سأل باراها، وهو ينظر إلى إيكي الواقفة فوق الخيمة. فأومأت برأسها مجيبة.
“أشعر بشيء جيد… لديّ إحساس بأنه سينجح…”
لكن قبل أن تُكمل جملتها، اهتزت العقدة بأكملها وكأن زلزالًا عنيفًا ضربها. وسرعان ما انتشرت الشقوق في الهواء، ثم بدأت السماء التي كانت متوشحة بألوان الغسق تتفتت كقشر بيضة، متساقطةً على الأرض. ومن خلفها، ظهرت سماءٌ صافية زرقاء.
تحت أقدامهم، بدأ السائل الغامض بالتلاشي ببطء، ثم اختفى بالكامل. وتبعته جثث الوحوش، التي تفتتت كالرماد وتلاشت. لم يبقَ سوى الخيام المحطمة.
انكمش الفضاء وتمدّد مجددًا، محدثًا ارتجاجًا عنيفًا. أمسكت إيكي بفمها خشية أن تتقيأ، بينما تمسك باراها بعمود الخيمة كي لا يسقط.
ثم، بشكل مفاجئ، توقفت جميع هذه الظواهر الغريبة. وفي البعيد، ظهرت فجوة الغراب الأبيض وقد انقشع عنها الضباب. السماء صافية بلون النهار. وكان المعسكر في مكانه، تمامًا كما كان قبل ابتلاعه بالعقدة.
“لقد عدنا حقًا…!”
همس باراها غير مصدّق.
قفزت إيكي من فوق الخيمة وبدأت تتفقد المكان من حولها. وفي لحظة، شعرت بطاقة تقترب منها بسرعة هائلة. وبينما كانت تستعد للدفاع عن نفسها بشكل تلقائي، توقفت يدها فجأة حين أدركت لمن تعود هذه الطاقة.
“القائد… آه!”
قبل أن تنطق بكلمة أخرى، وجدت نفسها بين ذراعيه.
كانت حركته يائسة، وعطره الخفيف يعبق من حولها. انسكبت خصلات شعره الفضيّ كخيوط حرير فوقها. شعرت بصلابة صدره من خلف الزي العسكري، وكان قلبه ينبض بعنف شديد، حتى كاد نبضه يُحَسُّ على خدها المضغوط على صدره.
احتضن رأسها بكفّه العريض، ومرر أصابعه وسط شعرها الذي ما زال مبتلًا، ثم رفع ذقنها بلطف، يمر بأصابعه على فكها، ثم يمسح طرف عينيها، فخدها.
كانت أطراف أصابعه ترتجف قليلًا. كما لو كان يتحقق من كونها حقيقة وليست سرابًا. ومن فوق رأسها، سمعته يُصدر أنينًا خافتًا، متألمًا.
رفعت إيكينيسيا رأسها، لترى وجه يورين من بين خصلات شعره الفضي الطويل التي انسكبت نحوها.
وفي اللحظة التي رأت فيها وجهه، عجزت عن النطق. تلاشى كل فكر من رأسها.
كان وجهه أشبه بمن نجا من الانهيار بصعوبة، أو بمن وصل أخيرًا إلى ضفة ماء بعد تيهٍ في صحراء قاحلة، أو أعمى استعاد بصره فجأة. مزيج من البكاء والفرح، لا يعرف من أين يبدأ.
عيناه الزرقاوان اهتزّتا كسماء مبللة بالمطر، وحافتهما حمراء مضطربة. شفتاه ترتجفان، لا تدريان أتبكيان أم تبتسمان. كانت الدموع على وشك أن تتساقط من عينيه، متورمة على الحافة.
تعبيرٌ لم تكن لتتخيل رؤيته يومًا على وجه يورين دي هاردن كيريه.
بل في الحقيقة، لم ترَ هذا التعبير من قبل على وجه أي أحد.
كما لو أنها، بالنسبة له، إنسانة لا يمكن استبدالها بأي أحد آخر.
