الفصل 76 – ليلة اليراعات
أمسكت بيد يوديث بإحكام، وقلتُ لها بصدق:
“الدوق سيكون بخير من الآن فصاعدًا… لذا، لا تقلقي.”
اهتزت عينا يوديث الزرقاوان الداكنتان، ثم انحنتا على شكل قوسين مبتسمين.
“شكرًا لكِ يا شوشو، لوجودكِ بجانب أخي… لم أعد أخشى فكرة فقدانه، وهذا وحده نعمة عظيمة. بالنسبة لنا، أنتِ معجزة حقيقية.”
كانت عينا يوديث تلمعان بالدموع، وشعرتُ بقوة تشد على يدي المتشابكتين معها. كانت تحاول جاهدًة كتم ارتجافها.
وفقط حينها، أدركتُ…
تمامًا كما شعر كاردين بالألم والذنب حين رأى عمه يتحول إلى وحش، فلا بد أن يوديث أيضًا كانت تتألم لرؤية شقيقها ينهار.
قالت إنها غادرت قلعة الشمال لأنها سئمت من اصطياد الوحوش، وأنها لا تستطيع العيش في قصرها المقيّد.
لكن… ربما الحقيقة شيء آخر.
ربما يوديث لم تحتمل رؤية شقيقها وهو يفقد السيطرة ويتحول أمام عينيها إلى شيء ليس بشريًا.
كم هو مفجع أن ترى قريبًا عزيزًا عليك يفقد عقله، ويتحول إلى وحش لا يعرف حتى من تكون.
مسحت يوديث دموعها سريعًا بكمّ قميصها، ثم رفعت صوتها بحيوية وكأن شيئًا لم يكن:
“آه، انظري! لقد وصلنا إلى أراضي عائلتنا. سنصل إلى الفيلا قريبًا!”
كانت السماء تشتعل بشفق أحمر رائع.
وراء ذلك الغروب الساحر، امتد السهل الفسيح والغابة المورقة، وفي البعيد برزت الفيلا كقصر من الحكايات.
وصلنا مع حلول المساء إلى الفيلا الجميلة، المحاطة بالغابات الكثيفة وبحيرة صافية.
العشرات من الخدم والحراس، الذين تلقوا نبأ قدومنا مسبقًا، خرجوا لاستقبالنا بحرارة.
كان الفرسان منشغلين بإراحة الخيول في الإسطبلات وتنظيم الأمتعة.
نزلت من العربة بمرافقة يوديث.
ربما لأني لم أركب عربة من قبل، شعرت بدوار خفيف، وعندما حاولت النزول فقدت توازني وكدت أن أسقط.
“آه!”
“شوفيليا!”
أسرع كاردين نحوي واحتواني بين ذراعيه. حين وجدت نفسي بين أحضانه، بدأ قلبي ينبض بعنف من جديد.
خشيت أن أتحمس كثيرًا وأعود إلى هيئة الثعلب…
أدركت أن وجودي بجانب كاردين يزيد احتمالية تحولي بسبب ارتباك قلبي واضطرابه.
“هل أنتِ بخير؟ ربما أجهدتِ نفسكِ أكثر من اللازم.”
أسرعت بالابتعاد عن صدره وعدلت وضعي.
“أنا بخير! شعرت بدوار بسيط فقط، وسأتحسن بعد قليل من الراحة. يوديث، هيا نذهب!”
تصنّعت الحيوية، ووضعت ذراعي في ذراع يوديث لأتفادى أي كلام من كاردين.
“شوشو، هيا نذهب إلى غرفتكِ. لا بد أنك مرهقة جدًا.”
ربتت يوديث على رأسي كما لو كنت طفلة صغيرة، وأخذتني معها وهي تبتسم.
وأثناء حديثنا، التفتُّ ونظرت إلى كاردين من بعيد.
كان لا يزال واقفًا في مكانه، يحدّق بي بصمت.
أنا آسفة، كاردين.
لأجل تدريبي على البقاء على هيئة بشر، لا يجب أن أكون قريبة منكِ.
الهدوء النفسي ضروري لكي أستمر كإنسانة، لكن وجودكِ يربكني دومًا.
بعد أن رتّبت أغراضي في الغرفة واغتسلت سريعًا، انضممت إلى العشاء مع الجميع.
رغم الإرهاق بعد رحلة العربة الطويلة، ملأ الفرسان المكان بالضحك والنكات، يشربون الجعة ويأكلون بنهم كما لو كانوا لم يتعبوا.
سرعان ما أصبحت يوديث مركز السهرة. كانت تمزح وتضحك وتُشرب الفرسان كأسًا بعد كأس، حتى عمّت البهجة المكان.
وبينما كان الجميع مستغرقين في أجواء الضحك والصخب، تسللتُ بهدوء من القاعة، دون أن ينتبه أحد.
خرجت إلى الحديقة الخلفية للفيلا، وهناك تنفّست الصعداء لأول مرة منذ وصولنا.
الغابة الممتدة خلف الحديقة كانت ساكنة، لا يُسمع فيها سوى همسات الحشرات، كأنها ترنيمة ليلية خافتة.
السماء كانت تلمع بالنجوم، مثل حبات الماس منثورة فوق قماش كحلي.
رفعت رأسي أنظر بدهشة… لم أدرك أن السماء ليلًا يمكن أن تكون بهذا الجمال.
لكن فجأة، شعرت بوخز خفيف في أصابعي، فقبضت على يدي بإحكام.
