رفع أيغر كوب الشاي بهدوء، وهو يراقب رايلين التي لم تفلح تمامًا في إخفاء اضطرابها.
كم مرة التقيا حتى الآن؟.
‘رايلين جروجيا، خطيبتي.’
كانت في السابق ترتجف كلّما وقع بصرها عليه، وجهها يبهت حتى يصير شاحبًا كالرماد، ولا تملك الجرأة حتى للنظر في عينيه. أمّا الآن، فهي بالكاد تلقي عليه نظرة عابرة.
واليوم، لسببٍ لا يعلمه، استدعته بنفسها إلى أحد أشهر مقاهي العاصمة، بل وحاولت أيضًا فتح حديث معه.
لم يكن يعلم ما الذي غيّر رأيها، لكنه رأى أنه لا ضرر من مجاراتها قليلًا.
فهو، وليّ العهد، كان قد عزم على فسخ خطوبتهما قبل أعوام.
إذ كان واضحًا أن دسائس الإمبراطور الدنيئة ستبتلع رايلين عاجلًا أو آجلًا، رغم براءتها من كل ذنب.
لم يكن ذلك بدافع الشفقة، ولا اهتمامًا شخصيًا بها، بل لأنّ وقوع مكروه لها بسببه سيؤدي حتمًا إلى شرخٍ مع أسرة جروجيا، تلك الأسرة التي حافظت على حيادها الصارم. وكان ذلك سيُعقّد أمورًا كثيرة.
غير أن دوق جروجيا، حين صارحه بالأمر، استمع إلى كلماته كاملة، ثم هزّ رأسه بثبات قائلاً:
“لا تُهِن إيمان آل جروجيا وولاءهم.”
كانت نبرته حازمة إلى حدٍّ يكاد يُثير الدهشة، ثم أضاف مبتسمًا بهدوء:
“ثم إن لآل جروجيا من القوة ما يكفي لحماية ابنتنا.”
والآن، كانت رايلين، الجالسة أمامه، تشبه والدها إلى حدٍّ مذهل.
لقد كان متوترًا بعد الهجوم الذي تعرّض له في طريقه إلى هنا، لكن معدته التي كانت تشتعل هدأت قليلًا.
ثم تبع نظراتها، فكان هو أول من كسر الصمت قائلًا:
“أليس ذاك دوق لوكارت هناك؟.”
“نعم، والسيدة الجالسة معه هي السيدة سيليون.”
“هممم.”
سواء أقنعتُ أيغر أم استبعدت فكرة التحالف معه تمامًا، عليّ التفكير أولًا.
كتمت رايلين كلماتها، وأدارت نظرها نحو الشخصين اللذين جذبا انتباه الجميع داخل المقهى.
منذ لحظة دخولهما، خيّم صمت غريب على المكان.
بعض الحاضرين راقباهما علنًا مثلها، وبعضهم اختلس النظرات خلسة، وآخرون تظاهروا بتجنّب النظر نحوهما.
لكن الجميع، بلا استثناء، كانوا يراقبونهما.
ولم يكن من المعقول أن يتجاهل ثيرون لوكارت، أحد أقوى خمسة أشخاص في الإمبراطورية، هذا الكمّ من الأنظار الموجهة نحوه.
صبر ما استطاع وهو ينتظر تقديم الشاي، لكن حتى بعدما وُضع أمامه كوب يفور بالبخار، لم يمدّ يده إليه، بل تنفّس بعمق وقال بنفاد صبر:
“هاه، ما الأمر هذه المرّة، آنسة سيليون؟.”
أطلق ثيرون تنهيدة واضحة وعقد حاجبيه.
كان واجب لقائه بخطيبته مرةً في الشهر قد أُدِّي فعلاً الأسبوع الماضي عندما لبّى دعوتها، ومع ذلك أصرت اليوم، بل أجبرته ضمنًا، على لقائها، حتى أنها لمّحت إلى تهديدات مبطّنة.
