ذلك المقهى الشهير هناك، أو ربّما آيس كريم…”
“……”
نظر سيرجو إلى عيني رايلي للحظة، ثم فتح فمه ببطء:
“يبدو أنّ هناك ركنًا لم تريه بعد. بما أنّنا هنا، لمَ لا تتفرّجي عليه؟ قد تجدين شيئًا ترغبين في شرائه.”
“همم، هل أفعل؟”
“نعم. لم أرَ الطابق الثاني بعد، لذا سأتجوّل هناك أيضًا.”
“إذًا، نلتقي لاحقًا!”
أومأ سيرجو برأسه قليلًا واختفى باتّجاه السلالم المقابلة.
استدارتْ رايلي حول الزاوية لتتفرّج على ديكورات لم ترَها من قبل.
“واه، هذا الميداليّة تشبه تلك التي صنعتها فانيل!”
“الميداليّات التي أصنعها ليست بهذا الجمال…”
“لا! بالعكس، أعتقد أنّ التي صنعتها أنتِ أكثر دقّة وجمالًا.”
احمرّ وجه فانيل من مديح رايلي.
“…هذا مديح مبالغ فيه. لكن إذا لم يكن ذلك يزعجك، هل يمكنني صنع واحدة لكِ في المرّة القادمة؟”
“هاه! هل هذا ممكن؟”
“بالطبع. بل سأكون سعيدةً إذا قبلتِها.”
“سأردّ لكِ الجميل بطريقة ما!”
“لا داعي للتفكير بهذا…”
بينما كانتا تتحدّثان بهدوء،
“…….”
أمسكتْ فانيل برايلي فجأة وسحبتها إلى الخلف بحركة وقائيّة.
للحظة، شعرتْ رايلي بالارتباك من هذا الجذب المفاجئ.
لكن عندما استدارتْ ورأت الرجل في الجهة الأخرى، اتّسعتْ حدقتاها.
وجه مفتعل مشاكل مليء بالحقد.
كان أكثر نحافةً ممّا كانت تعرفه، لكن ذلك الوجه الذي تعرفه جيّدًا كان…
“كما توقّعت، أنتِ هنا، أيتها الفتاة اللعينة!”
كان الفيكونت بيتينسي، يرمقها بعينين مليئتين بالغضب.
اقترب بسرعة بخطوات ثقيلة تصدر صوتًا، ومدّ يده كما لو كان سيجذبها من شعرها.
بالطبع، لم تترك فانيل ذلك يحدث.
ضربت ذراع الفيكونت بسرعة ووقفتْ بحذر.
“ما الذي تفعله الآن؟ سأستدعي أحدًا!”
“أنا والد رايلي بيتينسي! لا تتدخّلي أنتِ بوقاحة!”
“…….”
ظنّتْ فانيل أنّه رجل مختلّ، لكن عندما علمتْ أنّه والد رايلي، ابتلعتْ ريقها.
“تعالي إلى هنا فورًا!”
تسمّرت عيناه المرعبة على الفتاة الصغيرة.
منذ اللحظة التي التقتْ فيها عيناها بعيني والدها، كلّ ما استطاعتْ رايلي فعله هو تهدئة أنفاسها.
كان من الصعب السيطرة على جسدها الذي ينكمش بشكل غريزيّ.
ذكريات الإساءة التي تعرّضت لها مع والدها كانت تكبّلها.
لكنّها لم تستطع البقاء مرتعبة هكذا.
فأجابته بيأس:
“لن أذهب.”
“هل تعصين أباكِ الآن؟”
حاول الفيكونت بيتينسي مرّة أخرى أن يأخذ رايلي بعنف.
“توقّف عن هذا!”
احتضنتْ فانيل رايلي بقوّة وحالتْ دون اقترابه.
صرّ الرجل على أسنانه بغضب.
“ها! بأيّ حقّ تتدخّلين؟ هل تريدين دخول السجن؟”
“آغغ…”
“ألا تعلمين أنّ من يمنع حقوق الوالدين يُعاقب بجرم كبير؟”
عندما وخزها في مكان حساس، عضّتْ فانيل شفتيها.
لم تكن تابعةً لعائلة الدوق، بل مجرّد شخص خارجيّ.
لم يكن لها الحقّ في منع والد من أخذ ابنته.
بل ربّما يستغلّ هذا المحتال هذه القضيّة لمقاضاتها.
لكن فانيل لم تتراجع.
كانت تعلم من قبل أنّ والدي رايلي ليسا أشخاصًا عاديّين.
لم يكن خيار ترك هذه الفتاة دون حماية مطروحًا، حتّى لو كلّفها ذلك خسارةً شخصيّةً.
في تلك اللحظة بالذات،
فتحتْ رايلي فمها:
“لا. لها الحقّ في التدخّل.”
“ماذا…”
“لأنّها حارستي.”
كان جسدها الصغير، الذي يتكئ على فانيل، يرتجف، لكن صوتها كان صافيًا دون ارتجاف.
التعليقات لهذا الفصل "24"