لم يعد يفصل بينهما سوى مسافة تكفي لمدّ يدهما ليلامس أحدهما الآخر. شعرت وكأن عروقها قد تنفجر. أمسك بمعصمها المتصلب.
“هه.”
لم تكن حركته خشنة أو عنيفة، بل على العكس، كانت بطيئة ومحترمة. ومع ذلك، كانت الصدمة كبيرة لدرجة أنها أطلقت صوتًا غريبًا، محاولًة كبح صرخة كادت أن تفلت منها. كادت أن تصدّه وتردّ عليه بهجوم.
نظر يورين إلى يدها التي أمسك بها، ولسوء حظها، كانت يدها اليمنى. تحت قفازها الحريري، كان هناك ختم السيف الملعون. شحب وجه إيكينيسيا.
لحسن الحظ، لم يحاول نزع قفازها، إذ لم يكن من النوع الذي يرتكب مثل هذه الوقاحة. حتى مجرد إمساكه بيدها على هذا النحو كان بالفعل أمرًا نادرًا جدًا بالنسبة له.
مرر نظره على يدها قبل أن يمسح بكفّه على راحتها بإبهامه بلطف. لم يكن فيها أثر لأي جلد خشن، كانت ناعمة وصغيرة.
على النقيض من مظهره الرقيق، كانت يد يوريين كبيرة وخشنة—يد فارس خاض العديد من المعارك. ارتجفت إيكينيسيا لا إراديًا، رغم أن اللمسة لم تتجاوز سطح قفازها. لم يكن ذلك بسبب ختم السيف الملعون فحسب، بل كان هناك شعور آخر غير مبرر يتسلل إلى داخلها.
ظل يحدق في يدها بصمت، ورموشه الفضية الطويلة مائلة إلى الأسفل. ثم همس بهدوء.
“هذه ليست يدًا اعتادت الاستمتاع بالسيف.”
عند تلك الكلمات، لم تستطع إيكينيسيا التحمل أكثر، فحركت معصمها بسرعة لتنتزع يدها من قبضته. لم يحاول يورين منعها. اكتفى بالتحديق فيها بعينيه الزرقاوين.
“سأسألكِ مجددًا. لماذا تريدين أن تصبحي فارسة؟”
أطبقت شفتيها. لماذا… تريد أن تصبح فارسة؟ كيف يفترض بها أن تجيب؟ رغم أنها أعدّت نفسها لمواقف كثيرة خلال رحلتها إلى أزينكا، إلا أنها لم تكن مستعدة لهذا السؤال بالتحديد.
إذا اكتشف حقيقتها، فسيمقتها. وإذا لم يكتشفها، فلن يهتم بها. وإن لم يكن لديه أي ذكريات، فلن يكون بينهما أي صلة على الإطلاق.
لطالما اعتقدت بذلك. لم يخطر ببالها قط أنه قد يتذكرها من حفلة عيد ميلاده ويسألها عن سبب رغبتها في أن تصبح فارسة.
رفعت رأسها إليه وعيناها مضطربتان تمامًا. كان يورين لا يزال يحدق بها، منتظرًا إجابة.
تلك النظرة الهادئة كانت مألوفة. هدأت الفوضى التي اجتاحتها، كما لو أن بحر مشاعرها انحسر أمام صمت عينيه. في أعماق ذكرياتها الممحوة، تذكرت تلك العيون التي كانت تراقب انتصارها من خلف بوابة حديدية.
لم تكن ترغب في بناء الأكاذيب أمامه.
فتحت شفتيها ببطء.
“لأنني… أريد أن أكون سعيدة.”
“……”
“قد يبدو هذا غريبًا، لكنه الحقيقة.”
كانت تتوقع أن يسألها عن العلاقة بين الفروسية والسعادة، أو أن يطلب تفسيرًا لخلفية هذا الدافع. لكنه لم يسأل. لم يحوّل نظره عنها، لكنه أجاب ببساطة.
“فهمت.”
