من دون أن تُعيق حركة يورين إطلاقًا، كانت تُوجه ضربات دقيقة بسيفها إلى الوحوش الصغيرة التي غفل عنها.
كانت تُنهي حياة الوحوش بحركات بسيطة وفعّالة للغاية. لا زخرفة في المهارة، ولا تقنيات ملفتة. ورغم ذلك، كانت حركتها تشد الأنظار إليها بقوة.
خلف قائد الفرسان ذي الشعر الفضي المتوشح بهالة من المانا البيضاء، كانت ذيول فستانها الأرجواني الداكن تدور وتنتشر في الهواء كما لو ترقص، وأكمامها الطويلة تُشكّل خطوطًا معقدة في الفضاء مع كل حركةٍ من سيفها.
وحش من نوع “الريدكاب” خرج من حفرة يختبئ فيها محاولًا الإمساك بكاحلها، لكنها تجاوزته بخفةٍ من دون حتى أن تنظر إليه، ثم سحقت ذراعه بكعب حذائها المزخرف بشريط، وثبّتته في الأرض، وطعنت جبهته بسيفها المغلف بمسحوق الفضة من دون تردد.
ثم، وهي تعقد حاجبيها كمن تتفادى طينًا تطاير من عجلات عربة، تجنّبت الدم المتفجّر من جسد الوحش.
ورغم كل تلك الحركات، لم يسقط قبعتها المزينة بريش فخم. لقد كانت موضوعة بثبات على رأسها، شاهدة على مدى توازنها المثالي أثناء القتال.
وبفضل ذلك، لم يتلطخ لباسها بأي أثر للدم، فبدت كما لو كانت في نفس حالتها عند الانطلاق. مظهر لا يليق البتة بمكان مليء بالضباب والجثث المتحركة والروائح النتنة.
والحفاظ على تلك الصورة بحد ذاته دليل على قوتها. ولم يرفّ لها جفن حتى عندما انقضّ عليها وحش بعين متحلّلة تتأرجح من محجرها.
“قالوا إن القائد اختار مساعدًا فجأة، والآن فهمنا السبب…”
“العبقري لا يُدركه إلا عبقري مثله…”
“مجموعة من الوحوش، الكبير منها والناشئ.”
“ظننتُ أنها مجنونة من ملابسها، لكن… بهذا المستوى لا يهم ما ترتديه.”
المراقبون من الخلف لم يتمالكوا أنفسهم وأطلقوا تعليقاتٍ ذُهلوا بها داخليًا. رغم إرادتهم، لم يستطيعوا منع أنظارهم من التوجه إليها.
ثم، في لحظة واحدة، أداروا وجوههم في الاتجاه المعاكس. لقد رفعت إيكينيسيا طرف فستانها بخفة وهي تسير، فظهرت من تحت الدانتيل الأسود جوارب داكنة، مشهد غير متوقع ألهب الحواس في مكان مليء بالجثث المتحركة.
“سقطت بعض الفضة…”
بالنسبة لإيكي، لم يكن ذلك التصرف مقصودًا أبدًا. لم ترفع الفستان إلى ذلك الحد. رفعت بطرفٍ واحدٍ من يدها الفستان، وفتحت بالحركة الأخرى حقيبة مربوطة بفخذها عبر حزامٍ جلدي.
الذين لا يستطيعون استخدام المانا، يواجهون الوحوش بمزج مسحوق الفضة المبارك على السيف، فالسيوف العادية لا تُجدي نفعًا أمام وحوش تملك قدرة عالية على التجدد. وبعض الأشباح لا يمكن حتى لمسها إلا بسيف مغطى بالفضة.
رغم أن إيكي لم تكن بحاجة لتلك الأداة فعلًا، لكنها كانت تستخدم مسحوق الفضة لتخفي كونها “ماستر”.
أثناء تغطية سيفها بالفضة، ركلت جمجمة هيكلٍ عظمي دنا منها، ثم هوت بكعب حذائها الحاد على رأسه وحطمته.
