قال أيغر بهدوءٍ وهو يراقب كاثرين من بعيد:
“أن تتحدث سيدةٌ مهووسة مثل الآنسة سيليون عن فسخ خطبتها… فلا بد أن أسرتها تمارس عليها ضغوطًا من نوعٍ ما.”
كانت ملاحظته مفاجئة في لطفها، مما شجّع رايلين على المجازفة بقول الحقيقة.
إن استطاعت فقط أن تثير اهتمامه ولو قليلًا، فستعدّ ذلك نجاحًا جزئيًا.
“لا، لم يعد في قلبها حبٌّ تجاه دوق لوكارت. لذا لا سبب يدفعها للتشبث بالخطوبة. في الأصل، هي…”
عادةً، كان أي شخص سيقاطعها بشغفٍ ليسأل عمّا يلي عبارة: ‘في الأصل، هي…’.
لكن أيغر لم ينطق بحرف، بل ظلّ صامتًا بلا أيّ ردّ فعل.
حقًا، لم يكن من السهل التأثير على أيغر رينهارت.
كانت تعلم أنه ليس هدفًا سهلًا، لكن ألا يُبدي حتى الفضول؟!.
ومع ذلك، يكفي أنها نجحت في تبديد بعض ملله، وذلك نصف نجاحٍ في حدّ ذاته… أليس كذلك؟.
قبل أن تجد رايلين ما تقوله لاحقًا، قطع صوت ثيرون السكون الحاكم للمكان.
“الفسخ… ليس أمرًا ينبغي أن تتحدث عنه السيدة بخفّة.”
اختفى الإحباط العابر من وجه رايلين، واستعاد تركيزه حدّته من جديد.
“أعلم، وليس لي حولٌ ولا قوةٌ في تغييره. أمّا أنت، فبالتأكيد لا ترغب في شيءٍ أكثر من فسخ هذه الخطوبة.”
قطّب ثيرون حاجبيه، ومرّت على وجهه سلسلة مشاعر متلاحقة: صدمة، غضب، ضيق، ازدراء… ثم لمعت في عينيه لمحة غير متوقعة.
—فضول.
لكن رايلين وحدها، القادرة على إدراك المشاعر التي تَسكن الكلمات، لاحظت تلك الومضة الخفية.
تأمّل ثيرون كاثرين بتركيز.
لطالما شعرت، حين يلتقي نظره بعينيها، وكأنها تُسحب إلى مستنقعٍ غامقٍ لا مفرّ منه. لكن هذه المرة، كانت عيناه صافيتين كسماءٍ بلا غيوم.
“ليس هذا حديثًا يُقال في مكانٍ عام كهذا.”
“اخترتُ المكان العام عمدًا. أليس من الأفضل أن يكون هناك شهود حين أطلب من سموّك مباشرةً فسخ الخطوبة؟.”
عند سماع ردّها الرصين، ازداد بريق الفضول حول ثيرون قليلًا.
تناولت كاثرين فنجانها وأضافت بهدوء:
“إن أرسلت أوراق الفسخ إلى عائلتي، فسأوقّعها على الفور.”
كانت رايلين تراقب المشهد وتتمتم في سرّها بتهكّم:
ها هما أقوى رجلٍ شابٍ في الإمبراطورية، والدوق ذو النفوذ الأعظم، ومعه ابنة الماركيز الوحيدة، يعلنان فسخ خطوبتهما في مقهى عام!.
صحيح أن كاثرين صاغت مبرّرًا مقبولًا، لكن لا ريب أن الأمر ليس سوى حيلة أدبية بحتة.
فوظيفة هذا المشهد الأولى هي إظهار التحوّل الجذري في شخصية كاثرين بعد حلول الوعي الجديد في جسدها.
أما الثانية، فهي ترك أثرٍ قويّ في ذهن رايلين جروجيا، التي كانت تسعى بكل ما أوتيت لفكّ ارتباطها بوليّ العهد، ألدّ أعدائها وأخطر أدوات الحكاية.
يا له من أسلوبٍ روائيّ مريح! بضع جملٍ فقط، وتُحلّ العقدة.
لكن بدل أن تتأثر كما يُفترض أن تفعل، كادت رايلين تنفجر ضحكًا وهي تحاول كبح ارتعاشة شفتيها الساخرة.
ورغم ذلك، استمرّت الأحداث كما خُطّت.
