سألتها أليس، بينما كانت إيكي ما تزال تنظر نحو ساحة النزال، فاكتفت بهز رأسها بهدوء.
“نعم، أليس.”
“شكرًا لكِ، إيكينيسيا.”
“إيكي.”
“…حسنًا، إيكي.”
“قلتُ لكِ أن تتحدثي براحة، أليس كذلك؟”
“هذا… صعب قليلاً…”
ترددت أليس واحمرّ وجهها بخفة. ولما التفتت إليها إيكي، قالت أليس بصوت خافت:
“آه، لم أتهيأ نفسيًّا بعد.”
“…أهذا أمر يحتاج إلى تهيئة نفسية؟”
“نعم. لكن إيكي يمكنكِ أن تتحدثي براحتكِ.”
“لكن إن تحدثتُ أنا براحة وأنتِ لم تفعلي، فسيبدو الأمر غريبًا، أليس كذلك؟ لا بأس إذًا.”
***
جرت الجولة الأولى بسرعة. وتمكنت أليس من التأهل بسهولة إلى الجولة الثانية. والآن حان وقت المواجهة الثانية. نظرت إيكي إلى أليس التي كانت لا تزال جالسة إلى جانبها دون أن تفارقها.
“أنتِ تعلمين أن الجولة الثانية ستكون بيني وبينكِ، أليس كذلك؟”
“بالطبع. إنني أتطلع إليها كثيرًا.”
“……”
كانت إيكي تنوي إنهاء النزال بسرعة، لكنها عندما رأت بريق الترقب في عيني أليس الرماديتين، لم تستطع أن تفعل ذلك. فتنهّدت تنهيدة عميقة.
***
المواجهة التي تلت بين “إيكينيسيا رواز” و”أليس وينتربيل” كانت بحق واحدة من المباريات الأسطورية. لكنها، في حقيقتها، لم تكن نزالًا بين خصمين متكافئين، بل أشبه بحصة تدريبية.
فمن يمتلك مهارة أعلى بكثير من خصمه، ويختار أن يعلّمه بدل أن يسحقه، لا يكون في صدد مبارزة، بل في صدد توجيه وإرشاد. وقد خبر جميع الطلبة هذا النوع من القتال من قبل، عندما خاضوا نزالات تدريبية مع معلميهم.
والواقع أن الانتصار السريع أسهل بكثير من هذا النوع من المبارزات. وهذا أمر بديهي، إذ إن تعليم الآخرين لا يتأتى لمجرد أن يكون أحدهم ماهرًا. بل لا بد أن يرى الصورة من أعلى، كأنّه ينظر إلى ورقة الإجابة، ويوجه خصمه من هناك.
استمر القتال عالي المستوى لأكثر من ثلاثين دقيقة، وانتهى حين توقفت سيف إيكينيسيا أمام عنق أليس، دون أن يُحدث خدشًا.
عمّ الصمت أرجاء المدرجات.
لم يكن طلبة الأكاديمية حمقى. كانوا يدركون تمامًا مدى براعة أليس. ولم يكن في القاعة من يجرؤ على القول إنه يستطيع هزيمتها بثقة، لو كان مكانها الآن.
لكن، أن تقوم إحدى الطالبات بتوجيه أليس في نزال تعليمي، وفي “مباراة تصنيف الطلاب الجدد”، فهذا أمر يتجاوز الفهم. من تكون هذه “الآنسة” بالضبط؟ من أين أتى مستواها؟ لم يعد بمقدورهم حتى تقديره.
لو استثنينا عدم استخدامها للمانا، فمستوى مبارزتها وحده ربما يؤهلها لمواجهة الفرسان الرسميين في السماء الزرقاء. فتاة في العشرين من عمرها، ترتدي فستانًا مزعجًا وحذاء بكعب عالٍ.
“عبقرية القرن… يبدو أن هذا الوصف صادق بحق.”
تمتم تيو من دون وعي، مبهوتًا مما رأى.
جميع طلاب الأكاديمية قد جاؤوا إلى أزينكا لأنهم نُعتوا بالعباقرة. و تيو نفسه قد سمع هذا اللقب مرارًا في حياته—العبقري، الموهوب.
لكن بعد دخوله إلى الأكاديمية، أدرك أن الكل هنا مميز، وأن لقب عبقري لم يعد يعني الكثير، لكثرة من يستحقه. وكان هناك من يفوق العباقرة، مثل زميل غرفته ميخائيل، أو أليس التي شاع صيتها تدريجيًّا.
لكن “الآنسة” هزمت ميخائيل بضربة واحدة، وخاضت مع أليس نزالًا تدريبيًّا موجهًا.
