الفصل الأول: البداية
لم تكن أكاديمية أزينكا العسكرية، بمعناها الدقيق، مكانًا يمكن وصفه بـ”الأكاديمية”. فلا دروس تُقام فيها، ولا محاضرات تُعطى. التدريب؟ غير موجود كذلك. بالطبع، لا يوجد مدربون أو معلمون. كل ما تقدمه الأكاديمية لطلابها هو المأوى، الطعام، واللقب الذي يحملونه كطلاب أكاديمية عسكرية.
“ولكن مجرد الحصول على هذا اللقب يعني الكثير. أن تكون مرشحًا لمنصب مرافق في فرسان السماء الزرقاء… طبيعي أن يجذب هذا العدد الكبير من المتقدمين.”
تمتم الموظف الإداري الجديد، وهو ينظر من نافذة مكتب الإدارة في الأكاديمية. ألقى المسؤول الأكبر الذي كان يتصفح أكوامًا من طلبات التقديم المكدسة على مكتبه نظرة عابسة تجاهه.
“ما الذي تهذي به فجأة؟”
“لا شيء… فقط شعرت بالفخر لأنني، حتى لو كموظف إداري، أصبحت جزءًا من فرسان السماء الزرقاء.”
“كم هو ساذج.”
مدينة أزينكا، حيث تقع الأكاديمية، كانت تحت إدارة فرسان السماء الزرقاء، ولم تكن تابعة لأي دولة. وذلك لأن فرسان السماء الزرقاء كانوا جماعة تتجاوز حدود الدول.
“كم تظن من هؤلاء سيصبح فارسًا في السماء الزرقاء؟”
“ربما لا أحد.”
“مستحيل.”
“لا يمكن أن يصبح فارسًا رسميًا في السماء الزرقاء إلا من يحمل لقب الماستر، وهل تظن أن الوصول إلى الماستر أمر سهل؟”
“ظننت أن كل الفرسان هم ماستر!”
“ياللسذاجة… يبدو أنك لم تغادر أزينكا قط.”
“نعم، لم أغادرها. ولماذا تسأل؟”
“يا هذا، فرسان السماء الزرقاء هم استثناء؛ جميع أعضائهم ماستر. أهذا غريب؟ هل تظن أن لقب الأقوى جاء من فراغ؟”
“إذن، هل تسمح فرق الفرسان الأخرى بانضمام غير الماستر؟”
“في معظم الدول، بالكاد تجد بعض الماستر. أما هنا… الفرسان العاديون يمكنهم تغليف سيوفهم بطاقة المانا. وهذا مجرد البداية. فوقهم، هناك أصحاب القوة الروحية.”
“مهلًا… من ذلك؟”
قاطع الموظف الجديد كلام زميله الأكبر بصوت يعبر عن الدهشة. توقفت الأخيرة عن حديثها وعبست.
“ألم تكن تستمع إلى كلامي؟”
“سيدي، انظر إلى ذلك.”
قال الموظف الجديد بارتباك، مشيرًا بإصبعه نحو الخارج. كانت أصوات الهمهمة والضجيج تتردد من الخارج. كادت زميلته الأكبر تغضب عليه، لكنها اقتربت من النافذة بعد أن سمعت تلك الأصوات.
“ما الأمر؟ …ما هذا؟”
تسمرت عيناها في الخارج بفم مفتوح، فسألها الموظف الجديد.
“كم سنة قضيتِ في العمل هنا؟”
“سبع سنوات…”
“…هل سبق لك أن رأيتِ متقدمة مثل هذه؟”
“أبداً.”
“بالطبع لا…”
“لقد رأيت كل أنواع المتقدمين، لكن هذه المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا كهذا.”
كانت جميع الأنظار متجهة نحو فتاة واحدة.
لم يكن السبب لأنها فتاة، فمع أن الرجال كانوا أكثر عددًا بين المتقدمين، إلا أن هناك نساء أيضًا. وحتى في فرسان السماء الزرقاء، كانت هناك فارسات.
هل كان السبب جمالها؟ لقد كانت جميلة بلا شك. ربما في أوائل العشرينيات من عمرها. ملامحها بدت أكثر شبابًا من عمرها الحقيقي، لكن قوامها كان ناضجًا.
كانت بشرتها بلون الحليب، وشعرها نصف مرفوع ونصفه الآخر منسدل، بلون وردي شاحب. عيناها الكبيرتان اللامعتان بلون العنب الأرجواني أضفتا على مظهرها براءة، وشفتاها الصغيرة الممتلئة بلون زهري ناعم جعلتاها تبدو كزهرة يكسوها الندى.
