انطلقت عينا أليس دون وعي منها تتابعان حركات إيكي. السيف الذي لطالما حلمت به ــ المثالي في نظرها ــ كان يتجلّى أمامها الآن. لم تكن تملك إلا أن تصدّ الضربات الداخلة عليها بردّ فعلٍ غريزي، تمامًا كما فعلت إيكي أثناء مبارزتهما الأولى، حين لم تفعل سوى صدّ هجمات أليس.
لكن سرعان ما تغيّر شيء ما في أسلوب إيكي. وكانت أليس، رغم ذهولها، أول من لاحظه. إيكينيسيا بدأت تقلّد ــ بدقة تامة ــ نفس الهجمات التي كانت أليس قد استخدمتها في ذلك النزال.
خدعة تمرّ بمحاذاة العنق، تراجعٌ مفاجئ، ثم تقدم جديد يليه ضربة من الأعلى، ثم انحراف جانبي لتفادي الصد، وأخيرًا طعنة تستهدف الساق.
ارتعشت أطراف أليس وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها. الضعف تسلل إلى قبضتها، وهو أمر قاتل أثناء مبارزة. اصطدم سيفها بسيف إيكي، فانفلت من يدها وطُرح في الهواء قبل أن يسقط على العشب ويتدحرج.
بوجه شاحب، كأن روحها فُقدت، نظرت أليس إلى إيكي. أما هذه الأخيرة، فخفضت سيفها، ثم مشت بهدوء نحو السيف الملقى، التقطته، ومدته إلى أليس.
“هل ترغبين في الاستمرار؟”
“تلك، ما فعلتهِ الآن… ما كان ذلك؟! كيف…؟!”
“نعم؟ إذن، لا تريدين المتابعة؟”
ردت إيكي بوجهٍ خالٍ من التوتر، لكنها كانت تراقب ملامح أليس بعناية في أعماقها.
لو كانت أليس مثل بريد، لانفجرت غضبًا بلا تروٍّ. ولو لم تكن تملك الحس الكافي لفهم ما جرى، لما أدركت ما فعلته إيكي أصلًا. ولو لم تكن جادة في تعلّم المبارزة، لكانت انشغلت الآن بانزعاجها مما جرى أكثر من اهتمامها به.
ولو لم تؤمن بقدرتها على اللحاق بها، لانغمست في اليأس. ولو كانت ضيقة الأفق، لانساقت خلف مشاعر الغيرة والدونية.
لكن أليس لم تكن كذلك. كانت شيئًا آخر. بعينين واسعتين، مرتجفتين، مدت يدها وتناولت سيفها من إيكي وهي تهمهم:
“أر، أرجوكِ… مرة أخرى… دعينا نعيدها.”
لم تجب إيكي، بل رفعت سيفها وهاجمت من جديد. بنفس الطريقة التي استخدمتها أليس، لكن مع كل تكرار، كان أسلوبها يصير أكثر اكتمالًا، أنقى، وأدق.
رغم أن الحركات كانت تتكرر بنفس الترتيب، إلا أن كل مرة كانت أنقى من سابقتها. أما أليس، فكانت تتلقى الهجوم وتحاول صدّه بأساليب مختلفة في كل مرة.
وخلال ذلك، أفلت سيفها من يدها مرات عدة. كانت إيكي تتوقف وتنتظر بصمت، وأليس تلتقط سيفها على عجل ثم تعود إلى وضعها، دون أن يتفوها بكلمة. واستمر التمرين بينهما في صمتٍ مطبق.
ومع بداية غروب الشمس، أنزلت إيكي سيفها أخيرًا.
“أحسنتِ، آنسة وينتربيل.”
كانت أليس تلهث بشدّة، يعلو صدرها ويهبط، وجسدها غارق في العرق. أما إيكي، وإن لم تكن بحالتها، إلا أنها كانت متعرقة كذلك. فقد اختارت ألا تستخدم المانا عمدًا، واكتفت بمبارزة خالصة تعتمد على الجسد والسيف فقط.
أثناء إدخال إيكي سيفها في غمده، الذي كانت قد رمت به سابقًا، وقفت أليس مذهولة، وكأنها لا تزال في حلم. لم تستفق إلا حين بدأت إيكي تبتعد عن ساحة التدريب.
