[هل يا ترى يفعل يورين الشيء نفسه الآن؟ آه، لا… لقد شارك في هذه المهمة للقضاء على الوحوش حتى قبل العودة بالزمن، فلا بد أنه يعرف جيدًا ما الذي سيحدث الآن! إذن، لمَ لا ترتاحين فحسب؟ سيقوم هو بإنقاذ الجميع، ذلك العملاق.]
تذمّر السيف الملعون، لكن إيكي لم تُجبه. لم تكن في مزاج يسمح لها بالتفكير أصلًا. ولحسن حظها، كان لديها ما يشغل تركيزها.
وفجأة، التقطت تغيّرًا طارئًا في الوضع. كأنها وحش مفترس، أدارت رأسها بهدوء دون أن تُصدر أي صوت ونظرت نحو مصدر الاضطراب. الجميع كان قد احتمى داخل الخيام بسبب المطر الغزير، ولم يبقَ في الخارج إلا الحراس المناوبون، لكنها شعرت بحركة صدرت عن شخص خرج من إحدى الخيام.
لم تكن الحركة من جهة باراها، بل كان يورين هو من غادر خيمته.
كانت إيكي بجوار خيمته مباشرة، فتمكنت من رؤيته من خلال الفتحة الضيقة التي أبقتها في مدخل خيمتها. كان قد خرج إلى المطر دون أن يحمل مظلة، مرتديًا عباءة بقلنسوة فقط، يتلقى المطر فوقه دون اكتراث. وقف للحظة يتأمل جهة خيمتي “باراها” ونائب القائد، ثم استدار وسار في اتجاهٍ آخر.
[ما هذا؟ إلى أين يذهب؟]
“ألم أقل لك ألا تنادِ يورين بتلك الطريقة؟”
[وهل هذا وقته؟! هو يتصرف بغرابة الآن! ماذا تنوين أن تفعلي؟]
في لحظة قصيرة لكنها مشحونة، تمزقت إيكي بين خيارين: هل تتبعه لمعرفة وجهته؟ أم تبقى هنا لمراقبة إن كان خطر ما سيقع على باراها؟
لم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير الطويل. نهضت من مكانها وأمسكت بسيفها، ثم أخرجت عباءة ناعمة الملمس تقيها من المطر وارتدتها، والتقطت مظلة بلون أرجواني داكن.
[إذًا ستتبعينه؟]
“من المؤكد أن يورين يعرف شيئًا. خروجه الآن، في هذا الوقت، ليس عبثًا.”
[ولكن إن حدث شيء للمعسكر أثناء غيابكِ؟]
“لا أنوي تتبعه إلى مسافة بعيدة… ثم لا أظنه سيذهب بعيدًا أصلًا.”
بدأت المانا تتدفق من نواة طاقتها لتغمر جسدها كله. أخفت وجودها تمامًا. ربما لم تكن في مهارة الصيادين المحترفين أو القتلة المدربين، لكن من يصل إلى مستوى متقدم في مجالٍ ما، غالبًا ما يكون لديه كفاءة أساسية في المجالات ذات الصلة. على الأقل، كانت واثقة بأنها لن تُكشف أمام يورين.
‘الحمد لله أنني أرتدي ألوانًا داكنة.’
تسللت بهدوء خلفه، مخفية جسدها وسط زخّات المطر.
كانت عباءته القاتمة قد ابتلّت تمامًا، وأخفت خصلات شعره الفضي وزيّه الأبيض.
اجتاز يورين محيط المعسكر متجنبًا الحراس المناوبين، ومضى كمن يعرف وجهته تمامًا دون تردد.
كان مدخل وادي الغراب الأبيض قريبًا بما يكفي ليُرى من المعسكر في الأحوال الجوية الجيدة. تقدم يورين مباشرة باتجاهه. كلما اقترب، زاد الضباب المحيط به كثافةً، حتى ابتلعه تمامًا.
ترددت إيكي لحظة وهي تلتفت لتفقد حال المعسكر مجددًا. كل شيء لا يزال هادئًا وسط هذا الطقس العاصف. أخيرًا، خطت هي الأخرى نحو الضباب.
لم يدخل يورين عميقًا في الوادي، بل اتجه نحو الجدار الأيمن القريب من المدخل، وبدأ يمسح المكان بين الصخور المبتلة والتربة.
