حين سُئل عن مصير أفراد الغيوسا الذين كانوا في آجينكا بعد أن أُبيدت بالكامل، لم يُقدم تاجرُ المعلومات سوى كمًّا من التفاصيل عديمة الجدوى، ثم أتبعها بكلام فارغ لا طائل منه:
⟨يورين؟ أسوأ قائد في التاريخ. تعاطفه مع ذلك الشيطان اللعين هو ما دمّر الفيلق بأسره! كانوا يمدحونه باعتباره أصغر من نال لقب ماستر، وأصغر من أصبح قائدًا… فارتفع أنفه وتعامل وكأن العالم ملك يديه، والنتيجة؟ مات الجميع! ابن كلب، ابن كلب! كان يجب أن يُمزّق إربًا منذ البداية.⟩
رغم فجاجة كلماته، فإن ما قاله لم يكن خطأ. فقد ارتبط اسم يورين في كتب التاريخ بلقب أسوأ قائد، وبأنه الرجل الذي جرّ الدمار على فيلق الفرسان السماوين.
ومع ذلك، لم تستطع إيكينيسيا إلا أن تغلي من الغضب حين سمعت تلك الإهانات. أرادت أن تقتل ذلك العجوز الذي تجرأ على وصف يورين بابن الكلب، حتى احترق عقلها بالغضب لدرجة العمى.
وبمجرّد أن رمشت بعينيها، كانت نصلُ “السيف الملعون” قد خرج من يدها بالفعل، فقطع رأس تاجر المعلومات. وانطلقت موجة من المانا السوداء كالأفعى من نصل السيف، تنهش جسده بلا رحمة. حدّقت في الدماء التي غطّت المكان وقد صُدمت بما فعلت، ثم ما إن سمعت وقع أقدام حرّاس التاجر حتى لاذت بالفرار.
فيما بعد، عرفت من فالدرغيوسا عن القوى التي يحتويها ذلك السيف. ورغم علمها، عادت وارتكبت أخطاء مماثلة أكثر من مرة. ومع كل مرة، تعلمت أن تُقوّي من ضبط نفسها. صار من الواجب عليها أن تُبقي جزءًا من عقلها باردًا مهما اشتعلت بنار الغضب.
تمتمت بمرارة:
“لأني لا أريد أن أُدنَّس مرة أخرى.”
ولم تكن مجهوداتها عبثًا؛ فمع اقترابها من تجميع كل الغيوسا، لم تعد ترتكب مثل تلك الأخطاء. صارت قادرة على السيطرة عليه سيطرة شبه كاملة. ورغم ذلك، كانت لا تزال تتوق للتخلّص من هذا السيف الملعون.
[هه، إن تمكنتِ من ذلك طيلة حياتكِ، فأنتِ حاكمة. أي إنسان يقدر على الحفاظ على رباطة جأشه دائمًا؟]
“سأتخلّص منك قبل أن يحدث شيء كهذا.”
[لا تكوني غبية. استعملي قوتي كما فعل سيدي السابق. تذوقي طعم الدم من وقت لآخر، فتفرغين غضبكِ، وأنا أكون راضيًا! وإذا لم تريدي قتل أي أحد، اختاري من يستحق الموت. هناك الكثير منهم. مثلًا، ماذا عن ذاك الفتى إيان فيليترو؟ إنه شخص سيء، أليس كذلك؟]
“اصمت.”
> [تافهة.]
تابعت إيكينيسيا خطواتها بعد أن توقّفت للحظة. فمِن أعماق روحها، راح السيف الملعون يهمس كأنّه زفرة خافتة:
[هل تعلمين كم مرّ من الوقت منذ آخر مرة قتلتِ فيها أحدًا؟]
“…….”
[رغبتكِ في القتل تتراكم، ولم تُفرغ بعد. أنا أقول هذا من منطلق النصح: اختاري شخصًا يستحق الموت واقتليه. إيان، بريد… هناك الكثير من الخيارات.]
“قلت لك: اخرس. أنا من يُقرّر.”
قالتها من بين أسنانها المشدودة، فسكت السيف أخيرًا. ثم مسحت وجهها بكفيها كما لو أنها تطرد القلق، وتوجّهت نحو غرفتها.
داخل الغرفة، كانت أليس جالسة إلى مكتبها، تكتب شيئًا ما. وما إن دخلت إيكي، حتى أومأت أليس برأسها باقتضاب. ورغم أن أليس لم تكن تحبّها، فإنها لم تهمل إلقاء التحية قط.
“آنسة رواز، وصلكِ تلغرافي.”
قالتها بنبرة لا تخلو من الجفاء، وقدّمت لها ظرفين.
“شكرًا، آنسة وينتربيل.”
“…….”
أدارت أليس وجهها بعيدًا دون رد. أما إيكي، فلم تُعر ذلك اهتمامًا، بل جلست على كرسيها وهي تمسك الظرفين. وبيدها الأخرى، راحت تبحث عن سكين الورق بينما تتفحّص الغلاف الخارجي للظرف.
‘الأول من المنزل، كما توقعت.’