“آنسة رواز!”
“نعم، آنسة وينتربيل؟”
“الآن، أقصد… أنتِ… لقد قمتِ بـ…”
تعثّرت كلمات أليس، ولم تسعفها اللغة. انتظرت إيكي لحظة، ثم قالت ببساطة:
“لقد تبارزنا.”
“ماذا؟”
“كنّا مجرد متدربتين تتبارزان، هذا كل ما في الأمر. أمر معتاد في الأكاديمية، أليس كذلك؟”
غير أن كلماتها الهادئة لم تخدع أليس. تغيّر وجهها، وبدت نظراتها أكثر ثباتًا وعمقًا.
“أنا لست غبية.”
اهتزّ صوتها قليلًا في نهايته، لكن وضوحها لم يتأثر. لو لم تكن إيكينيسيا رواز موجودة، لكانت أليس هي الأولى على دفعتها دون منازع. كانت تتمتع بقدرة إدراك عالية، ولهذا فهمت الأمر بجلاء.
لقد منحتها إيكينيسيا فرصة نادرة ــ هدية لا تُقدر. كرّرت أمامها، مرات عديدة، نفس أسلوبها القتالي، لكن بعد تهذيبه وصقله إلى أقصى درجة. وكأنها أمسكت بيدها، وأرَتها الطريق الذي يجب أن تسلكه بنفسها.
لم يبقَ في داخلها أثر لأي ظلال مربكة. فقد رأت، بأمّ عينيها، الشكل الذي لطالما سعت إليه.
خلال كامل المبارزة، لم تنبس إيكينيسيا ببنت شفة. ومع ذلك، شعرت أليس وكأنها كانت تسمع كلماتها دون انقطاع، لا بأذنيها، بل بجسدها وعينيها.
إن تحركتِ بهذا الشكل، ستصبحين أفضل قليلاً. في هذه الحالة، من الأنسب لكِ أن تتعاملي بهذه الطريقة، وستكون أكثر فائدة أيضاً. إن رفعتِ مرفقكِ هنا، ستتغير القوة المنقولة إلى السيف، فيصبح أشد فتكًا. ولو غيرتِ الزاوية قليلًا في هذا الموقف، فستصبح الضربة أكثر حدة.
سيفكِ قادر على أن يصبح أقوى. انظري، هكذا. لا حاجة للتخبط. فقط افعليها بهذه الطريقة.
كانت أليس تدرك كم أن ما يحدث الآن نعمة لا تُقدر بثمن، ولهذا عجز لسانها عن النطق. كانت تستشعر أن مهاراتها في المبارزة ستتغير كليًّا بعد هذا اليوم. ستصبح أكثر حدّة، وأكثر دقة. شعرت بشيء يفيض من داخلها، فانحبست الكلمات في حلقها وتلعثمت.
“آنسة رواز، أنتِ، لقد…”
قاطعتها إيكي بهدوء:
“أنا لم أفعل شيئًا.”
ثم مسحت العرق الذي انساب من صدغها بظهر يدها، وقالت بحزم وكأنها تُغلق الباب أمام أي نقاش:
“لم أفعل شيئًا. كل ما في الأمر أنني بارزتكِ فحسب.”
“…تقولين إنكِ لم تفعلي شيئًا؟”
“نعم. أعتذر إن أزعجتُ تدريبكِ. أحتاج إلى الاستحمام. سأستخدم الحمام أولاً، آنسة وينتربيل.”
ثم نظرت إلى العرق الذي لطّخ قفازها باشمئزاز، واستدارت مبتعدة دون تردد. ظلت أليس تحدّق بها بذهول وهي تبتعد، ثم اندفعت خلفها بسرعة دون أن تنتبه حتى إلى سترتها المعلّقة على غصن الشجرة.
“آنسة، آنسة رواز… أنتِ حقًا… أقصد… هل كنتِ جادة؟ تلك المبارزة قبل قليل… هل كانت مجرد تدريب فعلاً؟”
“مبارزة هي مبارزة، ما المختلف فيها؟”
“…حتى وإن تغير سيفي كليًا بسببها؟”
“وما علاقتها بي؟ تلك ثمرة مجهودكِ، آنسة وينتربيل.”