“مفيد أكثر مما توقعت.”
لكنها عبست فور أن نظرت إلى حذائها الأسود وقد تشوّه من دماء الوحش وسوائله وبقايا عظامه. كان من الأحذية التي تحبها. لكنها تنهدت داخليًا واستلت سيفها مجددًا.
لم تكن قلقة على يورين إطلاقًا. صحيح أن عدد الوحوش كان كبيرًا، لكنه لم يكن من بينها وحش من الرُتب العليا كـ “دولاهان”. ولو حتى ظهر دولاهان، لما أقلقها ذلك. القلق على يورين في هذا المكان المليء بالصغار ليس سوى مضيعة للطاقة.
أزاحت نظرها بهدوء نحو مؤخرة التشكيل، تبحث عن خصلات شعر أليس الذهبية، لكنها لمحت أولًا شعرًا أشد لمعانًا: ميخائيل.
‘تيريزا في الجانب الأيسر من الوادي، فلمَ هو هنا؟’
تأملته قليلاً فلاحظت أنه يقاتل بشكل لا بأس به. وفجأة التقت نظراتهما. لقد كان يُراقبها خلسة طوال الوقت. وما إن التقت الأعين، حتى احمرّ وجهه حتى أسفل ذقنه، وأدار رأسه بسرعة.
‘ما به هذا؟’
أمالت رأسها متعجبة، لكنها سرعان ما صرفت انتباهها وأعادت بحثها عن أليس. كانت أليس قد اتسخت بعض الشيء بدماء الوحوش، لكنها لم تُصب بأذى. راقبتها مرات عدّة خشية أن تكون أُصيبت بشيء دون أن تلاحظ، لكنها أدّت مهامها بجدّيتها المعهودة ودقّتها المتوقعة.
أما فاتلينا وإيان، فكانا مع فرقة التيريزا، ولذلك لم يكونا في هذا الجانب من الحملة.
حينها فقط، شعرت إيكي بالاطمئنان، ورفعت بصرها نحو المقدمة. حتى أثناء انشغالها بالنظر هنا وهناك، كانت تعوّدت على إنهاء الوحوش التي فاتت يوريين.
الوضع كان أسهل من المتوقع، بل حتى أصبح مملًا بعض الشيء.
وعندما بلغت الشمس كبد السماء وبدأت بالميل، أمر يورين بوقف التقدم:
“استراحة قصيرة. تناولوا طعامكم.”
فبعد أن طهّروا الوحوش المحيطة، جلس الجنود متفرقين يتناولون شيئًا من اللحم المجفف والماء. أخرجت إيكي حصتها وبدأت بمضغها ببطء، حين لفت انتباهها تصرف يورين.
كان لا يأكل، بل يرفع رأسه نحو السماء.
اتبعت نظره فرأت ما رأى. في ذلك الضباب، لا يستطيع الناس العاديون الرؤية، لكن بالنسبة ليورين ولها، فكان الأمر بسيطًا.
تجمّعت الغيوم في السماء. بدا أن المطر سينهمر مساءً. بل وربما مع برق أيضًا، لأن الغيوم بدت داكنة وثقيلة.
“مطر… برق… ليل.”
كانت تلك ظروف وفاة باراها. توترت حواس إيكي بشدة. وحين أعاد يورين نظره من السماء نحوها، التقت أعينهما.
طرفت عيناه الزرقاوان ببطء. في نظره وفي فعله، برقٌ خاطف. شعرت إيكي بما كان يُفكر فيه.
لقد رأيا الأمر نفسه، وفكّرا بالفكرة نفسها، وتوقعت ما سيأمر به… أدركت الحقيقة فجأة.
ثم أدار وجهه عن إيكي وأصدر الأمر للحملة:
“الطقس لا يُبشّر بخير. سنؤجل حملة بعد الظهر إلى الغد ونعود إلى المعسكر.”
ولأنهم يثقون بقائدهم، لم يعترض أحد. بدأ الأعضاء بجمع أغراضهم والتهيؤ للعودة.