أنزل يده اليمنى بهدوء، فانبعثت منها السيف المقدّس الأبيض، وانساب إلى كفّه. شعّ السيف بضوء خافت وسط الظلمة.
[ما هذا؟ كأنه يبحث عن شيء؟]
همس السيف الملعون باستغراب، وكانت إيكي تشاركه الشعور ذاته.
‘يبدو وكأنه يستخدم المانا… ما الذي يبحث عنه؟’
اختبأت خلف جذع شجرة بارز، تراقبه بهدوء من خلف المظلة. انعكس ضوء السيف الخافت على جانب وجهه، فظهر بوضوح. ملامحه الواضحة كأنها مرسومة، وحاجباه المنخفضان يلقيان بظلٍ على عينيه الزرقاوين.
مدّ يده نحو الجدار وأخذ يتحسسه ببطء. تلطخت يده بالطين المبتل، لكنه لم يُبالِ.
ثم فجأة، توقفت يده عند نقطة ما. تحسسها بأطراف أصابعه قليلًا، ثم رفع يده وأغمد السيف المقدس مباشرة في ذلك الموضع. انغرس السيف الأبيض في الطين كما لو أنه يخترق كتلة توفو. وفي تلك اللحظة بالضبط—
“!!”
صرخة مرعبة مزقت صوت المطر، ثم تلاها صوت رعد أخفى بعض حدّتها. وفي اللحظة نفسها، انشقت الجدار الطيني عند موضع غرس السيف، وسقطت منه كومة من الجثث المتعفنة.
ومن فوق تلك الجثث، اندفعت كائنات بلا شكل، تشبه الدخان الأبيض، تتطاير صاعدةً. في موضع أعينها، كانت كراتٌ حمراء متوهجة ومرعبة. لم تكن لها أفواه، لكنها أطلقت صرخات مخيفة، وانطلقت كما لو أن نارًا اشتعلت في جحر فئران.
سبكتر!
عرفت إيكي فور رؤيتها لها ماهيّتها. كانت هذه واحدة من أشهر أنواع الوحوش الشبحية. بلا جسد ملموس، تتحرك كالدخان، ولا يمكن إلحاق الضرر بها بالطرق المادية. ومع ذلك، تُعدّ من أخطر أنواع الوحوش.
السبكتر تلتصق بالبشر وتتلبّسهم. فإذا تلبّست أحدهم، يصبح كوحش يهاجم من حوله. قد يستطيع الفرسان من مستوى ماستر مقاومتها، أما من لا يمتلكون مانا، فيصبحون ضحايا بلا حول.
أظنني بدأت أفهم كيف مات باراها في الخط الزمني السابق.
إذا اندفعت السبكتر فجأة نحو المعسكر دون استعداد، فلا بد أن كثيرًا من المتدربين ونواب الفرسان الذين لا يستطيعون المقاومة، قد تلبّستهم وهاجموا الآخرين. وخلال عملية السيطرة على الوضع، حتمًا سقط ضحايا كثر.
تخيل منظر الرفاق وقد تلبّستهم الأرواح الهائجة في ليلة كهذه تعج بالرعد والبرق، هو أشبه بكابوس حي. حتى لو كان الأمر يتعلق بفريق قوي كفرسان السماء الزرقاء، فإن الخسائر كانت شبه مؤكدة.
وعندها، فهمت إيكي أيضًا لماذا جاء يورين وحده. فالشخص الذي لا يستطيع مقاومة تلبّس السبكتر لن يكون إلا عبئًا عليه. ثم إنه قد يصعب عليه تفسير كيف علم بوجودها مسبقًا في هذا المكان…
‘من بين مالكي الغيوسا، وحده يورين يحتفظ بذكرياته.’
داهمها هذا الإدراك فجأة. فلو وُجد مالك غيوسا آخر يحتفظ بذكرياته، لكان قد سبق هو الآخر إلى هذا المكان للتخلص من السبكتر قبل أن يتفشوا. إن وجود يورين وحده هنا يعني أن الذكرى لم تُستعد سوى له من بين جميع المالِكين.
ورغم شعورها ببعض الارتياح، اجتاحها غضب خافت ممزوج بالضياع: لماذا، من بين الجميع، هو الوحيد الذي استعاد ذاكرته؟ لم يكن هناك من توجه له هذا الغضب، ولكنه كان يغلي بداخلها. شعور بالانهيار جعلها تعضّ شفتها السفلى بمرارة.