“لا… إنما هو بفضلكِ.”
قالت أليس بصدق. كانت نظراتها صادقة ونقية، تنظر إلى إيكي بطريقة تختلف تمامًا عمّا كان من قبل. كان في عينيها بريق غريب.
ما كانت إيكي تطمح إليه هو محو أثر صورة سيفها التي طبعتها في ذهن أليس أثناء النزال السابق، بصورة أشد قوة ووضوحًا. ولهذا استفزتها، وعرضت عليها أكثر صورة مبهرة ممكنة: أسلوب أليس نفسه في المبارزة، مجسَّدًا بأسلوب أكثر إتقانًا.
فمن الطبيعي أن يشعر المرء بالسوء إذا قلّده أحدٌ، وأتقن ما يفعله أفضل منه. كانت تتوقع أن تغضب أليس أو تنزعج، بغض النظر عن مدى فائدة ذلك لها.
“شكرًا لكِ، آنسة رواز.”
لكنها لم تتوقع أن تنظر إليها أليس بذلك البريق، ولا أن تشكرها بهذا الوضوح. فتفاجأت إيكي بشدة، وأشاحت بوجهها عن تلك النظرات وقالت بحدّة:
“هل فعلتُ ما يستحق الشكر؟ كل ما فعلته أنني خضت معكِ مبارزة واحدة.”
راحت أليس تحدق بها بتمعن، ثم ابتسمت برقة.
“فهمت. لنقل إنه كما تقولين.”
حين رأت إيكي تلك الابتسامة، شعرت بالإحراج. وازدادت مضايقتها حين بدأت أليس تمشي إلى جانبها بمسافة قريبة وهي تلاحقها بنظراتها اللامعة. بدأت حرارة تتصاعد في وجهها، فألقت عليها بكلمات لاذعة:
“…أبقي مسافة بيننا، آنسة وينتربيل.”
“نعم؟”
“رائحتكِ مثل العرق.”
“……”
حدقت أليس بها مصدومة، ثم تراجعت خطوتين مبتعدة، وراحت تمشي بجوارها على مسافة، ثم قالت وكأنها تدافع عن نفسها:
“…لكن رائحتكِ أنتِ أيضًا مثل العرق، آنسة رواز.”
“أعرف، ولهذا أنا ذاهبة للاستحمام. وأكرر، سأستخدم الحمام أولاً. قلتُ هذا أولاً، تذكّري.”
“نعم، فهمت. تفضلي باستخدام الحمام أولاً.”
ورغم أن إيكي كانت تتحدث بحدة مقصودة، إلا أن أليس ظلت تبتسم بتلك الطريقة الغريبة. كانت تبدو في غاية السعادة. لا، بل كانت أكثر من سعيدة؛ كانت نظراتها تلمع ولا تفارق إيكي.
وأثناء سيرهما معًا في ممر وسط غابة الصنوبر، تمتمت أليس قائلة:
“لقد كنتُ أسيء الظن بكِ كثيرًا، آنسة رواز.”
“…لا، لا أظن أن ظنونكِ كانت خاطئة.”
“أن أحكم عليكِ من المظاهر فقط… من لا يستحق أن يصبح فارسًا هو أنا.”
“آنسة وينتربيل؟”
“كنت أظنكِ لا تهتمين بالسيف، ولا تفكرين جديًا في طريق الفرسان. أدركت الآن كم كنت متحيزة وأحمل أحكامًا مسبقة. من خلال المبارزة قبل قليل، فهمت. في الحقيقة، أنتِ أكثر من أي شخص آخر، تأخذين السيف على محمل الجد. أنا آسفة لأنني حكمت عليكِ بناءً على مظهركِ الخارجي فقط.”
كان اعتذارها جادًا وصادقًا. ارتجفت إيكي من رأسها إلى أخمص قدميها، وهزت رأسها بعنف وهي تقول:
“لا، آنسة وينتربيل. تلك لم تكن أحكامًا مسبقة. أنا فعلًا لا أحب السيوف.”
“فهمت، سنقول إن هذا أيضًا كما تقولين.”