“أوه، وعندما تُرسل أوراق الفسخ، هلّا سلّمتها بنفسك؟ وإلا قد لا تصل إليّ.”
كانت عبارة غريبة. من ذا الذي لا يعلم إن كانت أوراق فسخه قد وصلت أم لا؟.
أمال ثيرون رأسه مستغربًا، وكذلك فعلت رايلين وهي تبحث بين كلمات رواية ش.م.ت عن مفتاحٍ يفسّر الموقف.
أجل… الكلمة الأساسية الأبرز كانت ‘امتلاك الشريرة للجسد’.
أما الثانية فكانت… ‘ندم العائلة’.
لقد كانت كاثرين منبوذة آل سيليون.
أبوها وشقيقاها الكبيران لم يتركوا وسيلةً إلا استخدموها لإهمالها أو إيذائها، وحتى خدم القصر لم يكونوا يُخفون ازدراءهم لها.
كانوا يتظاهرون بالمودّة أمام الناس حفاظًا على سمعة العائلة، لكن خلف الأبواب، كانت حياتها جحيمًا.
وكل ذلك لسببٍ واحدٍ لا غير:
فقد ماتت الماركيزة، زوجة الماركيز العزيزة وأمّ كاثرين، أثناء ولادتها.
لم يكن ثمة تفسير أوضح.
وهكذا، في معظم الروايات الموسومة بوسم ندم العائلة، تتكرر القصة نفسها:
حين يرون تغيّر البطلة وتحولها الكامل، يبدؤون بالندم على ما اقترفوه بحقّها، يرجون غفرانها بدموع الندم، وفي النهاية، تعود فتحتضنهم بعطفٍ نبيل.
لكن الحقيقة كانت أكثر قسوة.
فكاثرين التي تستحق اعتذارهم حقًا لم تعد موجودة.
ما بقي هو دخيلةٌ تسكن جسدها. امرأة مهووسة قتلت عددًا من الناس مدفوعةً بهلاوس جنونها وسعيها الأعمى وراء أهدافها الخاصة.
أغمضت رايلين عينيها تفكر في كاثرين الحقيقية التي اندثرت، ثم هزّت رأسها لتطرد الأفكار الزائدة.
لم يكن بوسعها فعل شيء، سوى أن ترثيها بصمت.
أما الكلمة الأساسية الأخرى في الرواية فكانت ‘ندم البطل’.
قال ثيرون بجمود:
“أفهم. لم يعد هذا حديثًا يصلح لمكانٍ كهذا. سأرحل الآن.”
ولم ينتظر ردّها، بل نهض وغادر المقهى بخطواتٍ حازمة.
راقبت رايلين ظهره بعينين ضيّقتين، فرأت حوله خيطًا من الفضول المتشبّث برقبته.
‘ندم البطل الذكر’.
ذلك النوع من الرجال الذي يملك امرأةً هامّة به، لكنها تتغيّر فجأة وتبتعد عنه، فيجد نفسه مشدودًا إليها رغمًا عنه.
ولإذكاء مثل هذا النوع من الندم، لا بد من وجود عنصر آخر: ‘الحريم العكسي’.
وما إن غادر ثيرون، حتى لحقت به كاثرين أيضًا.
ظلت رايلين تحدّق في المقاعد الفارغة، يغمرها خليطٌ من الأفكار المتشابكة.
لم يبقَ وقتٌ طويل قبل أن تبدأ تلك المجنونة لعبتها الحقيقية.
فكاثرين اعتادت إزالة كل من يعترض طريقها، سواء أهانها أو شكّل عائقًا أمامها.
وفي ش.م.ت، تم تجميل ذلك كلّه على أنه إزالة للأشرار ومساهمة في الصالح العام.
لكن الحقيقة أنها حصدت أرواح الأبرياء الذين كان من المفترض أن يبرعوا ويشتهروا.
امتصّت مجد الآخرين وثرواتهم، لتتألّق وحدها كبطلةٍ ظافرة.
أما رايلين، في حياتها السابقة، فلم تكن سوى أداةٍ ممهّدة لطريق صعود كاثرين المجيد.
لكن في هذه الحياة، ستصبح العقبة التي لا تُتجاوز.
أشدّ دهاءً وقسوةً من أي رجلٍ حاول من قبل حرق طريق كاثرين الذهبيّ.