‘لماذا؟…’
لماذا تنظر إليّ هكذا؟ كأنك ترى شخصًا تحبه بصدق… لماذا؟ مستحيل، لا يمكن أن تكون كذلك. أنت تتذكر… تتذكر ما فعلتُه بك، اليوم الذي دمّرتك فيه.
أجل، هذا هو التفسير… لا بد أنك لا تعلم أنني أنا “تلك الشيطانة”، أليس كذلك؟ هل تتظاهر بالحب كي تجعلني أُطمئن إليك؟ كي تغرس خنجرك لاحقًا؟
وإلا فهذا لا معنى له. لا يمكن أن تحبني وأنت تعرف من أكون. إن كنت تعرف حقيقتي، فمستحيل أن تعاملني هكذا.
فمن أكون لك إذًا؟ إن لم أكن “الشيطانة”، وإن كنت فقط “إيكينيسيا رواز”… من أكون لك؟ لمن هذا الوجه؟ هل ما أراه الآن من مشاعرك… حقيقي فعلًا؟
تطايرت الأفكار في رأسها بلا ترتيب. كادت تصدق، ولذلك دفعته عنها بعنف.
تراجع يورين بغير مقاومة، وكأنه لم يكن يتوقع ذلك أبدًا. لم يكن متأهبًا، ولا حتى حذرًا.
نظر إليها، وتعلو وجهه ملامح الحيرة، كمن طُرد لتوّه من الجنة. ثم شيئًا فشيئًا، عاد التركيز إلى عينيه الزرقاوين.
رمش بضع مرات، واستعاد هدوءه. مسح الدموع التي تجمعت في عينيه، وسكنت ملامحه التي كانت قد اضطربت.
أول ما فعله بعد أن هدأ، كان أن يعتذر. بصوت متردد، يحمل بقايا ذلك الانفعال…
“حقًّا، كان تصرّفًا غير محسوب. أرجو أن تسامحيني على هذه الوقاحة.”
“لا بأس، سيدي القائد. لا داعي للقلق.”
“هل أنتِ بخير؟ هل أُصبتِ بأذى؟”
“لم أُصب بأيّ أذى. كم مضى من الوقت؟”
“يومان…”
الحوار بينهما بدا حذرًا، وكأن بين كلماتهما جدارًا خفيًّا. كأنهما يخشيان أن يتحطم أحدهما، أو أن يتجاوز أحدهما الحد، فيفسد كل شيء. وحده باراها، الذي كان يراقب الموقف بارتباك، تنبّه إلى ذلك. عيناه تضيقان قليلاً، وهو يتساءل بصمت: ما هذا بالضبط؟ وفجأة، استعاد في ذهنه ما حدث في الإسطبل. حين التقت عينه بنظرة يورين، فابتعد لا شعوريًّا عن إيكي.
تقدّم باراها بخفّة ليتدخّل في الموقف:
“سيدي القائد.”
“باراها… أنت أيضًا عدتَ سالمًا.”
“نعم. كان هناك العديد من الوحوش داخل التشوّه، لكن بفضل رفيقتي المتدربة إيكينيسيا، تمكّنتُ من الخروج سالمًا.”
“ما الذي تقوله؟ أنت من أنقذتَ الموقف، أنا فقط قدّمتُ لكَ بعض المساعدة!”
قالت إيكي وهي تلوّح برأسها بسرعة، وقد بدا الذعر على وجهها. كأن دلوًا من الماء البارد قد سُكب فوق رأسها فأفاقها. اجتاحها رعبٌ خالص من فكرة أن تُكشف حقيقتها.
لكن باراها لم يكن ينظر إليها. بل ثبّت نظره على يورين وهو يقول بثبات:
“لو لم تكن المتدربة إيكينيسيا معي، لما عدتُ حيًّا. لها فضلٌ كبير في نجاتي، وأظنّ أنّها كانت تحميني.”
“باراها، توقف!”