خشيت أن تسأله إن كان قد اقتنع حقًا. مجرد الحديث عن هذا الأمر كان عبئًا ثقيلًا عليها. لذا، سعت لتغيير الموضوع.
“لماذا جئت إلى هنا؟”
“بل أنتِ، لماذا أتيتِ إلى هنا في أول يوم دراسي؟”
للتأكد من أن النافورة لا تزال سليمة. لرؤية ما إذا كانت حقيقة مقتلها له قد اختفت تمامًا. لكنها لم تستطع قول ذلك.
بحثت عن عذر عشوائي.
“كنت أتجول فحسب، وانتهى بي الأمر هنا.”
عندها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة طفيفة.
إذن، هو يبتسم؟ لم أكن أعلم ذلك.
لم يسبق لها أن رأت منه سوى تعابير جامدة، أو نظرات مليئة بالشفقة، أو تلك النظرة الغامضة التي لا يمكن وصفها… نظرة آخر لحظة.
حدقت في ابتسامته كأنها مسحورة. بدا أكثر وسامة عندما يبتسم. على عكس نبرته الجافة، بدا صوته ناعمًا عندما ردّ عليها.
“وأنا أيضًا، للسبب نفسه.”
“أنتَ… كنت تتجول؟”
“……أجل.”
بدا الأمر مصادفة غريبة. أن يتجول بالضبط في هذا المكان؟ في الليلة التي عينها فيها كسكواير له؟ المكان نفسه الذي قُتل فيه قبل أن تعود بالزمن؟
هل يمكن أن يكون الأمر مجرد نزهة بريئة؟ هل فقدان ذكرياته حقيقي؟
لم يكن لديها طريقة للتحقق. الاستفزاز المباشر سيكون محفوفًا بالمخاطر. اكتفت بالنظر إليه للحظات، ثم قالت:
“سمعتُ أنك عينتني كمساعدة لك.”
المساعد. التابع الذي يسير بجانب الفارس، يرافقه، يحمي ظهره في أرض المعركة، ويتلقى تعاليمه وخبرته مباشرة.
بعد انتهاء فترة التدريب، ستصبح مساعدته الرسمي، وسترافقه في جميع مهامه. ستكون مسؤولة عن راحته وحمايته من الخلف.
لم يكن ذلك دورًا يمكن منحه لأي أحد. على الأقل، لم يكن ليسلم ظهره لمن قتله في حياة سابقة.
إذن، لا بد أنه لا يتذكر. أو ربما هناك سبب آخر لاختياره لها. ترى، ما الذي يدور في ذهنه حقًا؟
“لماذا اخترتني كمساعدة خاص بك؟”
توقف يورين للحظة، وكأنه كان على وشك قول شيء ما، لكنه ابتلعه. اختفت ابتسامته، وحلّت محلها نظرة غارقة في العمق، تخترقها بهدوء.
وبعد صمت طويل، تحدث أخيرًا.
“المتدربة إيكينيسيا، هل يمكنني أن أطلب منكِ نزالًا؟”
“نزال…؟”
“أريد أن أبارزكِ بالسيف.”
مبارزة؟ هكذا فجأة؟
والأغرب من ذلك، أنه لم يكن يأمرها، بل بدا وكأنه يطلب ذلك منها بلطف. لو أراد، كان بإمكانه إصدار أمر مباشر، بل في الواقع، بالنظر إلى مكانته كقائد الفرسان الساميين، كان من الطبيعي أن تكون هي من تتوسل إليه ليمنحها فرصة لمواجهته.
“أنا… أنا…”
تراجعت إيكينيسيا خطوة إلى الخلف دون أن تدرك.
لم تكن ترغب أبدًا في مبارزته.
يورين، بالنسبة لها، لم يكن مجرد فارس قوي، بل كان الأقوى على الإطلاق. كان أيضًا أعظم مستخدم للغيوسا عرفته في حياتها. لم تكن واثقة من قدرتها على إخفاء مهاراتها الحقيقية إذا قاتلته.
