كانت العاصمة روديلين مدينة عظيمة، مزدهرة ومترفة بكل معنى الكلمة.
مررنا بعربتنا على الشارع الرئيسي، المرصوف بعناية، والذي يشق قلب المدينة، فلم يسعني إلا أن أُطلق آهات الإعجاب.
في وسط المدينة، انتصب القصر الملكي الأبيض الناصع بهيبته، ومنه تفرعت خمسة شوارع رئيسية تتقاطع وتنبثق في جميع الاتجاهات.
على امتداد تلك الشوارع، انتشرت أحياء وأسواق متعددة، تحيط بها أنهار وحدائق بديعة، وكأنها مشاهد مرسومة بريشة فنان.
أما الشارع الرئيسي الذي نسير عليه، فكان يزدان من الجانبين بأشجار مصفوفة كأنها من عالم القصص، تحفّها منازل تاون هاوس أنيقة، تصطف بتناغم يُدهش الناظر.
مرّت بجانبنا عربات فخمة، وعلى الأرصفة كانت سيدات النبلاء يتهادين في أزياءٍ على أحدث طراز، برفقة سادة أرستقراطيين يرتدون بدلات رسمية أنيقة، يتجولون كما لو أنهم جزء من لوحة كلاسيكية حيّة.
“المنظر في العاصمة مذهل جدًا… كياااه!”
“شوشو، انتبهي، ستقعين من العربة.”
قالت يوديث مبتسمة وهي تحضنني بين ذراعيها، تمسد فرائي الناعم بانبهار.
“آه… هذا الملمس الرائع! شوشو، أنتِ حقًا لطيفة وجميلة بشكل لا يُحتمل.”
“شكرًا على الإطراء… يوديث.”
“هل سيكون من الوقاحة لو… عضضتُ قليلاً كفّكِ الوردية هذه؟”
همست بصوت خافت وبنظرة لا تقل عن كونها نظرة إغراء.
نظرة كهذه… لا تُوجَّه سوى إلى العشاق، أليس كذلك؟
خبأت كفيّ أمامها، وقلت بجدية:
“أرفض.”
“هيه، لمرة واحدة فقط؟ أعدكِ أن أعطيكِ أي شيء تريدينه! مجوهرات؟ ذهب؟ قصر خاص؟ فقط قولي، وأنا أُحقق أمنيتكِ.”
“يوديث، إذا كنتِ ستعطين كل هذا مقابل عضّة واحدة، فهذا غير منطقي أبدًا. أأنتِ فعلًا سيدة قافلة تجارية؟”
أطلقتُ تنهيدة خفيفة وأنا أحدّق بها بشك، فما كان منها إلا أن تنهدت بحسرة صادقة.
“كما توقعت… شوشو خاصتي ليست سهلة المنال. لكن هذا هو سحر الثعلب؛ الكبرياء والمشاكسة.”
يوديث عندما تُغرم بلطافتي، يصبح من المستحيل التفاهم معها. ربما عليّ أن أتحول إلى بشر في المرة القادمة!
توقفت العربة أمام قصر فخم بسطح أخضر، تميّز بحديقته الراقية وهندسته المتقنة. موقعه كان قريبًا من القصر الملكي، في قلب العاصمة.
ما إن فُتح باب العربة، حتى ظهر كاردين.
“شوشو، أحسنتِ المجيء إلى هنا. هل كل شيء بخير؟”
“أنا بخير تمامًا! في قمة نشاطي!”
قلت ذلك وأنا أُحرّك ذيلي الكبير وكأنني أؤدي عرضًا بهلوانيًا.
في الحقيقة، ومنذ قبلة كاردين عند البحيرة ليلة البارحة، أصبحتُ أشعر بالإحراج تجاهه. لذا، تجنبت الحديث معه، وعُدتُ إلى هيئة الثعلب… حتى لا يفضحني احمرار وجهي.
ولأنني شعرتُ أنني سأفقد توازني العاطفي إن رأيته كإنسان، قررت البقاء على هيئة الحيوان مؤقتًا.
لكن كاردين، وكأنه لا يدرك اضطرابي، مدّ يده وربت على رأسي بلطف.
“جيد. عليّ الآن أن أتوجه إلى القصر لمقابلة جلالة الإمبراطور. أما أنتِ، فبإمكانكِ أن ترتاحي في القصر، أو تتنزهي في العاصمة مع يوديث.”
“ستذهب للقصر الآن؟ ألم نصل لتونا؟ لا وقت للراحة؟”
“هذا من واجباتي بصفتي تابعًا. استريحي أنتِ.”
كان يبتسم، لكنها ابتسامة باهتة تخفي وراءها توترًا ظاهرًا.
ثم وجّه نظره إلى يوديث.
“يوديث، أُعهد إليكِ بشوشو. أوين ورون سيذهبان معي إلى القصر، لذا سأُبقي بعض الفرسان معكما كحراسة.”
“لا تقلق، يا أخي العزيز. العاصمة… كأنها تابعة لي. رجال قافلتي منتشرين في كل زاوية. ومن يجرؤ على الاقتراب من شوشو؟ سأقطع يده قبل أن يصل إليها.”
ارتعدتُ قليلًا من تهديدها الصريح، وتراجعتُ خطوة جانبًا… لعلّي أنجو لو تحوّل الأمر لحرب!
ابتسم كاردين أخيرًا وهو يجيب:
“لأول مرة… أُصدّق أنكِ أهل للثقة.”
آه، ما بال هذه العائلة مخيفة بهذا الشكل؟ أنا أكره رؤية الدم!
ركب كاردين حصانه وغادر بصحبة أوين ورون، واللذَين ودعاني بنظرات حزينة… كما لو أنهم يُساقون إلى المقصلة.