لم تستطع إيكي التحمل، فتقدّمت إليه وضغطت على خاصرته بيدها. بدا كأنها تضع يدها عليه بلطف، لكنها في الواقع كانت تقرصه بشدّة. تجاهل باراها الألم، فاضطرت إيكي أن تبتسم بتوتر وتهمس:
“لم تكن الوحوش بتلك الخطورة. أنت فقط تبالغ في مدحي…”
ظلّ وجه يورين هادئًا، لكن باراها لم يَفُته الارتجاف الطفيف في عينيه للحظة. حتى أن نظرات يورين استقرّت لوهلة على يد إيكي التي كانت تلامس خاصرة باراها. ثم قال بعدها بلهجة طبيعية:
“شكرًا لكما، على عودتكما سالمين من التشوّه. سيتم تكريمكما لاحقًا. التفاصيل المتعلقة بما حدث هناك، وجدول العودة، يمكن مناقشتها مع نائب القائد. مجددًا… أهلًا بعودتكما. أحسنتما الصنيع.”
كانت نبرته رسمية. ثم أدار ظهره وغادر بهدوء، فيما كان الآخرون يقتربون من المكان.
رأت إيكي بين الحشود أليس، التي بدت وجهها شاحبًا، لكنّ ملامحها ارتسم عليها الارتياح فور أن رأت إيكي. دفء مفاجئ غمر صدر إيكي، فنادت باراها ببرود وهي لا تزال تنظر إلى أليس:
“باراها.”
“ماذا؟”
“ألم تقل إنك ستخفي الأمر؟”
“لقد فعلت، أليس كذلك؟”
“كيف تقول إن الفضل لي؟”
“لأنها الحقيقة. ثم إنك قلتِ إنكِ ستُظهِرين تطوّركِ، أليس كذلك؟ الآن هي فرصتكِ… قولي إنكِ طوّرتِ مهاراتكِ في المبارزة بعد أن واجهتِ خطر الموت.”
“أنت بارع بالكلام، كما هو واضح.”
“شكرًا على الإطراء.”
في هذه الأثناء، ركضت أليس نحو إيكي، وتوقّفت أمامها لاهثة ثم انفجرت غاضبة:
“كنتُ قلقة عليكِ!”
“أنا آسفة، أليس.”
“لا تعتذري! هذا ليس خطأكِ!”
“آه…”
وفي الجهة الأخرى، اقترب نائب القائد بارون من باراها، وحدّق فيه بنظراتٍ ثقيلة، ثم وضع يده بقوّة على كتفه. لم ينبس ببنت شفة، لكن ضغط اليد كان كافيًا للتعبير عن كل شيء. انحنى باراها له احترامًا بعمق.
***
في 15 مايو من عام 1629، أعلنت “فرقة فرسان السماء الزرقاء” انتهاء حملة تطهير وادي الغراب الأبيض.
رغم ظهور تشوّه مفاجئ أودى بحياة متدرّبٍ واحد، إلا أنّ بقية الأفراد لم يتعرضوا إلا لإصابات خفيفة. مقارنةً بظهور تشوّه، كانت الخسائر ضئيلة جدًا.
أُثيرت بعض الشكوك حول وفاة المتدرّب، لكنّها سرعان ما هدأت، إذ تبيّن من خلال شهادات الناجين والوضع داخل العقدة أن الحادثة على الأرجح كانت بفعل وحشٍ، لا غير.
وقد اعتُبر المتوفّى شهيدًا، فبعث قائد الفِرقة برسالةٍ وهديّة تعزيةٍ إلى عائلته بنفسه، تقديرًا له.
وفي السابع عشر من مايو، بعد يومين من الحادثة، عادت فرقة الإبادة إلى أزينكا.
وعندما عادت إيكينيسيا إلى السكن بعد غيابٍ طويل، وجدت رسالة مانا قد وصلت أثناء غيابها. وكان المرسل نيكول شيزتن.
>سنزور أزينكا في مهمة حراسة مع ضيفٍ رفيع. سنتحدّث عن الأسد الأبيض حينها.
