ابتسمت فاتلينا وعيونها تضيء ببريق مرح، حتى بدت عيناها الكبيرتان ضيّقتين بحيث كاد بياضهما يختفي. كان في ملامحها شيء يُشبه الجراء، جميلٌ وبريء. و إيكي كانت تحب كل ما هو جميل.
ومن بين الأسباب التي جعلتها لا تنزعج من إلحاح فاتلينا المستمر في دعوتها للانضمام إلى ناديها، كان مظهرها هذا أحدها. لكن السبب الأهم، دون شك، هو أن فاتلينا لم تتأثر يومًا بالشائعات، بل ظلت تنظر إلى إيكينيسيا كما هي، بلا أحكام مسبقة.
قالت فاتلينا بفخر:
“أنا أول من أسّس نادي ويزدوم! وحدسي يقول لي إنكِ موهبة نادرة حقًا، من النوع الذي سيصنع المجد. لذلك عليّ أن أُحكم سيطرتي عليكِ قبل أن تنتبه لكِ باقي الأندية!”
ردّت إيكي بهدوء:
“لكنني لا أفهم… ما الذي ترينه فيّ لتقولين ذلك؟”
“أراقب الوافدين الجدد بعين صقر، وأتابع تقريبًا كل تدريباتهم ومبارياتهم! لديّ قائمة بالمواهب المحتملة. وطبعًا، أنتِ يا إيكينيسيا رواز، على رأس تلك القائمة!”
سألت إيكي مبتسمة بسخرية خفيفة:
“ومن أيضًا على قائمتكِ؟”
أشرق وجه فاتلينا بالحماس، وبدأت تعدّ بأصابعها:
“هناك ثلاثة أراقبهم عن كثب، وأنتِ واحدة منهم. أراهن أن هذا الثلاثي سيكون أول، وثاني، وثالث ترتيب في تصفيات السنة الأولى. وعندها ستعترفين بمدى دقّة بصيرتي! أولًا: ميخائيل، المتدرب الذي يصادف أنه شقيق تيريزا فون فران آلماري، مالكة غيوسا أونر.”
استطاعت إيكي بالكاد أن تحافظ على هدوئها. شقيق تيريزا؟ كانت تعرفه. بل تتذكّره جيدًا، لأنه في زمنها السابق — قبل أن تعود بالزمن — كانت قد قتلته بيدها في أزينكا.
لا تزال صورة الفارسة الشقراء، وهي تحتضن جثة فتى يشبهها بشدة وتصرخ باكية، عالقة في ذهنها.
غير أن فاتلينا، التي لم تلحظ اضطراب إيكي العابر، تابعت الحديث وهي تبتسم: —
“والثانية: زميلتكِ في الغرفة، أليس وينتربيل! إنها مدهشة بحق. موهبة حقيقية، رغم أنها تبدو في فترة ركود مؤخرًا.”
“…ركود؟ وينتربيل؟”
ضحكت فاتلينا:
“تلفتانني كيف تنادين بعضكما بأسماء رسمية رغم أنكما تتشاركان الغرفة. هل علاقتكما سيئة؟ صحيح، لقد تبارزتما في أول يوم، أليس كذلك؟”
أمالت رأسها بتفكير بينما واصلت السير مع إيكي، حتى ظهرت مباني سكن الطالبات في الأفق. أشارت فاتلينا إلى غابة أشجار الأرز خلف المبنى.
“تعرفين أن ساحة التدريب رقم 9 تقع داخل تلك الغابة، اليس كذلك؟ أليس عادة ما تتدرّب هناك. لو ذهبتِ وألقيتِ نظرة، ستفهمين. بل أظن أنكِ ينبغي أن تذهبي.”
رفعت إيكي حاجبًا باستغراب:
“أن أذهب؟ ولماذا تعتقدين ذلك؟”
قالت فاتلينا بنبرة ذات مغزى:
“في رأيي، سبب ركود أليس وينتربيل هو أنتِ، على الأرجح.”
فغرت إيكي فمها وحرّكت جفنيها بارتباك، مذهولة من المفاجأة. لكن فاتلينا ضحكت، ثم دفعتها بلطف على ظهرها.
“ينبغي لغريمتين في غرفة واحدة أن تصبحا صديقتين، أليس كذلك؟ أنا متأكدة أنكما ستنسجمان جيدًا!”
انسجام؟ لا يبدو ذلك واردًا إطلاقًا.