يا إلهي، كم هم مساكين… لم ينالوا قسطًا من الراحة ويذهبون مباشرة إلى العمل.
لو كنتُ مكانهم، لرميتُ استقالتي في وجه كاردين، وهربت! لكن… يبدو أنه سيطاردني حتى أعماق الجحيم إن فعلت ذلك.
يوديث نزلت من العربة وتثاءبت بامتداد بصوتٍ عالٍ، ثم أمرت كبير الخدم بنقل الأمتعة.
هرع الخدم بالعشرات، وقاموا بإفراغ العربة، بينما تولّت كتيبة الفرسان نقل الخيول والعتاد.
وقفت يوديث، وهي تُشرف على كل شيء، ثم أومأت برضا.
“شوشو، ما رأيكِ؟ هل تفضلين دخول القصر الآن للراحة، أم تريدين جولة في العاصمة؟ فقط أخبريني.”
كان لا يزال الوقت متاحًا قبل المغيب، فرفرفتُ بذَيلي قليلًا وأجبتها:
“هل توجد مكتبة ملكية في العاصمة؟ أبحث عن كتاب معين.”
“كتاب؟ وأي نوع من الكتب تبحثين عنه؟”
“كتاب يتحدث عن اليوكاي الثعلب، أو عن عرق الأولفيس.”
المكتبة الملكية ستكون بالتأكيد أفضل مكان للحصول على هذه المعلومات. ربما أجد هناك أثرًا لماضي ذلك العرق أو حتى أسراره.
نظرتُ إليها بعينين يملؤهما
الأمل، بينما هي وضعت يدها على ذقنها تفكر.
“همم، المكتبة الملكية تحتفظ بجميع الوثائق القديمة، لكنها ليست متاحة للعامة. تحتاجين إلى تصريح خاص لدخولها.”
“ألا يوجد وسيلة للدخول؟”
ابتسمت يوديث بثقة، ثم احتضنتني بحنان.
“هل نسيتِ أني سيدة قافلة هيلّيون؟ ببطاقتي هذه، لا يوجد مكان في العاصمة يُغلق في وجهي.”
كانت المكتبة الملكية تقع في المنطقة الشمالية من العاصمة.
توقفت العربة أمام مدخلها الفخم، ونزلت منها بحذر، أرفع طرف فستاني الأخضر المصنوع من حرير فاخر، كما طلبت يوديث.
كنت أُفضل ارتداء ملابس بسيطة، لكنها أصرت على أن أبدو “راقية ومثقفة”، لذا جعلتني أرتدي فستانًا أخضر ومعطفًا أنيقًا، مع قبعة مزيّنة بوردة سوداء وشعري مضفور إلى الخلف.
أمسكت يدي، وهي ترتدي قفازاتها الدانتيل، ثم قالت بإعجاب:
“أنتِ فعلاً آنستي الرقيقة المذهلة.”
“أليس هذا مبالغًا فيه؟ نحن ذاهبتان إلى مكتبة، لا حفلة ملكية.”
“دخول المكتبة الملكية يتطلب مظهرًا يليق بالنبلاء. هيا بنا يا شوفيليا، إلى الداخل!”
رافقتني بخطوات واثقة نحو المدخل، وما إن رأى الحراس شارة هيلّيون، حتى وقفوا باستعداد وفتحوا الباب دون أي تدقيق.
هكذا إذًا… هذه هي سطوة قافلة هيلّيون.
دخلنا من الباب، وقطعنا الحديقة حتى وصلنا إلى مبنى ضخم مكوّن من أربعة طوابق، تعلوه قبة زجاجية نصف دائرية تُضيء الداخل بنور الشمس.
باب ضخم نُقشت عليه رؤوس أسدين حارسَين فتح لنا الطريق، وما إن دخلنا حتى اجتاحتنا رائحة الكتب القديمة، وغمرتني رهبة فخمة.
بين الرفوف العالية، تراكمت الكتب التي تحمل أسرارًا عمرها قرون، تلمع تحت الضوء وكأنها تحتفظ بذاكرة العالم.
وقفت عند المدخل، بينما قالت يوديس:
“شوشو، هل يمكنكِ البقاء هنا لقراءة بعض الكتب؟ لديّ أمر طارئ عليّ معالجته.”
“لن تدخلي معي؟”
“الحقيقة… لديّ نوع من الحساسية من رائحة الورق القديم، كما أنني أختنق داخل الأماكن المغلقة. سأبقي العربة والحُرّاس بانتظارك. وعند خروجك، تعالي مباشرة إلى محل الخياطة، اتفقنا؟”
في الواقع، كان ذلك أفضل. كنت أريد بعض العزلة للبحث عن أسرار الأولفيس بهدوء.
فأومأت برقة وقلت:
“حسنًا… أوني-سان.” (أختي الكبرى)
عندها، لمعت عينا يوديث كأنها أصيبت بسهم حب مفاجئ.
“لحظة! هل ناديتني للتو أوني؟!”
“نعم… لكن—”
لم تُمهلني لحظة، بل سحبتني في عناق محكم، حتى لم أعد أستطيع التنفس.
“آآآه، هذا أكثر من رائع! شوشو نادتني أختها! مستحيل أترككِ الآن! لا تتزوجي كاردين! تعالي نُبقيكِ في عائلتنا! سأتبنّاكِ وأجعلكِ أختي الصغيرة للأبد! سأُغدق عليكِ بالسعادة!”
كنتُ أختنق في حضنها، أطرف بذراعيّ محاولة الإفلات، وأخيرًا قلت:
التعليقات لهذا الفصل " 78"