قال:
“باراها”
فأجاب على الفور:
“السيد أر سيباتيم. نعم، سيدي القائد”
قال القائد:
“البارون يبحث عنك. توجه إليه.”
“أمرٌ مفهوم. إيكي، أكملي تمشيط اللِبدة ثم عودي. سنتابع باقي التدريب لاحقًا. أوه، سيدي القائد، هل جئت لاستخدام سيلفيد؟”
منذ أن بدأ باراها تدريب إيكي، أصبح يناديها بلقبها المحبب بطلبٍ منها. وبينما كان يتحدث إليها، رفع رأسه ليسأل يورين إن كان سيستخدم الحصان، إذ لم يكن من المنطقي أن يأتي القائد شخصيًا إلى الإسطبل فقط لينقل رسالة إلى متدرب.
أجاب يورين بهدوء:
‘أجل. هل كنت تدرّبها كمُتدربة المساعدة؟”
تركّز نظره بين باراها وإيكي الواقفين قرب بعضهما، فشعر باراها بغريزته تدفعه خطوة إلى الوراء. ثم ما لبث أن تساءل مع نفسه باستغراب:
:لِمَ تراجعت؟’
قال بعدها بتأنٍ:
“نعم، صحيح. كنا فقط نمشّط اللِبدة، فلا بأس إن توقّفنا الآن. إيكي، أنهي ما تبقى وعودي.”
“…نعم، سيدي.”
أجابت إيكي تلقائيًا، لكنها كانت شبه شاردة منذ لحظة ظهور يورين المفاجئ، وكأن عقلها خرج من رأسها. لاحظ باراها توترها وهمّ بأن يقول شيئًا، لكن يورين سبقه بالكلام:
“باراها، ألم أقل لك أن تذهب إلى البارون؟”
“آه… نعم، شكرًا لك.”
انحنى باراها بأدب ثم غادر الإسطبل.
بقيت إيكي وحدها، تحاول الانتهاء بسرعة من تنظيف الأدوات لتغادر هي الأخرى. كانت في عجلة من أمرها حتى إن يديها ارتبكتا، فسقطت الفرشاة من يدها وتدحرجت خارج الصندوق.
انحنى يورين والتقطها، وقدّمها لها. نظرت إليه إيكي بشرود، وعيناها الزرقاوان تلاقتا بنظراته التي كانت تشبه التحديق الهادئ في أعماقها. سألها بصوت خافت:
“هل أزعجكِ وجودي؟”
“عفواً؟”
“إن كان طلبي للمبارزة قد أثقلكِ، فيمكنكِ نسيانه.”
شعرت وكأنها حمقاء. بعد كل تلك الأفكار والتحليلات بشأن تصرفاته ونواياه، وجدت نفسها عاجزة عن استحضار أي شيء أمامه مباشرة.
كلمة المبارزة أعادت لها بعض التركيز، فتذكّرت كل ما فكّرت به سابقًا عن نواياه. بالكاد حرّكت يدها لتأخذ الفرشاة منه وقالت:
“لا، سيدي القائد.”
“لا؟ أيّ جزء تقصدين؟”
“لم يكن طلب المبارزة مثقِلاً بقدر ما كان فوق توقعاتي. سأُخبرك عندما أكون مستعدة نفسيًا. وأيضًا… شكرًا على المعطف في المرة السابقة. سأُعيده قريبًا.”
قالت ذلك بسرعة وهي تضع الفرشاة في الصندوق، وهمّت أن تستدير وتغادر. لكن يورين أوقفها بكلماته:
“إذًا، وجودي يزعجكِ فعلاً.”
“……”
لم ترغب أن تكذب عليه، لذا لم ترد.
نعم، بالطبع كانت تشعر بالانزعاج من وجوده. فحين يكون أمامها، تتركز كل حواسها عليه، وتمتلئ أفكارها بالأسئلة والشكوك:
‘هل يكرهني؟ هل يتذكّرني؟ هل يراقبني الآن؟ هل يختبر إن كنت أنا الشيطان المرتبط بالسيف الملعون؟’
والآن، أضيف إليها شك جديد: ‘هل يكون أصل السيف الملعون من العائلة الإمبراطورية التي ينتمي إليها؟’
أسئلة بلا إجابة، توتر دائم، لكن رغم ذلك، كانت تشعر بسعادة خفية كلما رأته حيًّا. فرح، وذنب، وشظايا من مشاعر قديمة لم تندمل بعد.
شعرت بنظراته على ظهرها وهي تدير ظهرها له. لم تكن نظرات حادة، لكن كان لها أثرها. ثم سمعت صوت تهيئة السرج وسحب اللِجام، كان يورين يستعد لركوب سيلفيد.
قال لها بنبرة خفيفة، وكأنه لا يريد أن يُثقل عليها:
“قريبًا ستكونين مساعدتي. لذلك، أتمنى ألا تشعري بالضيق مني.”