وضعت الظرف الأول جانبًا؛ كان سميكًا، ما يدل على أنّ الرسالة طويلة. وبما أن الرسائل السحرية تُصبح باهظة الثمن كلما زاد طولها، فلا شك أن والديها كانا في غاية القلق. وربما الغضب أيضًا، بل وحتى الصدمة. تنهدت إيكي تنهيدة خفيفة.
أما الظرف الثاني، فكان رقيقًا. وكان من نيكول. فتحته أولًا.
–ما زلت أتتبع الهدف. لا أستطيع الجزم، لكن بدا لي وكأن ذيل الأسد الأبيض ظهر.
كانت جملة قصيرة فقط. لكن ما إن قرأتها إيكي، حتى شحب وجهها وفقد لونه بالكامل.
الأسد الأبيض كان الشعار الذي تستخدمه الأسرة الإمبراطورية في إمبراطورية كيرييه. تلك الأسرة التي تنتمي إليها عائلة كونت روآز، والتي ينتمي إليها أيضًا يوريين.
‘هل للعائلة الإمبراطورية علاقة بالسيف الملعون الذي كان في رواز؟’
تحدّقت إيكي في الورقة بشرود، وقد أخذ رأسها المؤلم يزداد ثقلاً. ثم قامت بتجعيد الورقة ببطء.
***
الفصل الثالث: ما يُرى وما لا يُرى
مرّ الوقت بسرعة، ولم يتبقَ سوى يومين على منافسة تصنيف الطلاب الجدد.
في اليوم التالي لطرد بريد، جاء إيان بعدما بلغه الأمر عبر باراها، وقدّم اعتذاره لـإيكي عمّا حدث.
“أنا آسف. لم أكن أعلم أنه شخص كهذا. كُلّفته بالأمر فقط لأنه كان لديه وقت فراغ حينها. لا تقلقي، ما حصل لن ينعكس عليكِ بأي ضرر. أعدكِ بذلك. أنا آسف حقًا.”
كان صوته يعكس صدقًا وندمًا واضحين. ومنذ ذلك الحين، لم يظهر بريد ولا ناديه مرة أخرى. كانت إيكي تتوقّع أن يثيروا المشاكل جماعيًا، لكن يبدو أن إيان قد قال شيئًا أوقفهم.
لو لم تكن إيكي تحمل في ذاكرتها شيئًا من الماضي، لربما اعتقدت أن بريد هو فقط غريب الأطوار، بينما إيان فيليترو شخص لا بأس به.
لكنها رأت في حياته باطنًا غير ظاهره. ومن بين كل من عرفتهم، كان أكثرهم اعوجاجًا. لم تستطع أن تثق في نواياه.
وعلى عكس تحذيرات إيان، لم تكن المنافسة بين الأندية على استقطاب الأعضاء شرسة. كان العديد من الطلاب يشكّكون في الطريقة التي تم بها اختيار إيكي كـمساعدة (المتدرّب المرافق للفارس).
وما زالت النظرات المرتابة تلاحقها. كانت الشائعات السيئة تزداد انتشارًا، ولم يكن بوسعها إيقافها حتى تُظهر في منافسة التصنيف مستوى يجعل الجميع يصمت.
لم تكن الظروف مُرضية، لكنها لم تكن متعبة كذلك. فقد كانت إيكي مشغولة بهموم أعقد بكثير من مجرد كلامٍ دارج في أكاديمية الضباط.
ورغم ذلك، كان هناك من لم يصدّق تلك الشائعات. وكان باراها أبرزهم. ضحك بجنون عندما سمعها:
“لو عرفوا القائد حقًا، لما تخيّلوا لحظة أنه قد يُعجب بفتاة فقط لأنها تتزين! حسنًا، أنزلي يدكِ ببطء، لنرَ إن كان هناك انتفاخ أو حرارة زائدة في أي موضع.”
“حاضر، سيدي.”
كانت إيكي تتلقى منه دروسًا في العناية بالخيول. فبما أن الخدم لا يتبعون الفرسان إلى ساحة المعركة، تقع على المساعد مسؤولية الاعتناء بفرس الفارس داخل المعسكر. وبكفٍ مغطى بقفازٍ أسود، راحت تتحسس ساق الحصان برفق.
“الآن ارفعي الحافر بيد واحدة… نعم، ممتاز. استخدمي أداة تنظيف الحوافر لإزالة الحصى العالق. نظّفي بلطف من الكعب حتى طرف الحافر.”
“نعم.”
وقف الحصان ساكنًا، لا يصدر منه سوى نفخة خفيفة وهو يهزّ رأسه، بينما تواصل إيكي تنظيف حافره. فربت باراها على أنف الحصان بحنو.
كان حصانًا أبيض كبيرًا، جلده ناعم كأنّه منحوت من الرخام، ويكسوه شعر يتلألأ بلمسة ذهبية. إنه حصان يورين المفضل، ويدعى سيلفيد.
“بما أن المساعد يهتم في العادة بحصان فارسه، فمن الأفضل أن تتمرني على هذا الحصان منذ البداية. فالخيول تختلف طباعها. وسيلفيد هادئ، مما يجعله سهل المعاملة.”