ربما بسبب بقائي في هيئة بشرية طوال اليوم داخل العربة، بدأت أشعر بوهن خفيف في جسدي.
لحسن الحظ، لم أشعر برغبة في التهام طاقة كاردين بعد.
لكن تلك الرغبة قد تعود في أي لحظة…
هل يوجد مصدر بديل للطاقة السحرية يمكن أن أستخدمه بدلًا منه؟
لو كان لدي اتصال مع أحد من قوم “أولفِس” أو مع فرانز، لربما وجدت طريقة ما. لكن التفكير في الأمر وحدي… يجعلني أشعر بالعجز.
وإن طلبتُ المساعدة من يوديث أو رون، فالأمر في النهاية سيصل إلى كاردين.
حين أصل إلى العاصمة، عليّ أن أجد طريقة للقاء قوم “أولفِس” بسرية.
بينما كنت أتمشى بقلق داخل الحديقة، سمعت صوت خطوات خلفي.
“شوفيليا، كنتِ هنا… لماذا تجلسين وحدك؟”
كاردين كان يقف خلفي، وعلى وجهه ملامح قلق واضحة. هل جاء يبحث عني؟
“آه، خرجت فقط لأتمشى قليلًا.”
خلع ردائه ووضعه بلطف فوق كتفيّ.
“الهواء بارد… لا ترهقي نفسكِ، لا بد أن الرحلة كانت مرهقة.”
شعرت بمزيج من الامتنان والذنب تجاهه.
“شعركِ قد تشابك… سواء كنتِ بشرًا أم ثعلبة، دائمًا تحتاجين لمن يهتم بكِ.”
بدأ كاردين يمرر يده بلطف بين خصلات شعري، كما كان يفعل حين كنت مجرد ثعلبة صغيرة.
هل
يراني فقط كرفيقة ثعلب… أم كامرأة أيضًا؟
لطالما تخيلت حياة سعيدة إلى جانبه كرفيقة له في قلعة الشمال.
فأيامي معه هناك كانت دافئة، مليئة بالعناية والهدوء.
لكن بمرور الوقت، بدأتُ أشعر أن هذه القوة التي تسري بداخلي… غريبة، مختلفة.
إن لم أكن مجرّد وعاء لامتصاص السحر… بل شيء أكبر وأخطر؟
وإن كانت هذه القوة ستؤذي كاردين في يوم من الأيام… فلن أستطيع مسامحة نفسي أبدًا.
“شوفيليا، هناك مكان أريد أن آخذكِ إليه.”
كنت غارقة في أفكاري حين همس بذلك.
رفعت رأسي إليه بدهشة.
“مكان؟ أين؟”
“هناك مكان سحري في هذه الفيلا… أريد أن أريكِ إياه.”
مدّ يده إليّ بابتسامة طفولية مشاكسة.
“لنذهب سرًا… دون أن يعرف الفرسان.”
كانت ابتسامته مشرقة إلى حد جعل قلبي ينبض بقوة.
دون تردد، أمسكت بيده بإحكام.
سرنا معًا نحو الغابة الممتدة خلف الحديقة.
رغم ظلام الليل، كان كاردين يسير بثقة وكأنّه يرى بوضوح تام.
الغابة كانت تنبض بالحياة، بصوت الحشرات وهمسات الرياح بين الأشجار، وكأنها كائن حيّ يهمس بأسراره القديمة.
كنت أستند إلى ذراعه، أسير بهدوء وأنا أستشعر طمأنينة غريبة.
بعد فترة، وصلنا إلى ضفة بحيرة صغيرة، كان سطح الماء يعكس ضوء النجوم وكأنه مرآة عملاقة.
القمر كان مخفيًا خلف الغيوم، لكن النجوم كانت ساطعة.
توقف كاردين، وهمس:
“لننتظر قليلاً… إن صمتنا، سنراه.”
كنت أودّ أن أسأله: “نرى ماذا؟” لكنني اكتفيت بهزّ رأسي وجلست إلى جانبه على العشب.
رغم أن العشب كان مبللًا بندى الليل، إلا أن الرداء الذي أعطاني إياه منع عني البرد.
ساد صمتٌ عميق فوق سطح البحيرة… لا أعرف كم من الوقت مضى.
وفجأة، انقشعت الغيوم وظهر القمر… ومعه، سُمِع طنينٌ خافت من بعيد.
“ما هذا؟”
فتحت عيني على وسعهما وأنا أحدّق نحو البحيرة.
من أعماق الغابة، انطلقت آلاف اليراعات، تضيء بضوءٍ أصفر خافت كأنها مصابيح صغيرة.
حلّق السرب بأكمله فوق البحيرة، وكأننا نشاهد سماءً مرصعةً فوق سطح الماء.
كانت اليراعات تتحرك بانسجام كأنها ترقص رقصة سماوية.
“إنه… مذهل.”
نظرت إلى المشهد الفاتن، وكأني أعيش حلمًا.
“كنت أرغب حقًا أن أريكِ هذا. أنا سعيد لأنكِ ترينه الآن معي.”
“لكن… كيف عرفت أن اليراعات ستظهر؟”
“حين كنت صغيرًا، قضيتُ وقتًا هنا في الفيلا. اكتشفت ذلك صدفة.”
التفتُّ إليه، فوجدت كاردين لا ينظر إلى اليراعات… بل كان يحدّق في وجهي بصمت.
فهمتُ حينها…
هو لم يأتِ ليرى جمال اليراعات…
بل أراد فقط أن يراني أنا.
التعليقات لهذا الفصل " 76"