الفصل الخامس – ما ينكشف وما لا يمكن السيطرة عليه
أول ما فعلته إيكينيسيا بعد عودتها إلى أزينكا كان أن تمدّدت في السرير.
كانت الأمور على ما يُرام حتى لحظة عودتها إلى غرفتها بالسكن في الليلة السابقة، حيث قرأت البرقية ثم نامت. لكنّها سقطت في صباح اليوم التالي، ممّا جعل زميلتها في الغرفة أليس تصاب بالذعر.
والواقع أن إيكي كانت مريضة منذ اليوم التالي لخروجها من العقدة. فقد كان من المتوقّع أن تُصاب بحمّى شديدة بعد المجهود العنيف الذي بذلته هناك، غير أنّها كتمت أعراضها لأنها كانت مضطرة لإنهاء مهمّة الإبادة والعودة، ولم يكن الوقت مناسبًا للراحة.
وأثناء العودة، لم تكن مع أصحاب سيف غيوسا، بل مع طلاب الأكاديمية، ولهذا لم تصادف يورين.
وكانت تُشعر في قرارة نفسها بأن هذا أفضل، إذ كانت تخشى أن يكشف أمر مرضها بمجرد أن ينظر إليها.
وبما أنّها تحمّلت كل ذلك وهي مريضة، فقد ظنّت أن اليوم لن يكون مختلفًا. رغم أنّها شعرت منذ استيقاظها بأن حالتها ليست على ما يُرام، فقد تجاهلت الأمر على أمل أن لا يكون خطيرًا.
لكنّ نتيجة ذلك التجاهل كانت أن سقطت أرضًا وهي في طريقها إلى الحمّام.
في الحقيقة، كانت إيكي تشعر بالحرج الشديد لأنها فقدت وعيها هكذا. كيف لها أن تكون في مرتبة أعلى من “الماستر” ثم تسقط بسبب مجرّد حمّى؟
‘كان يجب أن أستند على المانا… لقد استهنت بالأمر كثيرًا.’
قالت أليس وهي قلقة وتحمل دلوًا من الماء:
“إيكي، أليس من الأفضل أن أستدعي الطبيب؟”
أجابت إيكي محاولة التملص:
“لا حاجة للطبيب، أنا حقًا بخير، فقط…”
لكن أليس قاطعتها صارخة:
“بخير ماذا؟! حرارتكِ مرتفعة جدًا!”
“سيزول كل شيء إن استلقيت قليلاً. عودي إلى التدريب يا أليس، لم يتبقَ وقت كثير على تصفيات الترتيب العام.”
“ولكن…”
“إنها مجرد حمّى بسيطة، سأكون بخير إن نمت قليلًا. اذهبي وركّزي على تدريباتكِ. وجودكِ هنا يشتّتني ولا أستطيع النوم هكذا.”
ببعض الانزعاج، تمكّنت إيكي أخيرًا من إخراج أليس من الغرفة. لم ترغب بأن تُضيع أليس وقتها وهي تستعد للترتيب العام، لا سيما وأن حالتها لا تستدعي كل هذا القلق.
لم تكن الحُمّى مفاجأة بحد ذاتها، لكن يبدو أن إرغام نفسها على التحمّل طوال رحلة العودة أثّر فيها أكثر مما توقعت.
لم تكن تملك قوّة لتحريك جسدها. صحيح أنه يمكنها استخدام المانا لتستعيد نشاطها، لكنها لم تجد سببًا ملحًّا لفعل ذلك.
‘سأرتاح اليوم، ولن أفعل شيئًا.’
غاصت إيكي في سريرها، ثم استعملت المانا لترطيب منشفة من الدلو الذي تركته أليس. وارتفعت المنشفة بهدوء في الهواء حتى استقرّت على جبهتها. كانت البرودة منعشة، مما أشعرها بالارتياح.
وبينما كانت تضع يدها على المنشفة، تمتمت قائلة:
“غدًا موعد التعيين الرسمي كـ مساعدة… أشعر أن يورين سيلاحظ حالتي. هل أتحسن إن نِمت جيدًا اليوم؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 40"