أجابت أليس وهي لا تزال ترتسم على وجهها ابتسامة هادئة. كانت عيناها الرماديتان تنظران إليها بنقاء واستقامة جعلت إيكي تعجز عن قول أي شيء، فحولت نظرها إلى جهة أخرى. لم تعتد تلقي هذا النوع من اللطف، لذا لم تعرف كيف تتعامل معه.
قبل سن العشرين، لم يكن في حياتها سوى عائلتها ونيكول، إضافة إلى علاقات سطحية مع فتيات النبلاء اللواتي حافظن معها على مسافة مناسبة. أما في ماضيها الذي محته، فلم يكن هناك سوى اللعنات والأحقاد من فترة كونها سيف الشيطان، ثم علاقات جافة خلال سعيها لتجميع الغيوسا.
مشاعر طيبة بهذا الصفاء؟ والأسوأ، أنها نابعة من تصور خاطئ عن كونها شخصًا عظيمًا! لو أنها أبدت انزعاجًا، لكان من الأسهل عليها التعامل مع الموقف. المشكلة الكبرى أنها شعرت بإحراج دافئ وغريب في آنٍ واحد.
لم تعرف إيكي كيف تتصرف، فمشت بسرعة دون أن تلتفت نحو أليس. وما إن وصلت إلى الغرفة، حتى أسرعت بالدخول إلى الحمّام.
أما أليس، فرأت إيكي وهي تفتح الباب أولًا ثم تمسكه قليلًا لتتمكن أليس من الدخول خلفها. كادت أليس تنفجر ضاحكة، لكنها تماسكت حتى دخلت إيكي إلى الحمام.
***
في صباح اليوم التالي، شعرت إيكي فور استيقاظها بثقل في جسدها.
[قلت لك، لماذا لم تستخدمي المانا؟]
كانت أليس قد غادرت منذ الفجر لتستوعب ما تعلمته بالأمس من خلال التمرين الجسدي. أما إيكي، فقد بقيت غارقة في سريرها، رفعت يدها وأزاحت القفاز الأبيض عنها، لتجد بثورًا على يدها الناعمة. تنهدت بعمق.
“أليس وينتربيل كانت جادة أكثر مما توقعت.”
[يبدو أنك نسيتِ أنك لستِ في جسدكِ القديم.]
“اصمت. لو استخدمت المانا، لكان الوضع ذاته.”
[لكنكِ لم تستخدميها بالأمس.]
“انسقت خلف الأجواء، هذا كل ما في الأمر.”
بالفعل، حالتها الجسدية كانت سيئة. رغم براعتها وخبرتها، التي مكنتها من الصمود أكثر من قدرتها البدنية، فإن جسدها الحالي لم يكن قد مرّ عليه شهران في التمرّن على السيف؛ لا يزال جسد آنسة نبيلة مبتدئة.
دون دعم من المانا، لا يهم كم كانت حركاتها فعالة، فهناك حد طبيعي لما يمكن لجسدها تحمّله. خلال القتال، لا يبدو عليها شيء بسبب اندفاع الحرارة والأدرينالين، لكن في اليوم التالي، تظهر الآثار بهذا الشكل.
كل عضلات جسدها كانت تصرخ بالألم. وضعت يدها على جبينها، فشعرت بحرارة خفيفة.
ارتدت إيكي قفازها مجددًا ونهضت متألمة تئنّ.
“آهخ… آه… يا إلهي.”
[حمقاء.]
“أيها السيف الملعون، ألا تستطيع أن تصمت؟”
تذمرت وهي تنهض من السرير، ثم وقع بصرها على الصينية الموضوعة فوق الطاولة.
كانت غرفة السكن تحتوي على سريرين، مكتبين، خزانتي ملابس وأدراج على الجانبين، وفي المنتصف طاولة وكراسي، رفوف للكتب، أريكة وسجادة. ويمكن سحب الستائر للفصل بين الجانبين، مما يوفر قدرًا جيدًا من الخصوصية.
وحين دفعت الستار لتتجه نحو الحمام، وقعت عيناها على الصينية فوق الطاولة. احتوت الصينية على صحن حساء مغطى، قطع من الخبز، سلطة، وكأس شراب، كلها موضوعة بعناية. لم يكن هناك شك أنها وجبة الإفطار جُلبت من قاعة الطعام العامة.
التعليقات لهذا الفصل " 23"