فماذا يُمكن أن نُسمي وجودًا كهذا؟ حتى وصف “عبقرية القرن” يبدو غير كافٍ.
بعد نزالها مع أليس، سارت الأمور بسرعة مدهشة. كانت إيكينيسيا تطيح بأسلحة خصومها بضربة واحدة فقط في كل جولة. لم يتمكن أحد من صد سيفها. كانت أليس وحدها الاستثناء.
لم يعد أحد يهتم بمباريات باقي الطلاب. تحول الجميع إلى متفرجين لا يرفعون أعينهم عنها، رغبةً في التعلّم من حركاتها.
فحتى مجرد النظر إلى سيف فارس عظيم، فيه فائدة عظيمة.
“يبدو أن القائد كان يعرف مسبقًا، ولهذا جعلها مساعدة…”
“يا إلهي، هل رأيتم ذلك؟ من سيفوز أمامها أصلًا؟”
“من اللعين الذي أطلق الشائعة؟ قبول غير قانوني؟ لا تضحكوني.”
“أليس هذا غير عادل؟ كيف تكون معنا طالبة مثلها؟”
“لن تتراجع حتى أمام الفرسان المتدربين! لا، بل حتى الفرسان الرسميين.”
“لكنها ليست ماستر، أليس كذلك؟ بدون مانا، ما الفائدة؟”
“صحيح، هناك من يتقنون المبارزة لكنهم لا يملكون توافقًا كافيًا مع المانا، فيظلون فرسانًا متدربين…”
“لكنها لم تبلغ العشرين بعد، أليس كذلك؟ ربما تصبح ماستر خلال بضع سنوات.”
“من أين خرجت هذه المتوحشة أصلًا؟ أحدكم يعرف أي شيء عن عائلة رواز؟”
انتشرت الهمهمات في غرفة الانتظار والمدرجات.
وانتهت “مباراة تصنيف الطلاب الجدد” قبل الوقت المتوقع بكثير، والسبب أن جميع نزالات”إيكينيسيا انتهت بسرعة مذهلة.
حتى المباراة النهائية أنهتها بضربة واحدة.
“مبروك، إيكينيسيا. إلى أن تُعقد المباراة القادمة، أنتِ حاليًّا الأولى على طلاب السنة الأولى.”
قال إيان وهو يقترب منها بعد انتهاء المباراة، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة.
“كنت أعلم أنكِ ستبدعين… لكنكِ فُقتِ توقعاتي بكثير. عندما تُقام مباراة التصنيف العامة، سيصاب الجميع بالتوتر. القمة ستضطرب. أنتِ مذهلة فعلًا.”
“إنك تُبالغ في الإطراء.”
استمعت إيكي إلى كلماته من طرف أذنها، بينما كانت في داخلها تفكر بقلق في آلام العضلات التي ستُصيبها غدًا. لقد خاضت التصفيات وهي لا تزال منهكة من الحمى، وغالبًا ستعلن عضلاتها الإضراب صباحًا. خصوصًا بعد الجولة الثانية مع أليس التي بذلت فيها جهدًا كبيرًا. لقد استخدمت المانا بخفاء لتخفيف تعب عضلاتها، لكن…
‘يجب أن أضع المرهم، وأشرب شاي الزنجبيل، ثم أنام مبكرًا.’
ما إن تذكّرت شاي الزنجبيل الذي أعطتها إياه يورين، حتى شعرت بوخز دافئ في صدرها. كل هذا الاهتمام من الطلاب، وكل هذه النتائج التي حققتها ضد المبتدئين، لا تساوي عندها كوب شاي زنجبيل.
وبينما كانت غارقة في هذه الأفكار، واصل إيان”د حديثه إليها:
“الآن أفهم تمامًا لماذا اختاركِ القائد لتكوني مساعدته. لقد أدرك موهبتكِ منذ البداية. لكن ما سركِ؟ عائلة رواز ليست معروفة ببراعتها في المبارزة…”
ضاقت عينا إيان قليلًا. لم يجرؤ باقي المتدربين على الاقتراب من إيكينيسيا، إذ كان ممثل الدفعة يتحدث معها، فاكتفوا بالتجمهر حولها والتردد في الاقتراب. التقطت إيكي سيفها وأجابت:
“لست متأكدة حقًا.”
“مَن الذي علمكِ؟ هل تلقيت تدريبًا من القائد منذ زمن؟”
“لا، لقد تعلمت بنفسي.”
“…تعلمتِ السيف بمفردكِ؟”
“نعم. سيدي، هل لي بالانصراف الآن؟ أشعر ببعض الإرهاق.”