ومع ذلك، لم يكن مظهرها هو سبب الضجة. وسط آلاف المتقدمين، كان هناك من هم أكثر جمالًا.
السبب الحقيقي كان ملابسها.
ارتدت قفازات بيضاء من الدانتيل، وفستانًا كاملًا مع تنورة، وحذاءً نسائيًا بكعب عالٍ. أكملت مظهرها بأقراط، قلادة، بروش، مكياج خفيف، وأشرطة وزخارف مزينة بالجواهر.
لم يكن مظهرها يناسب ساحة اختبار مهارات السيف، بل بدا كأنها في حفلة شاي خاصة بسيدات النبلاء.
“لابد أنها فقدت عقلها…”
تمتم الموظف الجديد، معبرًا عن شعور الجميع. زميلته الأكبر ردت بصوت شارد.
“حقًا، مهما كان بيتها النبيل، يبدو أنها لم تنضج بعد ولا تملك أي إدراك لما تفعله.”
“هل تعتقد أنها تعرف أن هذا مكان لاختبار السيف؟”
“سيكون من الأفضل أن تكون قد أتت دون علمها. إذا كانت تعرف ومع ذلك ظهرت بهذا الشكل لاختبار المتدربين في أزينكا، حيث يتنافس العباقرة من جميع أنحاء القارة… فهذا أسوأ بكثير.”
“هل تعتقد أنها أمسكت بسيف من قبل؟”
“أرجح الاحتمالات أنها فتاة نبيلة مغرمة بروايات الرومانسية وهربت من منزلها. السيف؟ لا أعتقد.”
“هل تريد أن نراهن؟ أعتقد أنها ستسقط السيف بمجرد أن تمسك به.”
“لا، لا أريد المراهنة! هذا أمر مؤكد جداً لدرجة أنه لا يعتبر رهاناً!”
“إذن راهن على أنها ستسقطه أثناء محاولتها التلويح به.”
“كيف ستلوح به؟ بالكاد تستطيع رفعه!”
كانت السيوف أسلحة ثقيلة، خاصة إذا لم تكن من النوع الخفيف كالسيوف الرقيقة. بالنسبة لفتاة غير مدربة، فإن مجرد رفعه بيد واحدة كان تحديًا كبيرًا.
“ما الذي يحدث هنا؟”
جاء صوت بارد منخفض خلفهما، مما جعل الموظفة الأكبر تتجمد. استدارت بسرعة وأدت التحية قائلة.
“تحياتي، أيها القائد!”
“ماذا؟ القائد؟”
في أزينكا، لم يكن هناك سوى شخص واحد يُدعى القائد.
قائد فرسان السماء الزرقاء.
في نظام فرسان السماء الزرقاء القائم على الكفاءة المطلقة، كان لقب القائد يعني أنه أقوى فارس. الموظف الجديد، الذي لم يكن قد التقى بالقائد من قبل، وقف مصدومًا وهو يتأمل الرجل.
كان يبدو كزهرة مصنوعة من الزجاج. شعره الفضي الطويل الذي كان مربوطًا بشكل غير محكم ويتدلى على كتفه، وعيناه الزرقاوان بلون السماء الصافية. كان وجهه يوحي أكثر بشاعر منه كفارس.
لكن على عكس مظهره، كان جسده تحت الزي العسكري مدربًا تدريبًا صارمًا. وكان هناك شيء في هالته. مهما كان جماله، فإن السيف هو سيف. كان يشعر به من تلك الهالة الحادة والباردة الخاصة بالأشياء المصممة للقطع والطعن. ربما كانت هذه هي آثار حياته التي قضاه بالقرب من السيوف.
ذلك الرجل كان يوريين دو هاردن كيرييه، أصغر شخص في التاريخ يصبح ماستر وأصغر قائد لفرسان السماء الزرقاء، ومالك السيف المقدس لانجيوسا. كان الشخص الذي سيصبح بلا شك بطلًا في ملحمة شعرية سيكتبها الشعراء في المستقبل.
ابتلع الموظف الجديد ريقه دون أن يشعر.
“آه، لا شيء.”
“سمعت أنك قد راهنت.”
“ذلك…”
لم يتمكن الموظف الجديد من الرد بشكل مناسب، وكان يتصبب عرقًا. حينها، أغمضت زميلته الأكبر عينيها بشدة ثم شرحت.
“كان هناك شخص غريب بين المتقدمين، لذلك مزحت قليلًا.”