وفي الوقت نفسه، لم يكن من السهل رفض عرض كهذا، في حين أن أي شخص آخر كان سيشعر بسعادة غامرة لمجرد نيل هذه الفرصة.
لاحظ يورين ارتباكها، فأضاف بصوت هادئ.
“ليس الآن، بل في أي وقت ترينه مناسبًا.”
ثم، دون سابق إنذار، فك غطاء رأسه.
انسابت خصلاته الفضية التي كانت معقودة بشكل غير محكم، وغطى ضوء المصابيح ملامحه بلمعان ناعم، مما جعله يبدو وكأنه محاط بهالة من الضوء.
“سأخبركِ لماذا اخترتكِ كمساعدة… بعد أن نتبارز.”
اقترب منها ببطء، ثم خلع عباءته وألقاها برفق فوق كتفيها.
كانت ترتدي ثوبًا رقيقًا مناسبًا لنزهة ربيعية، مكشوف الكتفين. والآن، غطى العباءة ذات اللون الأزرق الداكن كتفيها العاريتين.
أحكم يورين العباءة عليها، قبل أن يقول بنبرة هادئة.
“الليلة باردة. لا تطولي في نزهتكِ، المتدربة إيكينيسيا.”
ثم، ببطء، تراجع إلى الوراء، تاركًا دفء يده ينسحب مع حركته.
استدار بعدها وبدأ بالمغادرة.
والآن، بعد أن أصبح شعره الفضي مكشوفًا، بدأ الناس يدركون من يكون. انحنوا على الفور احترامًا له، وهو بدوره اكتفى بإيماءة طفيفة وهو يبتعد عنهم.
أما إيكينيسيا، فقد بقيت واقفة في مكانها، لا تتحرك، حتى اختفى عن ناظرها تمامًا.
داخل عقلها، تمتم صوت مألوف، صوت السيف الملعون.
[ذلك الرجل… ماذا يدور في رأسه؟ يبدو أن ابن الـرانغيوسا قد اختار سيدًا غريبًا هذه المرة.]
عندها فقط، استوعبت إيكينيسيا ما حدث.
قبضت على العباءة التي تغطي كتفيها. كانت أصابعها ترتجف.
هل يعرف عن الماضي الذي مُحي؟
لماذا يتذكرني من حفل الميلاد؟ لماذا اختارني كمساعدة؟ ولماذا يريد مبارزتي؟
بماذا يفكر بحق الجحيم؟
لم يكن لديها أي إجابة.
في هذه اللحظة، الشيء الوحيد الذي عرفته هو…
دفء العباءة التي تغطي كتفيها.
لم تكن تتوقع هذا الدفء، ولم تأمل في الحصول عليه. لكنه كان هناك، يتسلل من كتفيها إلى أعماق صدرها، يتغلغل في داخلها.
لكن كما هو الحال مع كل شيء آخر يخص يويين، لم تكن تفهم معنى هذا الدفء أيضًا.
***
في تلك الليلة، لم ترَ إيكينيسيا أي كوابيس.
لكنها رأت حلمًا غريبًا.
في الحلم، كانت في الزنزانة الموجودة في قلعة أزينكا.
كان المكان مألوفًا جدًا.
لقد كانت نفس الزنزانة التي سُجنت فيها من قبل.
كانت مقيدة بالسلاسل، لكنها لم تحاول التحرر أو المقاومة. لم يكن جسدها تحت سيطرة السيف الملعون، بل كان جسدها هي.
من خلال الفجوات الضيقة بين القضبان المزدوجة، تسلل ضوء ساطع، وكأنه يقطع الظلام المحيط بها.
حدقت في ذلك الضوء بلا تفكير، حتى سمعت صوت خطوات قادمة من وراء الباب الحديدي.
كان أحدهم يقترب.
ولسبب ما، عرفت فورًا من يكون.
إنه يورين.