استنشقت إيكي نفسًا عميقًا، ثم استدارت. كان يورين يقترب منها ممسكًا بلِجام الحصان الأبيض، الذي ينسجم لونه الذهبي اللامع مع شعره الفضي.
قالت بصوت متردد:
“هل لي أن أسأل شيئًا واحدًا فقط، سيدي القائد؟”
لم يرد بكلمة، لكن عيناه الزرقاوان ثبتتا عليها إشارة للاستماع.
ابتلعت ريقها، وأعادت صياغة السؤال في ذهنها. كانت قد عزمت منذ مدة على سؤاله في لقائهما التالي، لأنها لم تتمكن من معرفة الإجابة حتى داخل ذاكرتها.
وأخيرًا نطقت، بصعوبة:
“في حفل ميلاد العام الماضي، قلت إنك رأيتني. لكنني لم أتحدث إليك قط. فكيف عرفت من أكون؟ هل… فعلتُ شيئًا مسيئًا لك دون قصد؟”
توقّف يورين على بعد خطوة منها. سيلفيد حرّك حافره بإيقاع خفيف. نظرته، كعادتها، بدت وكأنها تخترق أعماق روحها. حاولت إيكي أن تمسك بيدها اليمنى لتوقف ارتجافها، ثم أجابها بهدوء:
“لم يحدث شيء من ذلك. كل ما في الأمر… أنكِ لفتِ انتباهي.”
“لفتُ انتباهك؟ هل بسبب شعري؟”
كان شعرها الوردي نادرًا أكثر من الشعر الفضي. ورثته عن عائلة والدتها، رغم أنه نادر الظهور حتى بينهم. لذا كان من السهل أن يتذكرها الناس بـ”النبيلة ذات الشعر الوردي”. على العكس، عائلة رواز – عائلة والدها – كانت باهتة الحضور، ولم تترك أي انطباع يُذكر. لذا ظنّت أن شعرها هو السبب.
لكن يورين هز رأسه نفيًا.
“…لا، كان اهتمامًا شخصيًا.”
كانت تلك إجابة لم تتوقعها أبدًا. رمشت بدهشة وسألت مجددًا:
“اهتمام شخصي؟ ماذا تقصد بذلك…؟”
ابتسم يورين. كانت عيناه تنثنيان بلطف حين يبتسم، مما أضفى على ملامحه جمالًا خاصًا شدّ انتباه إيكي رغماً عنها. وبينما كانت مسحورة بتلك الابتسامة، اقترب منها خطوة واحدة. ارتجف جسدها لا إراديًا حين لاحظت يده تمتد نحوها.
لامس شعرها المنسدل أسفل كتفيها، وتوغّلت أصابعه قليلًا بين خصلاته الوردية المتموّجة، كما لو كان يمشّطه بلطف. ثم سرعان ما سحب يده، وإذا بها تمسك بقشة عالقة في شعرها. نفضها وأسقطها على الأرض وهو يقول بهدوء:
“سأجيب على ذلك السؤال… بعد المبارزة.”
قالت باعتراض خافت:
“لكنك قلت إن بإمكاني نسيان طلب المبارزة إن كنت أشعر بثقلها…”
نطقت بها دون أن تشعر، بنبرة فيها بعض الامتعاض. هذه المرّة، ضحك يورين بصوت مسموع. غطّى فمه بيده، وضحك بخفة، ضحكة قصيرة سرقت عقلها من جديد.
‘كيف لرجل أن يبتسم هكذا؟! ملامحه مهيبة وجادة، لكن ضحكته… كأنها من عالم آخر.’
قال بصوت هادئ بعد أن تمالك نفسه:
“إن كنتِ ترفضين، فلن أُجبركِ… لكن طلبي هذا نابع من رغبةٍ صادقة في مبارزتكِ.”
ثم تحرّك مبتعدًا، وكأنه لا يريد سماع ردٍ منها بعد الآن. خرج من الإسطبل مع سيلفيد، يجرّ اللجام بهدوء.
لم تستطع إيكي أن تستوقفه. شعرت بصداع في رأسها، وكأنها خرجت لتوها من دوّامة مشاعر متناقضة، بين توتر ودهشة، وخفة خادعة.
[هل يبدو لكِ كمن يتذكركِ؟ لماذا هو مُصر على هذه المبارزة؟ هل تحقّق من هويتكِ كما ظننتِ؟]
كان فالدرغيوسا، سيف الشيطان، هو من خاطبها مجددًا داخل عقلها. وضعت ظاهر يدها على خدّها المحترق خجلًا، وردّت عليه وهي تحاول كبح اضطرابها:
‘توقف عن مناداته بـ”ذاك الوغد”، يا فالدرغيوسا.’
[سأناديه بما يحلو لي! آه، إنني أختنق! ألا تستطيعين جعلي أتصادم مع لانغيوسا لمرة واحدة فقط؟ حينها أستطيع التحدّث إليه وأتأكد إن كان واعيًا أم لا!]