وقبل أن تعترض إيكي، كانت فاتلينا قد لوّحت لها بيدها وانطلقت راكضة مبتعدة، ضفيرة شعرها تتمايل خلفها.
“بما أنني أعطيتكِ هذه النصيحة، فحين تتصالحان، عليكما أن تنضما معًا إلى ويزدوم! لا تخذليني، أنا أنتظر!”
وقفت إيكي تنظر بدهشة إلى الضفيرة المتراقصة التي ابتعدت، ثم وجهت نظرها نحو الغابة الواقعة خلف سكن الطالبات.
كان هناك شعور دائم بالذنب يرافقها تجاه أليس وينتربيل. كانت قد آذتها عن عمد في البداية، لأجل راحتها الشخصية، وافتعلت شجارًا معها، ثم خاضت معها نزالًا دون جدية، وأظهرت لها أسوأ ما فيها. لم تصدق تمامًا ما قالته عن كونها سبب ركودها، لكن…
[هل ستذهبين؟]
“في الوقت الحالي، نعم.”
وضعت قدمها على الممر الذي يؤدي إلى عمق الغابة. لم يكن لديها ما يشغل وقتها في تلك اللحظة. باراها لم يكن موجودًا لتتابع تدريبات الاسكواير، وقضية يورين لا يمكن أن تُحسم قبل مهمة القضاء على الوحوش.
أرسلت إيكينيسيا برقية إلى نيكول تطلب منها تزويدها بتفاصيل التحقيق الجاري بشأن مصدر السيف الملعون. وحتى وصول الرد، لم يكن لديها ما يمكن فعله بهذا الشأن.
أما التدرب استعدادًا لتصفيات الترتيب، فكان أمرًا عديم الجدوى بالنظر إلى مستواها الحالي.
أشعة الشمس تسللت بين أغصان أشجار الأرز الشاهقة التي تمتد نحو السماء، فتلألأت خيوطها الذهبية في عمق الغابة التي سادها هدوء مطبق. وكلما توغّلت أكثر، تسرب عبق الغابة الرطب إلى جسدها كأنّه يغلفها. وكانت ساحة التدريب التاسعة تقع على هامش الطريق الترابي الذي يشق الغابة، تبدو كأنها مجرد فسحة خالية في وسط الطبيعة، لا تختلف عن محيطها إلا بكونها خالية من الأشجار.
في الأكاديمية العسكرية، هناك العديد من ساحات التدريب، ولهذا فإن هذه الساحة المنعزلة، التي لا تضمّ أي تجهيزات تذكر، نادرًا ما يزورها المتدربون. ولم يكن هناك أثر لأي شخص، سوى شخصٍ واحد.
كانت أرضية ساحة التدريب مكسوة بمزيج من الأعشاب والعشب البري، على خلاف معظم الساحات الأخرى. وفي وسط هذه الرقعة العشبية، كانت تقف فتاة ترتدي قميصًا أبيض مبلل بالعرق، تتدرّب بالسيف وحدها. وعلى أحد أغصان الشجر القريبة، كانت سترتها الكحلية — وهي سترة الزي الموحد للطلبة — معلّقة بإهمال، تتمايل بخفة مع النسيم.
كان التلصص على تدريب الآخرين أمرًا غير لائق. ولهذا، تعمّدت إيكي ألا تخفي خطواتها ولا وجودها بينما كانت تقترب من الساحة. غير أن أليس وينتربيل، التي كانت غارقة تمامًا في تركيزها مع سيفها، لم تلحظ اقترابها.
وقفت إيكينيسيا على أطراف الساحة، تراقب تحرّكات أليس. كانت أليس تتدرب على مبارزة خصمٍ وهمي، والسيف يلمع في يدها مع كل ضربة تحت أشعة الشمس التي انسدلت من بين أغصان الأرز، وتبعثر العرق المتطاير مع حركة السيف في الهواء.
كانت إيكينيسيا تمتلك عبقرية قتالية تكاد تكون غير عادلة. موهبتها الفطرية بلغت من العظمة ما يجعل المراقب يتساءل إن كانت كل تلك المآسي التي لحقت بها، ما هي إلا ضريبة تلك العبقرية.
رغم أنها لم تتلقّ تدريبًا رسميًّا قط، فقد بلغت مستوى يتجاوز حتى مرتبة الماستر. والفضل في ذلك يعود جزئيًا إلى كثافة تجاربها القتالية الفعلية، وإلى إدراكها الغريزي لطريقة عمل السيوف المسحورة، التي تتحرك دائمًا بأكثر الطرق كفاءة في القتل — وهو جوهر فن المبارزة في النهاية: أن تقتل خصمك بأقصى سرعة وبأقل جهد.