“آه، بالطبع، لا بد أنكِ مرهقة. أعذريني لأنني أطلت الحديث.”
قالها إيان بلطف وهو يبتعد عنها، غير أن نظراته التي ما زالت معلقة بها لم تكن عادية. لم تكن تلك النظرة المريبة والمباشرة كحال بريد، بل نظرة من نوع آخر، نظرة معوجة تخفي وراءها شيئًا. لو لم تكن قد رأت حقيقته قبل العودة بالزمن، لما تمكنت من ملاحظتها. نظراته كانت مدروسة، مختبئة بإتقان.
‘ليته يُقدم على ارتكاب حماقة صريحة بدلًا من هذا.’
لم تكن إيكي تخشاه. ألاعيبه في ترتيب المباريات لا تستحق الاهتمام، وأي فعل يقوم به إيان لن يكون تهديدًا حقيقيًا لها. لكنها ببساطة لم تكن مرتاحة لوجوده بالقرب منها، فقد كان وجوده بحد ذاته مزعجًا ومقززًا.
وما إن ابتعد ممثل الدفعة حتى بدأ المتدربون يقتربون شيئًا فشيئًا. إلا أن أياً منهم لم يجد الجرأة ليخاطبها مباشرة، بل تبادلوا النظرات فيما بينهم وترددوا في الحديث معها. بعد أن تجاهلوها طيلة الوقت وانساقوا خلف الشائعات، شعروا بالإحراج من المبادرة بالكلام معها لمجرد أنهم رأوا نتيجة التصنيف.
بالطبع، لم يكن الجميع بحاجة إلى قراءة الموقف أو التردد. فقد ركضت فاتلينا، وهي تلوح بضفائرها المتأرجحة، نحو إيكي مبتسمة ببهجة.
“إيكينيسيا! كنت أعلم أن حدسي لا يخطئ! تهانيني على المركز الأول!”
“شكرًا جزيلًا، فاتلينا.”
“كنت أظن أن أليس وميخائيل سيحصدان المركزين الثاني والثالث، لكن جدول المباريات انقلب رأسًا على عقب. مع ذلك، النتيجة في النهاية أثبتت صحة توقعاتي، أليس كذلك؟ ما رأيكِ في بصيرتي؟ ألا تثقين بقدراتي التنبؤية الآن؟”
دارت عيناها السوداوان بحيوية وبدا عليها الفخر. ولم تنتظر رد إيكي، بل وقفت على أطراف أصابعها وربّتت على رأسها بخفة.
“كنت أود أن أحدثكِ أكثر عن روعة نادينا، لكنكِ متعبة من التصنيفات، لذا في وقت لاحق! أحسنتِ، خذي قسطًا من الراحة! نلتقي لاحقًا!”
ثم غادرت وهي تلوح بيدها، بعد أن تحدثت وحدها بحيوية ومرح. وفي طريقها، رمت بنظرة فاحصة إلى المتدربين من حولها، وكأنها تقول لهم: “ألا تشعرون بالحرج من محاولة كسب ودها الآن؟ بعد أن تجاهلتموها؟”
تلك النظرة المبطنة جعلت باقي المتدربين يتراجعون بخجل. تفرقوا في مجموعات صغيرة، وانشغلوا في الحديث عن مباريات التصنيف التي جرت اليوم.
أما إيكي، فقد شعرت بامتنان داخلي تجاه تصرف فاتلينا. فقد كان ذلك كافيًا لإبعاد الآخرين عنها، وما كانت لتتحمل الحشود الفضولية التي ستثقل عليها بلا طائل.
ثم خطر لها فجأة أن باراها لم يكن بين المتدربين اليوم. ربما طرأ عليه أمر مفاجئ، كونه مساعد الخاص بنائب القائد، وهو شخص مشغول بطبيعته.
وكانت إيكي على وشك العودة إلى غرفتها، حين لمحت أليس لا تزال في غرفة الانتظار، تلمّع سيفها بصمت.
“أليس، فلنعد معًا.”
“آه، نعم!”
قفزت أليس واقفة بسرعة، وبدأت تجهز أمتعتها على عجل. فانحنت إيكي والتقطت قطعة قماش سقطت منها، وقدمتها لها وهي تقول:
“…ماذا عن ترتيبكِ؟ لقد كان منخفضًا مقارنة بمستواكِ الحقيقي.”
“لا بأس، لا يُهم. لقد حصلت على ما هو أثمن من مجرد ترتيب. سأنشغل في الفترة القادمة بصقل مهاراتي في المبارزة.”