نظرت إلى أيغر، فلم ترَ حوله أيّ كلمةٍ تعبّر عن شعور.
ذلك يعني أنه لم يكن يحسّ بشيءٍ قويّ بما يكفي ليتجسّد في الكلمات.
لم يكن من فائدةٍ في إطالة الجلسة أكثر.
استعادت رايلين مثلًا مأثورًا: “البداية نصف العمل.” وقررت أن تختتم اللقاء عند هذا الحد.
“هل نرحل نحن أيضًا؟.”
“نعم، قضينا ما يكفي من الوقت هنا.”
نهض أيغر بخفة، وغاب كما جاء، صامتًا كطيفٍ يمشي في وضح النهار.
راقبته رايلين وهو يختفي أمام ناظريها وتمتمت باستياء:
“لشخصٍ لا يعرف السحر، يبدو وكأنه يتقنه تمامًا.”
في عالمها السابق قبل تجسدها، حيث لم يكن السحر موجودًا، كانت العلوم المتقدمة تُسمّى ‘سحرًا’.
وإن كانت كلّ القوى التي تتجاوز الإدراك البشريّ تُسمّى ‘سحرًا’، فحركات محاربٍ أتقن جسده حتى بلغ الكمال يمكن عدّها سحرًا أيضًا.
وبينما كانت هذه الأفكار العابثة تدور في رأسها، لمعت في ذاكرتها ومضة غامضة، كأنها على وشك أن تتذكّر شيئًا مهمًا.
قبل الرجوع بالزمن، كانت هناك لحظة قالت فيها كاثرين شيئًا شبيهًا بـ:
“…إذن إن فعلنا هذا… رايلين، فقط ساعديني قليلًا…”
كانت الذاكرة باهتة، لكنها تشير إلى حادثةٍ استخدمت فيها كاثرين قوّةً جسديةً لتوهم الآخرين بأنها سحر.
مهما حاولت التذكّر، لم يظهر المزيد، فتنهدت رايلين استسلامًا.
حسنًا، إن تكرّر الموقف، فربما تعود الذاكرة من تلقاء نفسها.
على أيّ حال، ما دامت تسير في طريقٍ مختلفٍ هذه المرة، فلا شكّ أن المستقبل سيتبدّل معها، شائت أم أبت.
لذلك، لم يكن عليها سوى أن تتخذ من خبرتها الماضية مرجعًا لا قيدًا.
الأهم الآن هو أن تُفعّل الكلمات المفتاحية الكبرى في ش.م.ت بذكاءٍ طوال مسار القصة.
فهناك كلمات لا يمكنها تغييرها، لكنها تملك أثرًا بالغًا في المستقبل.
ندم العائلة وندم البطل.
‘أن يندم بعد أن يرى تغيّر كاثرين؟ لا… هذا لا يكفي.’
لا يمكن أن تتركهم يندمون فحسب، بل يجب ألا يتمكنوا من التدخل في مصيرها مجددًا.
ثيرون يشعر بالفضول حيال كاثرين بعد اليوم، لكن ليس أكثر من ذلك.
وبمرور الوقت، ومع تكرار اللقاءات المصادفة، أو المتعمّدة، سيتحوّل الفضول إلى اهتمام، فإعجاب، ثم حب.
وما عليها سوى منع تلك اللقاءات من الحدوث.
لحسن الحظ، ستنشغل كاثرين في الفترة القادمة بكسب المال والابتعاد عن أسرتها، ولن تلتقي ثيرون وجهًا لوجه.
كما ستبدأ بالاحتكاك برجالٍ آخرين.
وفي تلك الأثناء، يجب أن تُبقي ثيرون بعيدًا، بعيدًا جدًا.
“أتعرفين المقولة: البعيد عن العين بعيد عن القلب؟.”
أجابت خادمتها بارتباك.
“هاه؟ بالطبع، لهذا العلاقات البعيدة صعبة، أليس كذلك؟.”
ابتسمت رايلين وأومأت.
“تمامًا.”
ثم قالت بعد أن لاحظت نظرات القلق في عيني خادمتها:
“سأرحل بعد أن أنهي هذا. اجلسي، لا داعي للأحاديث الفارغة.”
تردّدت الخادمة لحظة قبل أن تجلس بخفّة، بينما رايلين ارتشفت ما تبقّى من شايها ببطء، ترسم في ذهنها الخطة التالية.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"