“……أنا أعرفه أقل منك، يا سيدي.”
“هاها، هذا صحيح.”
رفع كتفيه بلا مبالاة، ثم بدأ بالسير باتجاه مبنى السكن. أما إيكينسيا، فبقيت واقفة لبعض الوقت في ساحة التدريب الخالية. سرعان ما بدأ السيف الملعون في التذمر بملل.
[هيه، لماذا تقفين هكذا بلا حراك؟]
“شعرت أن وجهه مألوف… وعندما رأيت ابتسامته، تذكرت.”
[ماذا؟ من؟]
“إيان بيليترو.”
“[إل؟ لا أذكر هذا الاسم. هل كان ذلك أثناء الفترة التي كنتُ فيها مسيطرًا؟ قبل أن أستيقظ؟]”
“نعم، خلال تلك الفترة.”
عضّت إيكينيسيا شفتيها. حين أبادت أزينكا، كان ذلك الرجل هناك.
لقد قتلت الكثيرين بيديها، لدرجة أنها لم تستطع تذكّر كل من سقطوا ضحية لها. الأشخاص الذين بقوا في ذاكرتها كانوا إما من أحبّتهم، مثل عائلتها أو نيكول، أو من تركوا أثرًا لا يُمحى في حياتها، مثل يورين.
أما إيان بيليترو، فقد كان من النوع الأخير. لكن بمعنى سيئ للغاية.
“عندما رأيته آنذاك، لم يكن مجرد متدرّب، بل كان فارسًا بالفعل. حين حوّلتُ أزينكا إلى… ما أصبحت عليه، كان ذلك بعد ثلاث سنوات من الآن. يبدو أنه أصبح ماستر خلال تلك السنوات الثلاث.”
[هل فعل شيئًا مميزًا؟]
“أرشد الفارين… لكن في الاتجاه الخاطئ.”
[أي اتجاه؟]
“نحوي.”
[……انتظري لحظة، تقصدين أنه دفع الناس عمدًا للفرار نحوكِ؟]
“نعم. وبينما كنتُ أقتل الأطفال والضعفاء، حاول أن يفرّ وسط الفوضى.”
[هاه، يا له من شخص عملي! أنا معجب به!]
ضحك السيف الملعون، الذي يستمتع بشرور البشر، بسخرية. أما إيكينسيا، فاختارت الصمت وبدأت بالسير.
في ذلك اليوم، حين كان هناك طفل صغير يتوسل إلى إيان بيليترو أن ينقذه، ابتسم له بلطف، ثم قال له بصوت دافئ: “اهرب في هذا الاتجاه.”
لكن ذلك الاتجاه كان حيث كانت إيكينيسيا تقتل بلا رحمة.
حتى وسط مشهد المجزرة، لم تنسَ ذلك المشهد أبدًا. تساءلت حينها لماذا كان المدنيون يفرّون نحوها، لكن بمجرد أن رأت إيان بيليترو وهو يرشدهم، أدركت الحقيقة.
لكن الابتسامة اللطيفة التي رسمها على وجهه اختفت عندما رأى إيكينيسيا تقترب أسرع مما توقع. وفي لحظة يأس، دفع الطفل الذي كان بين يديه نحوها وفرّ هاربًا.
الناس يُظهرون حقيقتهم عند مواجهة الموت. وكان إيان بيليترو واحدًا من هؤلاء.
فقَتلَته إيكينيسيا.
وقبل ذلك، قتلت الطفل الذي دفعه نحوها.
حتى بعد مرور كل هذا الوقت، بقيت تلك الذكرى محفورة بوضوح في ذهنها.
“تبًّا.”
تمتمت بلعنة وهي تمرر يديها على وجهها بتوتر. كانت تعلم أنها إذا نامت الآن، فستراودها كوابيس لا محالة. لذا، بدلًا من العودة إلى السكن، غيرت وجهتها واتجهت إلى خارج الأكاديمية العسكرية.
[إلى أين تذهبين؟]
“لأتحقق من شيء.”
[ما هو؟]
أزينكا… التي لم يُقتل فيها أحد.
أجابت إيكينيسيا بصمت داخل نفسها.
كانت أزينكا عند الغروب تعجّ بالحياة. الناس يغادرون أماكن عملهم، الأطفال يعودون إلى منازلهم، والعائلات تتنزه تحت أنوار المصابيح.