ابتسمت أليس ابتسامة هادئة، ودهشت إيكي في داخلها من هذا الجواب الفروسي الصادق. إنها حقًا فتاة مستقيمة. هكذا يجب أن يكون الفارس الحقيقي. لم تستطع كتمان ما فاض في قلبها، فنطقت به تلقائيًّا:
“أتمنى حقًا أن تصبحي فارسة من فرسان السماء الزرقاء. أنتِ تليقين بهذا اللقب بحق.”
ورغم أن كلماتها خرجت بعفوية، إلا أنها لم تندم عليها. فقد أدركت، بعد أن تحدثت مع نيكول الذي استعاد حياته، كم كانت تندم على ترددها في التعبير عن صدقها في الماضي.
رفعت أليس رأسها وحدّقت بها في ذهول، فأجابتها إيكي بابتسامة خالصة من القلب:
“إن احتجتِ إلى مبارز، لا تترددي في طلبي، أليس. أظن أنني سأستمتع كثيرًا بمبارزة مثلكِ.”
في الحقيقة، إيكي لم تكن تحب السيوف. كانت ترى فيها أداة قتل متصلة بكوابيسها، لا تنفصل عنها. في كل مرة تمسك بها، تشعر كأن الدم اللزج يتسلل إلى أطراف أصابعها. لطالما اعتقدت أن المبارزة ليست سوى فن لقتل الآخرين بأقصى قدر من الكفاءة.
لكن القتال مع أليس كان مختلفًا. لم تكن تكذب حين أخبرت فالدرغيوسا بأنها انجرفت مع الأجواء. فقد كانت تلك اللحظة حقيقية بصدق. شعرت حينها وكأنها تنجرف بروحها نحو أليس التي تعامل السيف بإخلاص ونقاء.
بالنسبة لأليس، السيف هو الطريق الذي تسلكه، والطريقة التي تهذّب بها ذاتها. كانت تحلم بأن تصبح فارسة حقيقية مثل أولئك الذين تقرأ عنهم في الحكايات. وكانت إيكي تُعجب بتلك المثالية النقية والبريئة.
عندها خطرت ببالها تيريزا دي مونغيوسا، الفارسة التي طالما حلمت بها أليس. كما يُطلق على فالدرغيوسا لقب السيف الملعون، فإن “دي مونغيوسا كانت تُعرف بـسيف الحماية. سيفٌ صاغه الحداد من أحزان من فقدوا أعزاءهم، ومن الرغبة العميقة في حماية من يحبون. وكان لا يُسلَّم إلا لمن يرغب بصدق في التضحية من أجل من يحميه.
قبل أن تعود بالزمن، حين كانت إيكي تجمع سيوف الجيوسا، كان بينها العديد من السيوف التي لم تُطابق شروط امتلاكها، فلم تستطع استخدامها رغم حملها. لكن دي مونغيوسا كانت من بين القلائل الذين استطاعت استخدامهم. بفضل الحزن العميق الذي نشأ بعد أن فقدت جميع أحبتها.
فليس كل من يرفع السيف يفعل ذلك للقتل، بل هناك من يفعل ذلك من أجل الحماية. وهناك من يدرّب نفسه لا لأجل الآخرين، بل لصقل ذاته فحسب. أولئك الذين تتلألأ قلوبهم بالصدق، ويشعون بنور الاستقامة… مشاركتهم السيف تشبه حوارًا أعمق من الكلمات.
ولذا كان نزالها مع أليس ممتعًا بحق، إلى حدّ أنها دفعت جسدها المنهك إلى ما بعد حدوده.
فتحت أليس عينيها على اتساعهما، ثم ضاقت ملامحها وهي تبتسم، وقد احمرّت وجنتاها بخفة. ثم مدت يدها وأمسكت بيد إيكي. على ظهر القفاز الذي يُخفي وشم السيف الملعون في يدها اليمنى، شعرت إيكي بحرارة يد أليس الدافئة.
“شكرًا لكِ، إيكي. أنا سعيدة جدًّا لأنني تعرفت عليكِ.”
“…لِمَ تمسكين بيدي فجأة؟”
“لا أدري، فقط… هل هذا ممنوع؟”
“…لا، ليس كذلك.”
تمتمت إيكي بتوتر وانزعاج خفيف، لكنها لم تسحب يدها. رغم أن جسد أليس لا يزال ينبعث منه عرق مباراة التصنيف، لم تعلق إيكي على ذلك بكلمة.
وبينما تُمسكان بأيدي بعضهما البعض، عادتا إلى المهجع مثل فتاتين صغيرتين من عمر واحد.
التعليقات لهذا الفصل " 27"