أما إيكي، فقد بقيت واقفةً متيبسة. اقترب منها يورين وربت على كتفها بخفة.
“أحسنتِ، أيتها الطالبة إيكينيسيا. حين نعود إلى المعسكر، خذي قسطًا من الراحة.”
ثم ما لبث أن ابتعد عنها. وظلت تنظر إليه، وجهها شاحب.
‘إنه… يتذكّر.’
[يا فتاة، هذا مؤكد… لا شك فيه…]
همس السيف الملعون بدهشة، أما إيكي فاتبعت الجنود العائدين في صمت.
جمعت كل شيء. كل ما حدث. كل ما قاله. وضعتها جميعًا في ذهنها الخاوي الآن.
لقد كان يورين يتذكّر.
يتذكّر الماضي الذي مُحي، الأحداث التي أصبحت لا وجود لها في هذا الزمن. كان يحمل في داخله ذكريات ما قبل العودة.
الأمر الذي تمنّت ألا يكون حقيقيًا… تحوّل إلى يقين.
وفكّرت برأسها المشوش:
‘إذا كان يتذكّر… فلماذا لا يكرهني؟ لماذا لا يحاول قتلي؟’
لم تستطع الفهم.
وعلى طريق العودة، وسط الضباب والرائحة النتنة، لم تفكر إلا في ذلك.
تذكرت لانغيوسا التي لم تستطع يومًا امتلاكها.
تذكرت النافورة الملوثة بالدماء.
تذكرت الجثث المنتشرة، وتذكرت موت ازينكا.
تذكرت اسمه، الذي ارتبط بلقب أسوأ قائد، ومُدمّر سماء الزرقاء.
تذكرت عينيه وهما تحتضران.
لو أن يورين تلوث بسيف الظلام وأباد عائلة رواز، وداس جثتي والديها ورانسليد ليصل إليها… لكانت إيكي تكرهه.
حتى لو كانت تعلم أنه لم يكن مذنبًا، لقلبها حكمٌ آخر. لو قتلها، لكانت لعنته حتى رمقها الأخير.
نعم، هي مَن فعلت به ذلك.
والأسوأ، أن يورين لم يكن مجرد ضحية.
كان هو من آمن بها، ومنحها فرصة لتتغلب على السيف الملعون. كان يمكنه أن يقضي عليها، لكنه رفض، وضمّها إلى عالمه.
‘كم يا ترى… ندم؟ كم يا ترى… كرهني؟’
إيكي، ببساطة، لم تستطع أن تتصور أنه لا يكرهها.
حتى في أكثر الاحتمالات تفاؤلًا، قد يكون قد شعر ببعض الشفقة نحوها. وربما، بسبب سمو خلقه، لم يصل به الأمر إلى أن يلعنها.
ومع ذلك، ومهما حاولت أن أُفكر بإيجابية، فلا يمكن لرجل يحمل ذكريات بتلك البشاعة أن يُظهر لها ابتسامة عفوية وبريئة كالتي أظهرها لها البارحة. لا يمكن أن يبتسم بذلك الشكل أمام من قتله ذات يوم. لا يُعقل أن يُبدي لها مودة.
“هو لا يعرف… لا بد من ذلك، وإلا فلا تفسير لهذا.”
همست إيكي بصوتٍ أشبه بالأنين، وانتهى كلامها بخشونةٍ تشبه الصرخة. فالتقط السيف الملعون كلماتها على الفور، وقد كان يسرح في أفكاره.
[لا يعرف؟ من الذي لا يعرف ماذا؟]
“أنا…”
ابتلعت باقي كلماتها. لم تُرد التفوه بها، حتى بأخفض صوت، ما دامت هناك وحدات أخرى في طريق العودة إلى المعسكر تمر بالقرب منها. لم تُرد أن تُنطق كلمة السيف الملعون.
يورين لا يعلم أن إيكينيسيا رواز هي نفسها شيطان السيف الملعون. أو ربما، هو يشك، لكنه لا يملك يقينًا بعد.