لم تكن أزينكا تابعة لأي دولة، بل كانت تدفع الضرائب إلى فرسان السماء. وكان قائد الفرسان الحالي حاكمًا عادلًا.
لم تكن الضرائب مرتفعة، ولم يكن هناك استعباد أو اضطهاد. وبفضل وجود أقوى فرسان القارة في المدينة، لم تكن الوحوش تهددها، كما كانت الجرائم نادرة.
مدينة يسهل العيش فيها، حيث كان معظم الناس يبتسمون أثناء سيرهم في الشوارع.
إيكينيسيا مشت بهدوء بين الحشود، تراقب الناس وهم يضحكون ويتحدثون ويسيرون ويركضون. كانوا جميعهم أحياء. لم يكن هناك دم في أي مكان. لم تكن أزينكا مدينةً مدمّرة، لأن ما ارتكبته في الماضي… لم يعد قد حدث.
شعرت بالراحة تتسلل إليها شيئًا فشيئًا. استمرت بالمشي ببطء، عبر الأزقة، ثم السوق، ثم عبر الجسر فوق القناة.
“سألقي نظرة أخيرة على ذلك المكان، ثم سأعود.”
في وسط الساحة المركزية، كان هناك نافورة كبيرة، وفي قلبها تمثال لملاك يحمل السيف المقدس لانغيوسا.
في الماضي، حين كانت إيكينيسيا تقف وسط ساحة مغطاة بالجثث، حيث اختلطت مياه النافورة بدماء الضحايا، واجهت يورين هناك.
شقّت طريقها وسط الحشود إلى النافورة. المياه الصافية كانت تتدفق منها، نظيفةً تمامًا.
كان من المؤلم أن ترى الحاضر كما هو، غير مدمّر… لكنه كان شعورًا جميلًا في ذات الوقت. بقيت تحدق في النافورة لفترة طويلة، شاردة الذهن.
عندها فقط، أدركت نظرة تراقبها.
بإحساسها المعتاد، كان ينبغي أن تلاحظها منذ فترة، لكنها كانت مشتتة تمامًا بالنظر إلى النافورة.
استدارت ببطء.
رجل يرتدي قبعة بغطاء رأس كان يقف هناك.
كان ظل الغطاء يخفي ملامحه. وبينما كانت الحشود تتحرك بينهما، بدأ الرجل يسير نحوها بهدوء.
تحت ضوء المصابيح، انكشف وجهه للحظة وجيزة.
شعر فضي متلألئ تحت الضوء، وعينان بلون السماء الصافية.
مرّ وقت طويل منذ أن رأت ذلك الوجه آخر مرة، ولكن لأنه كان محفورًا في ذاكرتها كذكرى لا تُمحى، فقد تعرّفت عليه على الفور.
يورين دي هاردين كيريه كان واقفًا هناك.
تجمدت إيكينيسيا في مكانها، غير قادرة على الحركة، وكأنها قد رُبطت بالأرض. نسيت كيف تتنفس. أفكارها اختفت، وساحة رؤيتها امتلأت بالبياض. الشيء الوحيد الذي بقي واضحًا هو يورين، الواقف أمامها بردائه ذي القلنسوة.
في خريف عام 1632، في هذا المكان بالضبط، رأته للمرة الأخيرة. أمام هذه النافورة، قتلته.
ومنذ ذلك الحين، أمضت أكثر من عامين في محاولة التغلب على السيف الملعون، ثم قضت تسع سنوات أخرى في جمع جيوسار. ما مجموعه اثنتا عشرة سنة تقريبًا، وفقًا لزمن إيكينيسيا.
بصفته ماستر، كان جسده يشيخ ببطء شديد، لذا لم يكن هناك فرق كبير بين مظهره في الماضي والحاضر.
توقف يورين على بعد خطوات منها. لم يكن قريبًا بما يكفي ليمد يده ويلمِسها، لكن المسافة بينهما لم تكن كافية ليمرّ شخص آخر بينهما.
لم يخلع قلنسوته. كان شعره الفضي رمزًا معروفًا في كل مكان، وإن كشف عنه في ساحة مزدحمة كهذه، فسيتم التعرف عليه فورًا.
ظل صامتًا وهو ينظر إليها.