ولهذا، فقد أدركت إيكي من النظرة الأولى أين يكمن الخلل في أداء أليس، وما سببه، وكيف يمكن تجاوزه.
كانت عينا أليس، الرماديتان عادةً، قد فقدتا ما كان يميّزهما من رصانة وثقة، وأصبحتا شاردتين. أما سيفها، فقد ضلّ طريقه. وكل ذلك، كما قالت فاتلينا، كان بسبب إيكينيسيا.
‘كانت نتيجة مبارزتنا، إذن…’
لقد خاضت معها نزالًا واحدًا فقط، لكنّها تذكّرت جيدًا كيف كانت ضربات أليس حينها دقيقة، سريعة، وأنيقة بشكل لافت. سيفٌ ذو أسلوب مصقول، مشذّب بدقة.
أما الآن، فقد ضاعت تلك الدقة. كانت أليس تضرب بعشوائية، تفقد توازنها في كل حركة، وكأن أسلوبًا خشنًا وغريبًا على طبيعتها قد تسلّل إلى طريقتها في القتال. وهذا الخلل شوّه ميزتها الأساسية.
يبدو أن أليس قد تأثرت بسيف إيكي خلال المبارزة: سيفٌ بدائي، لا يحمل أي طابع شخصي، يعتمد على ردود فعل غريزية بحتة. أن تتلقى أليس هزيمة قاسية من متدربة غريبة الأطوار مثل إيكي، وفي يومها الأول في الأكاديمية، لا بد أنه ترك أثرًا صادمًا في نفسها.
وكان الحل بسيطًا من الناحية النظرية: عليها أن تمحو هذا الأثر وتعود إلى أسلوبها الأصلي. غير أن الأمور لا تُمحى هكذا بسهولة. فلو كانت كذلك، لما تركت أثرًا في المقام الأول. وستستغرق أليس وقتًا طويلًا للخروج من هذا المأزق وحدها.
ترددت إيكي طويلًا. لم يكن من اللائق التدخل في تدريب الآخرين، لا سيّما وهي ليست من الكبار أو الماسترز، بل ليست حتى صديقة لها. على العكس، علاقتهما كانت متوترة.
ولأنها لم تتلقّ يومًا تدريبًا نظاميًّا، فإنها لم تُجرّب قط أن تُعلّم أحدًا. وأليس لم تطلب مساعدتها أصلًا. ولو حاولت مساعدتها، فقد ترى أليس في ذلك إهانة، أو تستشيط غضبًا.
بكل المقاييس، كان الأفضل تجاهل الأمر والعودة أدراجها. ومع ذلك، تنهدت إيكينيسيا بخفة، ثم أخرجت سيفها الطويل الرخيص من غمده.
رمت الغمد كيفما اتفق على الأرض، ثم خطت مباشرة داخل نطاق ضربات أليس. ولما هاج السيف نحو خاصرتها، صدّت الضربة بسهولة.
رنّ صوت ارتطام السيفين في الهواء:
فجأة، أدركت أليس وجود إيكي، فتفاجأت بشدّة وتراجعت خطوة إلى الخلف، تنفّست بعمق لتستعيد أنفاسها. كانت على ما يبدو في تركيز تام، حتى إنها لم تنتبه لوجود أحد قربها.
أما إيكي، فوقفت ساكنة، تمسك بسيفها المتدلّي دون أن تنبس بكلمة.
قالت أليس ببرود، بعد أن التقطت أنفاسها:
“…ما هذا التصرف يا آنسة رواز؟”
أجابت إيكي بابتسامة هادئة.
“تبارزيني مرة واحدة، آنسة وينتربيل.”
“هذه أوقح دعوة تلقيتها لمبارزة على الإطلاق. أنتِ حقًا…”
تقلصت ملامح وجه أليس باستياء. لكنها لم تكن تعلم أن ما ينتظرها الآن سيكون أكثر وقاحةً من ذلك. أما إيكينيسيا، التي كانت على وشك ارتكاب ما هو أفدح، فلم تكترث لتعليقها. ما كانت تنوي فعله قد يُعد، في نظر الفرسان، بمثابة حظ نادر أشبه بالمعجزة، لكنها لم تكن تسعى إلى شكر أو مكافأة.