عادت إلى ذاكرتها فرضيةٌ كانت قد خطرت لها بعد لقائهما مجددًا لأول مرة.
‘إن كان يملك الذكريات، لكن لا دليل لديه، فربما يُراقبني فقط. وإن كان يشك بي، باعتباري شيطان السيف الملعون الذي قد يرتكب أي شيء في أي لحظة، فسيُبقي عينيه عليّ عن كثب حتى يجد دليلًا يؤكد شكوكه. نعم، لا يوجد تفسير غير هذا.’
بمجرد أن خطرت لها هذه الفكرة، شعرت بأنها صحيحة على نحو مخيف. فهمت عندها السبب وراء طلبه مبارزتها، ولماذا يتصرف وكأنه يُبدي لها ودًّا.
يورين كان يختبرها. بعد أن عاد الزمن إلى الوراء، ولأنه لا يعرف من الذي أعاد الزمن، فهو الآن يُراقب إيكينيسيا ، الفارسة المتدربة التي لم تكن موجودة في الماضي، محاولًا معرفة ما إذا كانت تملك ذكريات من ما قبل العودة. وفي الوقت ذاته، يتحرى بحذر ما إذا كانت إيكينيسيا رواز هي بالفعل شيطان السيف الملعون.
وإن تأكد له ذلك… فإن يورين…
مرّ طعم مرير في فمها، وكأن شيئًا ما يُطحن بقسوة في قلبها. نظرت إيكي أمامها بشرود، إلى ظهر زطيورين الذي كان يسير عائدًا إلى المعسكر. بدا نظيفًا وأنيقًا، كعادته. لم تُرد أن ترى ذلك المنظر، فأغلقت عينيها.
***
ما إن غربت الشمس حتى بدأ المطر بالهطول. كانت أمطارًا غزيرةً حتى خُيّل إليها أن قطراتها ستخترق قماش الخيام. ثم ما لبث الرعد أن دوّى، وتبعته صواعق مزّقت السماء.
جلست إيكي عند مدخل الخيمة، تُزيح طرف القماش قليلًا لتُطلّ على الخارج. المطر يهطل بغزارة، والظلام دامس. لم تصمد المشاعل أمام الرياح والمطر، فلم يتبقَ سوى عددٍ قليل من المصابيح السحرية الثمينة تنبعث منها أنوار خافتة.
كلما أضاءت السماء بفعل البرق، انكشفت ملامح المخيّم لوهلة، ثم عادت لتبتلعها الظلمة. كان هدير المطر مدوّيًا، حتى إنه طغى على معظم الأصوات الأخرى. لم يبقَ سوى صدى المطر والرعد في سكون الليل.
رغم ذلك، كان المعسكر هادئًا. سواء من جهة تيريزا أو يورين، فقد عاد الجميع بأمان، مع بعض الإصابات الطفيفة فحسب، ودون أي جرحى حالتهم خطرة.
رفعت إيكي ركبتيها وسندت ذقنها عليهما. بقيت عيناها البنفسجيتان مثبتتين على نقطة واحدة، دون أن تطرفا. كانت لا تزال ترتدي الفستان نفسه الذي ارتدته نهارًا، ولكن بثبات نظرتها ووضعية جسدها المنكمش بهدوء، بدت أشبه بوحش مفترس يترقب فريسته في صمت.
[ألا تشعرين بالملل؟]
“ليس كثيرًا.”
أجابت إيكي بفتور. كانت تُحدّق باتجاه خيمة باراها، وفي الوقت ذاته وسّعت حواسها إلى أقصى مدى، مستشعرة كل ما حولها. وقد حافظت على تلك الحالة لأكثر من ثلاث ساعات حتى الآن.
رغم أن ذلك يُعد مرهقًا، فإن ذهنها كان في قمة الصفاء. لقد كانت تُركّز بكل حواسها على هذا العمل حتى لا تفكر في يورين. أفرغت عقلها تمامًا، ولم تركز إلا على استشعار الخطر من حولها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 31"