كان أطول منها بكثير، لم يكن ذلك بسبب قصرها، بل لأنه طويل القامة بشكل ملحوظ. من زاويتها، كان بإمكانها رؤية ملامحه بوضوح تحت ظلال القلنسوة. وجهه لا يزال ناعم الملامح، أشبه بوجه شاعر أكثر منه فارسًا.
لكن عينيه لم تكونا هادئتين.
في البداية، كانتا مضطربتين، أشبه بأمواج زرقاء تتلاطم بحدة. ثم، في غمضة عين، هدأت تلك الأمواج، كما لو كانت العاصفة مجرد وهم.
لكن إيكي لم تستوعب ذلك. لم يكن لديها الوقت لذلك. كان هناك شيء واحد فقط يسيطر على تفكيرها.
‘إنه… حي.’
وكان ذلك كافيًا.
كل الكلمات التي أرادت أن تقولها، كل الأسئلة التي أرادت أن تطرحها، أصبحت بلا معنى. حتى خوفها من أن يتعرّف عليها تلاشى في تلك اللحظة.
كل ما فعلته هو التحديق في عينيه المليئتين بالحياة، وكأنها مسحورة.
عيون الأحياء جميلة للغاية.
كان يورين هو من كسر الصمت أولًا.
“……إيكينيسيا رواز.”
نطق اسمها بصوت خافت. لم يكن وكأنه يناديها، بل أشبه بمن يردد الاسم ليؤكّد لنفسه أنه صحيح.
ثم أضاف بعد لحظة، متأخرًا قليلًا.
“أيها المتدرّبة.”
رمشت إيكينيسيا بعنف، غير متأكدة من كيفية الرد. بدا أن يورين كان يختار كلماته بعناية، حيث فتح فمه وكأنه على وشك الحديث، لكنه تراجع، ثم قال ببطء:
“هل تعرفينني؟”
لم يكن ذلك استجوابًا، ولا كان محاولة لاختبارها. كان مجرد سؤال بسيط، وكأنه يبحث عن تأكيد.
عندها فقط، استعادت إيكينيسيا وعيها.
أول ما فعلته هو أن خفضت نظرها بسرعة، وغطت فمها بيدها. كيف لها أن تحدّق به بهذه الطريقة؟ ماذا لو كان يتذكرها؟
على الرغم من أن مظهرها قد تغير تمامًا، ورسمت وجهها بالمكياج، وارتدت قبعة بغطاء شفاف، إلا أن مواجهته وجهاً لوجه كانت مخيفة.
لم تستطع السماح له بأن يتعرف على المرأة التي قتلته.
دون أن ترفع نظرها، أجابت بصوت هادئ.
“أعتذر، لكنني لا أعتقد أنني أعرفك. هل تعرفني أنت؟”
سواء كان يتذكرها أم لا، لم يكن بإمكانها أن تظهر أنها تعرفه. لا يمكن أن يكون هناك أي صلة بين فتاة نبيلة عادية وفرسان السماء.
صمت يورين للحظة بعد سماع إجابتها. ثم ابتسم بخفة.
ابتسامة بالكاد ملحوظة—شفاهه انحنت قليلاً، زوايا فمه ارتفعت بالكاد، وعيناه أصبحتا أكثر رقة.
‘… لقد ابتسم؟’
‘إنها المرة الأولى التي أراه يبتسم فيها.’
لم تكن هناك فرصة لرؤيته يبتسم من قبل، لذا لم تكن تعلم كيف يبدو ذلك عليه. كانت ابتسامة خفيفة بالكاد تُلحظ، ومع ذلك، شعرت وكأن الأجواء من حوله قد أصبحت أكثر إشراقًا.
شعرت إيكينيسيا بحرارة مفاجئة تغمر وجهها، مما جعلها تشعر بارتباك شديد. لكنها لم تحصل على فرصة لاستعادة توازنها، لأن كلماته التالية كانت أكثر إرباكًا لها.
“أنتِ تعلمين من أكون. لقد رأيتِني من قبل، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
خرج صوتها متصدعًا، وكأن قلبها الذي كان ينبض بسرعة قد سقط فجأة إلى قدميها، متدحرجًا بعيدًا عنها.