‘يكفيني ألّا أتلقى الشتائم لقاء هذا… ومع ذلك، فهذا أسرع وأضمن سبيل لمسح أثر ظلي من ذاكرتها.’
رفعت إيكي سيفها وأشارت به مباشرة، ثم ابتسمت بسخرية ورفعت زاوية شفتيها:
“أم تخشين الخسارة أمامي؟”
توهّجت عينا أليس بغضب، وارتعشت نهايتا حاجبيها. قبضت على مقبض سيفها بقوة، ثم ردّت بأسنان مشدودة:
“أتظنين أن من يسعى لأن يصبح فارسًا قد يخاف الهزيمة؟ ليس هذا هو لب المشكلة!”
“إذا لم يكن كذلك، فلِمَ لا نتبارز فحسب؟ هيا، بارزيني، آنسة وينتربيل.”
“أنا أتحدث عن طريقتكِ الوقحة! تتدخلين في تدريب شخص منشغل وحده وتصدين سيفه ثم تطلبين مبارزة؟!”
“آه، أعتذر. كنتِ في غاية التركيز، فلم أجد لحظة مناسبة لأناديكِ.”
“اقتحام تدريب أحدهم أكثر وقاحة من مناداته!”
“لم أكن أعلم ذلك.”
رمشت إيكي ببراءة مصطنعة وهي ترد، رغم أنها كانت تعلم تمامًا ما تفعل. كانت قد تعمّدت التدخل لتستفزها. لو طلبت المبارزة بأدب، لما أثارت في أليس أي انفعال. وكما توقّعت، انفجرت أليس غضبًا.
“هل تفكرين جديًا بأن تصبحي فارسة؟! من يحمل السيف دون أن يلتزم بالأدب أو القانون لا يختلف عن أراذل الأزقة الخلفية!”
“سأحرص على ذلك مستقبلاً. لكن، على كل حال، هل ستتبارزين أم لا؟”
قالت ذلك وهي تدور بسيفها الطويل، الذي غرزته في الأرض، كأنها تعبث بلعبة. لم تكن تظهر أدنى احترام للسلاح الذي تحمله. اشتعل وجه أليس غضبًا، فعدّلت قبضتها على سيفها وقالت:
“ارفعي سيفكِ.”
“شكرًا. لنتجاوز التحيات المملة، إذن. لنبدأ.”
وبطريقة تعسفية، قررت إيكي بدء القتال، ثم هجمت بسيفها مباشرة قبل أن تمنح أليس فرصة لتعديل وضعيتها. تلقّت أليس الضربة وهي في وضعٍ غير متزن، وصدّتها بصعوبة.
ومن تلك اللحظة، بدأت إيكينيسيا تكشف عن جانبٍ مغاير تمامًا لما كانت عليه أثناء مبارزتهما السابقة. انهالت عليها الهجمات بلا توقف — سريعة، دقيقة، خالية من الحشو أو التردّد.
كانت أطراف ثوبها تصل إلى أسفل ساقيها، تتشبّث بها تارة وتتحرر تارة أخرى مع كل حركة. آثار خطواتها على الأرض، وهي تنتعل حذاء نسائيًّا رقيقًا، بدت كأنها إيقاع منتظم يتكرر بثبات.
راحت أليس تصد الضربات بصعوبة، ثم بدأت تلتقط إيقاع القتال تدريجيًا. خطوط اندفاع السيف، حركات الذراع، توجيه النظر، أساليب الدفاع، الخطوات، تحويل مركز الثقل…
“مستحيل…”
شعرت وكأنها تواجه شخصًا مختلفًا تمامًا عن ذلك الذي واجهته في المرة السابقة. أسلوبها الآن كان أنيقًا، مصقولًا، بالغ التنظيم. بدا مألوفًا بدرجة لا تُصدّق. لقد كانت إيكينيسيا تؤدي نفس أسلوب أليس في القتال… تمامًا كما تفعل هي.
“لا… بل إنه حتى أكثر من ذلك!”
لم يكن مجرد تقليد. لقد شعرت بهذا الإحساس من قبل — عندما كانت تتدرب قبل التحاقها بالأكاديمية، أثناء مبارزتها مع الفارس الذي درّبها على المبارزة. كانت تشعر حينها أن ذلك الفارس يؤدي نفس أسلوبها، لكن بإتقانٍ أرفع وأكمل.
التعليقات لهذا الفصل " 22"