[يا إلهي، عددهم مقزز.]
تمتم السيف الملعون بذهول، كأن المشهد أذهله. حتى إيكي، التي لم تكن تنوي التدخل أو الظهور، بدأت تتساءل للحظة إن كان يجب أن تساعد، فعدد السبكتر الذين تدفقوا من الضباب لم يكن هيناً.
تساقطت السبكتر في سيلٍ داخل الضباب، مطلقة صرخات تقشعر لها الأبدان، وتحلّقت حول يورين، الذي كان أقرب البشر إليهم. عيونهم القرمزية المشؤومة تدور في الضباب، تحلل وتختبر. كان تحليقهم كأنهم يترقبون اللحظة المناسبة للانقضاض.
أما يورين، فظل ثابتاً لا يتحرك، قابضاً على سيفه المقدس المغروز في الجدار، تغمره مياه المطر حتى بدت خصلات شعره الفضي رمادية، تتقاطر منها المياه باستمرار. على ذقنه كانت قطرات المطر تتجمع وتكبر، حتى سقطت إحداها في بركة ماء صغيرة عند قدميه.
في اللحظة ذاتها التي لامست فيها القطرة سطح الماء، اندفع السبكتر فجأة نحو يورين. وخلال لحظة، غُمر جسده بالكامل بتلك الظلال الضبابية. رغم شفافيتهم، إلا أن تراكُم المئات منهم فوق بعضهم جعل من المستحيل رؤية يورين بوضوح.
[هيه… أليس هذا خطيراً؟]
“…لا، سيكون بخير.”
ردّت إيكي بصوتٍ خافت وهي تهز رأسها ببطء. كانت قد قبضت على سيفها لا إرادياً في لحظة هجوم السبكتر، لكنها أرخت يدها عندما رأت أن لا حاجة لتدخلها.
يورين انتزع الغيوسا من الجدار.
سرت المانا البيضاء على طول نصل السيف، تغلفه طبقة بعد أخرى، حتى اختفت معالمه تحتها بالكامل. ثم بدأت النقوش الذهبية التي تحيط بالسيف تتوهّج بشدة. انفجرت المانا وتوسعت بقوة. ثم تحرّك السيف.
“!”
صرخة أشد حدة من سابقتها مزّقت الأجواء، تحمل معها ألم الفناء. انطلقت المانا البيضاء كقمرٍ يذبح السواد، تقطع كل ما يمر في طريقها. كل سبكتر مسّه هذا الضوء اختفى دون أثر، حتى الضباب انجرف مع التيار كالمدّ المتراجع.
إيكي تنفست بعمق وأسندت ظهرها إلى الشجرة، وقد ارتاحت.
“فهذا سيفٌ يزداد قوة كلما واجه الشر.”
[هذه هي قدرة لاغيوسا، بلا شك.]
“الغيوسا… وهو أيضاً.”
قالت ذلك وهي تبتسم ابتسامة خفيفة. محاطاً بالمانا البيضاء ونور السيف الذهبي، بدا يورين نبيلاً مهيباً. بخلاف السواد الذي التصق بكفّها، بدا هو طاهراً، متجاوزاً كل ظلمة.
لم يكن من المتوقع أن تستغرق عملية فناء جميع السبكتر وقتًا طويلاً. لم تنتظر إيكي حتى النهاية، بل غادرت المكان. بدأت تعود ببطء إلى جهة المخيم.
وما إن انحلّ التوتر، حتى اجتاحها التعب دفعة واحدة. الآن يمكنها أن ترتاح بلا قلق. باراها، وكذلك الجميع، لن يموت أحد منهم.
بهذه الطمأنينة، خرجت من نطاق الضباب. ولكن ما إن لاحت معالم المخيم أمام عينيها، حتى انتصب شعر جسدها من الرعب.
الفراغ كان يتشوّه.
يتلوى كما تنكسر صورة ما في زجاجٍ مشروخ، أو كما تنتشر دوائر الماء حين يُرمى فيه حجر.
الاعوجاج، الذي بدأ صغيرًا، كان يتمدد تدريجيًا. وقد ظهر في الهواء فوق المخيم، وراح يتمدد نحو الأسفل. كان المخيم غارقًا في المطر والظلام، فلم يلحظ أحد ما يحدث في البداية، لكن ما إن تنبّهوا، حتى دقّوا جرس الإنذار بجنون.