هل يتذكر؟ هل لديه ذكريات؟
هل يتذكر كيف خنته… كيف قتلته هنا، أمام هذه النافورة؟
إذا كان يتذكر… فماذا يجب أن أفعل؟ كيف يجب أن أرد عليه؟
قبل أن تفقد عقلها تمامًا، تابع يورين حديثه بصوت هادئ، وكأنه لا يدرك العاصفة التي أثارها داخلها.
“الصيف الماضي، في حفل ميلاد الإمبراطور.”
“آه…”
لقد كان ذلك صحيحًا. على الرغم من أن الأحداث التي تلت ذلك كانت أكثر حدة، مما جعلها تنسى نصف ما حدث، إلا أن لقاءها الأول مع يورين كان بالفعل في ذلك الحفل.
لم يكن لقاءً حقيقيًا؛ لم تتحدث معه أبدًا، بل اكتفت بمراقبته من بعيد. لم ترقص معه، ولم تتبادل معه حتى نظرة واحدة.
ومع ذلك، كان ذلك حدثًا وقع في الماضي قبل أن تعود بالزمن، لذا فلا عجب أنه ما زال قائماً في هذا الخط الزمني أيضًا.
في الحفل، كانت متأنقة تمامًا كما هي الآن، لذا لم يكن غريبًا أن يتمكن من التعرف عليها.
لكن ما لم تفهمه هو…
كيف يمكن أن يتذكر فتاة نبيلة عادية لم يتحدث معها ولم يتبادل معها حتى نظرة واحدة؟
ضغطت إيكينيسيا شفتيها، محاولة ترطيب حلقها الجاف، لكنها وجدت صعوبة في نطق الكلمات. بالكاد تمكنت من إخراج سؤالها.
“هل… هل رأيتني في حفل الميلاد؟”
“لم أكن أعلم من تكونين، لكنني أتذكر رؤيتكِ. أما أنتِ، ألم تريني هناك؟”
ضحكت إيكينيسيا داخليًا بسخرية.
من الذي حضر الحفل ولم يلاحظ يورين دي هاردين كيريه؟
كان أكثر شهرة حتى من ولي العهد نفسه.
لم يكن السبب فقط كونه قائد فرسان السماء، بل لأنه كان رجلاً يلفت الأنظار بجماله وحده.
تظاهرت إيكينيسيا بأنها استوعبت الأمر للتو، واتسعت عيناها بدهشة مصطنعة قبل أن تنحني قليلاً قائلة:
“آه! كنتَ القائد إذن! أعتذر على تأخري في إدراك ذلك!”
“القائد…؟”
قطب يورين حاجبيه قليلًا، وكأنه غير راضٍ عن اللقب. ظل صامتًا للحظة، وكأنه يفكر في شيء، ثم هز رأسه بخفة وقال.
“ناديني باسمي. أنا يورين.”
لم يذكر لقبه ولا اسم عائلته.
تجمدت إيكينيسيا في مكانها، وشعرت بالذعر. لطالما كانت تناديه باسمه في عقلها، لكنها لم تكن تتوقع أن يطلب منها ذلك صراحةً.
على الفور، سارعت إلى الرفض.
“أنا مجرد متدرّبة، سيدي القائد. كيف لي أن أجرؤ؟”
“متدرّبة، هكذا إذن…”
نظر إليها يورين بعينين غامضتين، لكن إيكينيسيا تجنبت التقاء نظراتهما.
ربما يجد ملابسي غريبة على متدرّبة في الأكاديمية.
لكن يورين لم يكن ينظر إلى فستانها.
كان يحدق في وجهها الشاحب، وكأن ملامحها تحمل إجابة لسؤال لم يسأله بعد.
ثم، بصوت خافت، سألها.
“لماذا التحقتِ بالأكاديمية العسكرية؟”
“لأنني أريد أن أصبح فارسة.”
“ولماذا تريدين أن تصبحي فارسة؟”
“لأنني… أحب السيف.”
كان سؤالًا عاديًا، أشبه بأسئلة مقابلات القبول في الأكاديمية، وكانت إجاباتها نمطية بالمثل.
لم يكن هناك شيء غريب في تبادل هذا النوع من الحديث بين قائد الفرسان ومتدرّبة.
بدأت إيكينيسيا تشعر بالارتياح قليلاً.
ولكن فجأة—
اقترب منها يورين بخطوة مفاجئة.
التعليقات لهذا الفصل " 15"