“غريب؟”
رفع يورين حاجبه بشكل طفيف. فسارع الموظفون بسرعة للابتعاد وأشاروا إلى النافذة.
“هناك… إذا نظرت، ستفهم مباشرة.”
اقترب يوريين من النافذة وأخذ ينظر إلى الخارج بعينين نصف مغمضتين. سرعان ما وجد الفتاة ذات الشعر الوردي بين المتقدمين.
عرفها على الفور. كانت معروفة له. لم يكن ليخطئ في التعرف عليها حتى لو كانت ترتدي خرقة على جسدها.
اتسعت عينيه ثم تذبذبت نظراته. كان يمسك بحافة النافذة بقوة دون أن يشعر. اجتاحت العديد من الذكريات عقله وجعلته يشعر بغثيان. لكنه لم يظهر على وجهه أي تأثير داخلي. لم يدرك الموظفون الذين كانوا بجانبه أن شيئا ما كان يزعجه.
أخذت زميلته الكبيرة نفسًا عميقًا.
“لم أكن أظن أنني سأرى متقدمة بفستان في اختبار فرسان أزينكا.”
“هل هي متقدمة؟”
ظهر على يورين وجه مندهش وكأنه لم يفهم ما سمع.
“نعم. يبدو أنها لا تدرك أين هي، على الأرجح هي فتاة غافلة.”
اعتقدت الزميلة أن رد فعل القائد كان طبيعيًا بسبب صدمته من الملابس. لم يكن من السهل أن ترى شخصًا متقدمًا بفستان وحذاء بكعب عالٍ في هذا الاختبار، ولكن بسبب تحاملها، لم تدرك أن يورين لم يكن يسأل ببساطة بل كان يشكك.
لكن الموظف الجديد لاحظ ذلك. شعر أن أسلوبه كان غريبًا. لم يبدو كما لو أنه يتساءل “كيف تجرؤين على الحضور هكذا؟”، بل كان يبدو وكأنه يتساءل “كيف يمكن أن تكون مجرد متقدمة؟”. هل سمع خطأ؟ في تلك اللحظة، عاد يورين إلى واقعيته وابتعد عن النافذة بهدوء.
“هل تعتقد أنها ستفشل؟”
“ماذا؟ أم، لا أعتقد…”
بينما كانت الفتاة ترتدي الفستان، ظهر أنها كانت ستخضع للاختبار. تقدمت وهي تحمل سيفًا طويلًا بلا زخارف، لا يتناسب مع ملابسها.
كان الاختبار بسيطًا، وهو قطع جذع خشبي باستخدام السيف.
كان الجذع أكثر صلابة مما يتوقعون، وقطعها بسيف بدلاً من فأس كان أمرًا يتطلب مهارة وقوة كبيرة. كان الفارس المتمرس يستطيع أن يخمن مستوى خصمه بناءً على وضعية الضربة، وشكل الجرح، وسرعة الحركة.
وقفت الفتاة أمام الجذع وهي تمسك بسيفها. لم يرفع يوريين عينيه عن مشهدها وهو يهمس كما لو كان يحدث نفسه:
“لو كنت مكانها، كنت سأراهن على أنها ستتفوق وتكون الأولى في هذا الاختبار.”
المرأة لوَّحت بسيفها. كانت الأكمام الواسعة تتطاير في الهواء. حتى قدميها اللتين كانتا ترتديان حذاءً ذا كعب عالٍ وذراعيها النحيلتين، لم تتحركا بتاتًا. انشطر الجذع إلى نصفين بسلاسة. حتى الموظفون الذين لم يكونوا على دراية بالأمور العسكرية شعروا أن الحركة كانت دقيقة ومثالية.
سادت حالة من السكون في ساحة التدريب. فقط بعد أن دخل السيف في غمده، استعاد المشرف وعيه. تفقد الجذع المقطوع بتلقائية، ثم صاح بصوت متردد.
“إيكينيسيا رواز، تأهلت للمرحلة الأولى!”
لم يعد يورين يهتم بالمشهد، فالتفت بعيدًا. لم يكن هناك داعٍ للمزيد من المشاهدة. كانت تعلم أنها ستتجاوز بقية الاختبارات بسهولة. ثم أمر الموظف.
“أحضر لي استمارة التقديم.”
“نعم، نعم؟”
فزع الموظف الذي لم يكن يتوقع الأمر. فهز يورين رأسه بإشارة.
“استمارة التقديم الخاصة بتلك المتقدمة.”
“آه، آه، فهمت. انتظر لحظة.”