وقفت إيكينيسيا من مكانها.
وفي اللحظة التي رفعت فيها جسدها، تفتّتت القيود التي كانت تغلّف معصميها وكاحليها إلى شظايا متناثرة.
شعرت بخفة غير معتادة في أطرافها.
كانت خطواتها متعثرة في البداية، لكنها سرعان ما ازدادت سرعة كلما اقتربت من الباب الحديدي.
فتحت إيكينيسيا الباب.
كان الرجل ذو الشعر الفضي يقف أمامها، متكئًا على الضوء خلفه وهو ينظر إليها. بسبب الإضاءة الخلفية، لم تستطع رؤية ملامحه بوضوح.
رفعت رأسها نحوه وابتسمت ابتسامة مشرقة، غمرت وجهها بالكامل، ثم قالت له بصوت دافئ.
“شكرًا لك… لأنك انتظرتني.”
وهنا انتهى الحلم.
فتحت إيكينيسيا عينيها بصمت، وظلت تنظر إلى السقف لفترة طويلة. لم يكن كابوسًا، لكنه ترك طعمًا مريرًا في قلبها.
أطلقت تنهيدة طويلة ونهضت من سريرها.
في الأكاديمية العسكرية، لم تكن هناك دروس هذا اليوم، لذا لم يكن هناك ما يلزمها بالاستيقاظ مبكرًا، باستثناء واجباتها المؤقتة كمساعدة. ومع ذلك، كانت زميلتها في الغرفة أليس قد استيقظت بالفعل.
بدت أليس وكأنها انتهت للتو من الاستحمام، إذ كان جسدها لا يزال رطبًا قليلًا. ارتدت قميصًا رقيقًا وسروالًا بسيطًا، لكن وجهها تصلب عندما التقت عيناها بـإيكينيسيا.
كانت أليس في الغرفة عندما عادت إيكينيسيا الليلة الماضية. رأت بوضوح زميلتها في الغرفة وهي ترتدي عباءة رجالية واسعة لا يمكن أن تكون إلا ملكًا لرجل.
زميلة غرفة تخرج متأخرة في الليلة الأولى بعد التحاقها بالأكاديمية، ثم تعود وهي ترتدي عباءة رجل؟!
حبست أليس كلمات كادت أن تنفجر من فمها، متذكرةً ما حدث في المبارزة.
والآن، كانت تفعل الشيء نفسه.
جالت عيناها على إيكينيسيا، من قميص نومها الحريري المزين بالدانتيل، وصولًا إلى يديها، حيث كانت ترتدي قفازًا أبيض. لم يكن قفازًا مخصصًا للفرسان أو التدريب، بل كان قفازًا نسائيًا رقيقًا.
حتى أثناء النوم؟!
“……”
بدا أن أليس لديها الكثير لتقوله، لكنّها كبحت أفكارها واستدارت بصمت.
وفي تلك اللحظة، تعثرت قدمها بشيء عند طرف السرير، فتوقفت للحظة، ثم انحنت والتقطته.
عقدت حاجبيها بضيق.
“قررتُ أنني لن أتدخل، لكن هذا…”
ثم ألقت بالورقة على سرير إيكينيسيا.
كانت مذكرة التعيين، التي كانت قد قرأتها الليلة الماضية وألقتها دون اهتمام.
مسحت أليس قطرات الماء المتساقطة من ذقنها بظهر يدها، ثم نظرت إلى إيكي بنظرة حادة وقالت بتهكم.
“هل تركتيها مفتوحة هكذا عمدًا لتتباهي بها؟ الجميع يعلم بالفعل أنكِ أصبحت المساعدة الخاصة بالقائد.”
ولم تنتظر ردًا.
التقطت سترتها وسيفها، وغادرت الغرفة.
ظنّت إيكينيسيا أنها ستغلق الباب بعنف للتعبير عن غضبها، لكنها، وعلى غير المتوقع، غادرته بهدوء.
التعليقات لهذا الفصل " 16"