وما إن وقع نظر إيكي عليه، حتى انطلقت مسرعة. إن ابتلعك ذلك الشيء، فالنهاية محتومة. حتى لو كنت من حاملي غيوسا، فلن تضمن الخروج حيًّا.
قبل العودة الزمنية، دخلت إيكينيسيا بنفسها إلى أحد هذه التشوّهات في سبيل الحصول على سيف غيوسا، وكادت تموت هناك، بالكاد استطاعت النجاة.
‘لماذا… لماذا يظهر عقدٌ مكاني هنا؟!’
العقدة – أو التشوّه – هي قطعة من الفراغ قُطِعت وانفصلت عن العالم. إنها مساحة منفصلة تمامًا عن هذا العالم، تشكّل نتيجة أثر تركه لاكياغيوسا، سيف الحاكم الذي يقطع الفراغ.
وعلى عكس كايروسغيوسا، سيف الحاكم الذي يراقب الزمن من موضعٍ ثابت، فإن لاكياغيوسا صنعه الحاكم من الفراغ نفسه، لذا يطفو بحرية في فضاء الوجود، متجوّلًا بلا قيود.
هذا السيف، حتى شكله الحقيقي لم يُعرَف بعد. لم يُسجَّل له أي ظهور واضح في أي سجل أو وثيقة. وجود لاكياغيوسا، الذي لم يره أحد بعينيه، لا يُثبت إلا من خلال ما يُخلّفه من عُقَد.
“لاكياغيوسا” يشقّ الفضاء أينما مضى. وكل ما يُشقه يتحوّل إلى عقدة.
ما يوجد داخل العقدة؟ وما الذي ينتظر من يدخلها؟
لا أحد يستطيع الجزم قبل أن يغامر بالدخول.
ومع ذلك، يمكن التكهن أحيانًا.
فبما أن لاكياغيوسا لا يصنع الفراغ من العدم، بل يقطع أجزاء موجودة سلفًا، فإن طبيعة المكان الذي تنشأ فيه العقدة تؤثّر بشكل مباشر على ما بداخلها.
فمثلًا، إذا تشكلت عقدة في قرية هادئة، قرب أطفال يلعبون ببراءة، فإن ما بداخلها يكون أقرب إلى عالمٍ خيالي تملؤه الجنيات، كما في قصص الأطفال.
الذين يدخلون مثل هذه العقدة، غالبًا ما يُفقد أثرهم لبعض الوقت، لكنهم يعودون سالمين، وهم يتحدثون بسعادة عمّا رأوه من جنيات.
لكن مثل هذه الحالات نادرة للغاية. فالعالم الحقيقي أبعد ما يكون عن عالم القصص: جاف، موحل، وخطير.
معظم العقد كانت مشوّهة ومليئة بالرعب والمخاطر.
وفي هذه الحالة بالتحديد، حيث نشأت العقدة بجوار منطقة مليئة بالوحوش مثل وادي الغراب الأبيض، فالاحتمال الأكبر أن الداخل سيجد نفسه في الجحيم بعينه.
‘لو كان يورين يعلم، لما أقام المخيم هنا أبداً… هذه العقدة لم تظهر في الماضي! تبا، لماذا الآن؟!’
كانت إيكي تجري وهي تطحن أسنانها من الغيظ. سرعة تمدد العقدة لم تكن ثابتة.
في تلك اللحظة، كانت تتسع ببطء، كسرعة مشي الإنسان، لكنها قد تنفجر فجأة وتتضخم دفعة واحدة.
وإن حدث ذلك، فستبتلع كل ما في نطاقها وتفصلهم عن هذا العالم.
لا أحد يعلم متى أو إن كانت ستعود إلى طبيعتها. ولا أحد يعرف إن كان من يُبتلع داخلها سيتمكن من النجاة حتى لحظة زوالها.
وتحت السماء المتشوّهة، كان أعضاء فرقة السماء الزرقاء يجمعون أمتعتهم وهم يفرون في هلع.
أما إيكي، فكانت تمسح بنظرها سريعًا وجوه أولئك الذين يفرّون، تبحث عنهم واحدًا واحدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 32"