بدأ الموظفان في البحث المربك بين الأوراق. وبعد لحظات، تم تسليم استمارة واحدة إلى يورين، فاستعرضها بسرعة على الفور.
***
إيكينيسيا روز، أنثى، 20 سنة، من إمبراطورية كيرييه، الابنة الكبرى لعائلة رواز، إقطاعية الرواز.
كان إيكينيسيا اسمًا لزهرة وردية. ربما كان هذا الاسم مرتبطًا بلون شعرها الغريب. كان اسمًا يناسبها تمامًا، ومن السهل تذكره.
“إيكينيسيا…”
تأمل يورين الاسم بصمت. كان اسمًا جديدًا عليه، لكنه كان يشعر بشغف عميق لمعرفة المزيد. كان يعرفها، لكنه لم يكن يعرف اسمها.
في “المستقبل” الذي يعرفه، لم تكن هي طالبة في الأكاديمية العسكرية. لكن الآن، هي ستصبح طالبة فيها.
“لقد تغيرت.”
“ماذا؟”
“لا شيء. حسنًا، استمروا في عملكم.”
أعاد يورين الاستمارة إلى الموظفين وغادر المكتب الإداري.
***
في نفس الوقت، خرجت إيكينيسيا من قاعة الاختبار، متجاهلة النظرات التي كانت تتساقط عليها من كل مكان.
نظرت إلى كف يدها اليمنى بسرعة. على راحة يدها، التي كانت مخفية تحت القفاز المزخرف، كان هناك رمز أسود يجب أن لا يُكتشف.
[هل تفكري في التخلص مني مجددًا؟ يا لكِ من سيدة قاسية.]
كانت الكلمات تهمس في رأسها، رغم أنه لم يكن هناك أحد حولها. كان الصوت ينبعث من العلامة على كف يدها، الصوت الذي كانت روحها تُرسل لها مباشرة. ابتسمت إيكينيسيا بسخرية.
“بالطبع، لماذا جئت إلى هنا إذا؟ جئت لأتخلص منك.”
[ألم تتعلمي كيفية التلاعب بالزمن بفضلي؟!]
“لو لم تكن أنت، لما احتجت لذلك أبدا.”
[يا لها من قسوة، لِمَ لا تتركِ الأمر؟ إن الماضي قد أصبح طي النسيان، أليس كذلك؟]
“اصمت، يا سيف الشيطان.”
أجابت إيكينيسيا بلهجة قاسية تتناقض مع صوتها الرقيق، ثم تجاهلت همسات السيف الشيطاني في ذهنها وتوجهت نحو قاعة الاختبار الأولى.
كانت قاعة الاختبار قريبة. تجمع أولئك الذين اجتازوا المرحلة التمهيدية بالفعل هناك. توقفت إيكينيسيا عند المدخل، قبضت على يدها اليمنى وكأنها تحاول إخفاء العلامة التي تحملها، وأخذت نفسًا عميقًا.
الآن يبدأ كل شيء.
كانت عازمة على أن تصبح فارسة رسمية في فرسان السماء. كان عليها أن تبرز بين الآخرين، دون أن تثير الشكوك. ورغم أنها كانت مضطرة لتحقيق الرقم القياسي في أقصر فترة لتُنصب كفارس، إلا أن عليها أن تفعل ذلك بطريقة لا تبدو غير طبيعية. أرادت أن يُنظر إليها على أنها مجرد عبقرية “عادية”. كان عليها أن تحافظ على هذا التوازن بينما تسعى لتحقيق هدفها.
بالأخص، يجب أن تتجنب التورط مع قائد الفرسان النبيل بأي ثمن، رغم رغبتها الشديدة في لقائه. لقد حصلت على فرصة حياة جديدة، ولا يمكنها السماح للمشاعر أو الاندفاع بإفسادها.
‘حتى لو تذكرني يورين بطريقة ما… فإن مظهري مختلف تمامًا الآن.’
نظرت إيكينيسيا إلى ملابسها الفاخرة. كان لارتدائها الفستان وزينتها سبب مقصود.
كانت إيكينيسيا روآز تعيش حياتها الثانية.
في عمر الخامسة والثلاثين، أعادت الزمن إلى الوراء خمسة عشر عامًا. محَت الماضي الذي أرادت التخلص منه. وبذلك، بدأت حياتها الثانية في سن العشرين. لم يكن هذا الحظ السعيد شيئًا حصلت عليه بسهولة؛ بل كان معجزة انتزعتها بجهدها الخاص.
التعليقات لهذا الفصل " 1"