“هل اعتنيتَ بسيلفيد أيضًا من قبل، سيدي؟”
“قبل أن أصبح مساعدًا للبارون، كنت مساعد القائد مؤقتًا. أوه، واستخدمي فرشاة قاسية في التمشيط. فهو يحب التمشيط الخشن. ابدئي من العنق وانزلي للأسفل.”
بدأت إيكي تمشّط شعر الحصان بعناية. بينما كان باراها يتفحّصها بنظره، ووقعت عيناه على طرف فستانها.
رغم أن الإسطبل التابع لـفرسان السماء الزرقاء نظيف جدًا، إلا أن الحيوانات تترك آثارها. وكانت إيكي ترتدي فستانًا يصل حتى ساقيها، فعلق به التبن والغبار.
“فستانكِ اتّسخ.”
نظرت إيكي إلى الأسفل بنظرة خاطفة، ثم واصلت تمشيط الحصان دون مبالاة.
“لا بأس، الأمر لا يستحق.”
أخذ باراها يحكّ ذقنه وكأن فكرة مثيرة للاهتمام طرأت على باله.
“كلما رأيتكِ، شعرت أن شكلكِ لا يعكس شخصيتكِ.”
“أنا؟”
“تبدين كشخص لن تطأ قدماه الإسطبل أبدًا، لكنكِ لا تكترثين أبدًا لذلك. ومع ذلك، لا يبدو أن حبكِ للفساتين الجميلة مجرّد تمثيل. هذا مثير للاهتمام.”
وهذا لأن كلتا الصورتين تنتميان لها. فهي التي لا تتردد في الخوض في الوحل إن لزم الأمر، وهي التي تحب الزينة والجمال أيضًا. نعم، طباعها تختلف قليلًا عمّا يبدو من مظهرها، لكن ذلك هو جوهرها الحقيقي.
كان باراها ضخم الجسم كالدب، لكنه في المقابل سريع البديهة بشكل غير متوقع. كان صريحًا في كلامه وذو شخصية واضحة، مما جعل التواجد معه مريحًا إلى حد كبير، رغم أن أسئلته الحادة أحيانًا كانت تسبب لها بعض الإحراج.
ابتسمت إيكي وحوّلت الحديث بلطف.
“سيد باراها، هل يكفي أن أمشط اللِبدة فقط؟”
قال:
“لا، عليكِ أولًا تفكيك التشابك بالأصابع، وإلا ستنكسر الخصلات. سأريكِ.”
اقترب باراها من خلفها. كان واعيًا تمامًا لتأثير هالته الضخمة، لذلك كان يتحرك بحذر أمام النساء أو الأطفال الأصغر منه. حتى الرجال كانوا يرتعبون من حركته المفاجئة أحيانًا. والفرسان وحدهم كانوا قادرين على التقاط حركته بدقة دون أن يفزعوا.
لكن إيكي لم تظهر عليها أي علامات خوف أو ذعر من أول لقاء لها معه، فاستمر باراها بالتحرك بحرية بجانبها. لم تخشَ وجوده القريب خلفها الآن، على الرغم من ضخامته.
شمت رائحة طيبة تنبعث منها، خليط من عطر ومستحضرات تجميل تنم عن أصالة النبلاء، مع نفحات أزهار. كان عنقها النحيل يبدو كما لو أنه بين قبضته القوية عبر خصلات شعرها الوردي الفاتح.
على الرغم من أنها تبدو كالزهرة الرقيقة، لم تكن تشعر بأي توتر بوجود هذا العملاق المفترس خلفها. كانت تبدو أكثر نساء الأكاديمية رقة وأناقة، ومع ذلك لم تكن لتتأثر حتى لو انسكب بحر من الدماء أمامها.
“حقًا، هذا مثير للاهتمام.”
ابتسم باراها ومدّ يده خلف كتفها، ليلف أصابعه بلِبْدة الحصان سيلفيد. حرّك أصابعه ليُظهر لها كيف تفك التشابك.
“ابدئي بفك العقد الخشنة بهذا الشكل، ثم مشطي اللِبْدة.”
“فهمت، هل يمكنني تجربته؟”
“نعم، أمسكيها. هكذا، بالضبط. أوه، وأصلًا، عادةً ما نبدأ بمشط اللِبْدة قبل جسم الحصان…”
سمع صوت خشخشة عند المدخل. توقّف كل من إيكي وباراها عن العمل ووجها رؤوسهما صوب الصوت.
دخل يورين الإسطبل بزي بسيط، وكان من الصعب تفويته أو تجاهله.
وقف باراها كما لو كان يحمي إيكي، وشعرت بحواسه الحادة تستيقظ مع توتر غير واضح. كان يعتقد في نفسه: ‘كيف للقائد، الذي يتصرف بلا خوف، أن يُخيف أحدًا؟ لا يوجد سبب للقلق.’
اقترب يورين منهما بخطوات متزنة، لا بطيئة ولا سريعة. التقى نظره مع نظر باراها، الذي رد عليه بتحية فرسان السماء الزرقاء الرسمية.
التعليقات لهذا الفصل " 20"