‘هل جننت؟ أتُراني سأطلق سراحك؟’
[حسنًا، إذًا اسأليه مباشرة! قولي له: “هل تذكُر أنك قُتلتَ على يدي؟” إن لم يفهم، قولي إنها مزحة. وإن قال نعم، فحينها نبدأ المبارزة!]
‘اصمت. كلماتك فقط تزيدني توترًا.’
نظرت إلى راحة يدها اليمنى بازدراء. ثم واصلت طريقها إلى خارج الإسطبل، بينما تابع فالدرغيوسا تذمّره:
[فماذا ستفعلين؟ تبقين في هذا الضياع؟ تكتفين بالمراقبة من بعيد؟]
‘قريبًا سيكون موعد القضاء على الوحوش. حينها سأراقب كيف سيتصرّف مع باراها. من خلال ذلك… قد أستطيع التأكد. الآن فقط… لا أعلم. لو لم يذكر قصة الحفلة، لكان من السهل التنبؤ بما في رأسه. لكن… ما الذي رآه فيّ في تلك الليلة بالضبط؟’
[قال إنه مهتمّ بكِ “شخصيًا”، ماذا يعني ذلك؟ في العادة، متى يستخدم البشر هذا النوع من التعبير؟]
‘ذاك…’
توقّفت إيكي فجأة عن الكلام. متى يُقال هذا النوع من الكلام؟
ظهر في ذهنها احتمالٌ واحد، لكن مجرّد التفكير بأن يورين قد يكنّ لها مشاعر رقيقة، كان مستحيلاً بالنسبة لها. بل بالأحرى… يجب ألا تفكّر فيه بهذه الطريقة.
عادت بذاكرتها إلى آخر لحظاته… حين غمره الدم، وعيناه مفتوحتان دون حراك. صورة واحدة كفيلة بأن تمزّق كل ارتباك داخلها. ابتسمت ابتسامة مرّة.
[لِمَ توقفتِ عن الكلام؟]
‘هناك من يقترب.’
لم تكن كلماتها تلك مجرد تبرير أو مراوغة. فقد كانت إيكي بالفعل ترى شخصًا يقترب منها بينما كانت تتجه نحو سكن الطالبات.
قالت لها فتاة سمراء البشرة بابتسامة مشرقة:
‘فستانكِ جميل اليوم أيضًا، أيتها المتدربة إيكينيسيا! اللون الأخضر يليق بكِ كثيرًا!’
كانت تلك الفتاة أقصر من إيكي بشبر تقريبًا، بشعر أسود طويل مضفورٍ إلى خصلة واحدة. وبسبب بنيتها الصغيرة التي تميّز أبناء الرحّل من الغرب، كانت تبدو كفتاة يافعة. لكن في الحقيقة، كانت تكبر إيكي بسنتين، وتدرس في السنة الثانية، وهي أيضًا رئيسة نادي ويزدوم.
وفوق ذلك، كانت من القلائل الذين لم يبالوا بالشائعات التي تدور حول إيكينيسيا. بل إنها كانت تُبدي إعجابها حتى بملابسها الفاخرة، وتراها جميلة. من هذه الناحية، كانت بالفعل أكثر غرابة من باراها.
قالت إيكي بابتسامة خفيفة وهي تواصل سيرها:
“مرحبًا، فاتلينا.”
لحقت بها فاتلينا بخطوات متسارعة، وشعرها المضفور يتمايل خلفها كما لو كان ذيل جرو صغير. رفعت عينيها السوداوين اللامعتين، اللتين تشبهان حبّات العنب الأسود، وحدّقت بها.
“أيتها المتدربة إيكينيسيا، بما أنني أثنيت عليكِ، تعالي إلى نادينا.”
“لقد أخبرتكِ مسبقًا، أنني لن أنضم لأي نادٍ.”
“لكن نادينا ليس مثل “أي نادٍ”! إنه نادٍ رائع! حتى اسمه أنيق: “ويزدوم” — ألا تشعرين فور سماعه بهيبة المثقفين الذين يقودون مملكة أجنكا؟”
تنهدت إيكي وقالت:
“…لكننا في أكاديمية عسكرية. ما فائدة صفة المثقفين هنا؟”
“تخلّي عن هذه الأفكار القديمة بأن الفارس لا يحتاج إلا إلى قوته البدنية! لنعمل على أن نكون فرسانًا حكماء! لهذا السبب… تعالي إلى ويزدوم!”
“قلت لكِ إنني حقًا لا أنوي الانضمام إلى أي نادٍ. ألا ترين أنه من الأفضل أن تتخلي عن الأمر؟”
“كلا، لن أستسلم! لن أستسلم حتى تنضمي إلى ويزدوم!”
“لماذا كل هذا
الإصرار على ضمي؟ لا أحد من الأندية الأخرى يطاردني هكذا.”
“لأنهم حمقى! وهذا رائع! فبفضل حماقتهم، يمكن لي، أنا الحكيمة، أن أستأثر بهذا الكنز القيّم وحدي!”
“أنا كنزٌ قيم؟”
“بالطبع! ألستِ كذلك؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 21"