الجلوس أمام هذه المرأة كان إهدارًا لوقته، والاستماع إلى هرائها المعتاد كان أشدّ مضضًا.
بل كان ليُفضّل التفاوض مع أحد رؤساء العائلات الأرستقراطية العجائز، المملوئين دهاءً، على أن يتحمّل صحبة كاثرين.
في المقابل، كانت كاثرين تنظر إليه مباشرة، غير آبهة بإخفاء احتقارها، فيما حافظ هو على بروده المعتاد ونفوره الواضح منها.
كانت تدرك سبب ذلك؛ هكذا كان ثيرون في القصة الأصلية. سئمَ وازدرى حبّها المهووس به.
لكن فهمها للأمر لا يعني أنها مستعدة لتحمّل وقاحته، أو بالأحرى، قذارته في معاملتها.
فهي تعلم جيدًا أنه مهما فعلت، حتى لو اعتذرت عن أخطائها الماضية أو رجته الصفح، فلن يكون لها أبدًا.
وما دامت هذه المحادثة ستُنهي كل شيء بينهما، فلن تضطر بعد اليوم لرؤية وجهه المزعج عن قرب.
استذكرت المثل القائل: ‘اضرب الحديد وهو ساخن’، ثم تجاهلت كوب الشاي أمامها وقالت مباشرة:
“أرجو فسخ خطوبتنا.”
ساد صمتٌ قصير.
لم يكن صمتًا ناتجًا عن تفكيرٍ عميق، بل لأن كاثرين قالت ما عندها، في حين ظلّ ثيرون عاجزًا عن الردّ.
من يدري كم مرّ من الوقت قبل أن يهمس متجهّمًا:
“ماذا قلتِ؟.”
“أطلب فسخ خطوبتنا، يا صاحب السمو الدوق.”
حتى مع ظهور شرخٍ واضح في ملامحه الباردة، لم ترتبك كاثرين ولم ترفّ لها عين، بل أعادت كلماتها بثقة.
كاثرين القديمة، الحقيقية، كانت لترتبك وتتوتر أمام أوّل إشارة استياء منه، تسعى جاهدة لقراءة مزاجه.
أما كاثرين الحالية فلم تعُد تُبالي إن عبس أو استشاط غضبًا.
بل إنّ الغضب سيكون أسهل طريقٍ لإنهاء الخِطبة.
فهي الآن لا تملك السلطة لفسخها بنفسها.
أمام المجتمع، كانت كاثرين سيليون تُعرف بالابنة الصغرى المدلّلة لعائلة الماركيز سيليون، المفضّلة بين إخوتها، لكن الحقيقة أنها لم تكن سوى امرأةٍ بائسة نشأت في بيتٍ يعجّ بالإهانة والإساءة.
حتى خدم القصر كانوا يتهامسون بأنها ‘التهمت أمّها عند الولادة’.
وأي تفسيرٍ أكثر من هذا يلزم ليفهم المرء كيف نشأت في ذلك الجحيم؟.
كانت أولى خطواتها للهروب من ذاك المنزل المقيت هي التحرّر من خطوبتها بثيرون.
لذا، حين أدركت أنها قد تلبّست شخصية من رواية قرأتها من قبل، جعلت هدفها الأول هو التخلي عن البطل الأصلي.
“هـ… هل سمعتِ ذلك؟.”
“هل قالت حقًا… فسخ خطوبة؟ لم أكن أتوهم، أليس كذلك؟.”
“بل سمعته أنا أيضًا… قالت فسخًا!.”
كانت الشابة ابنة الكونت تحدّق بذهول، تكاد عيناها تخرجان من محجريهما، فيما وقفت الفتاتان الأخريان، اللتان كانتا قبل قليل على وشك انتزاع شعر بعضهما، كتفًا إلى كتف، تصرخان معًا: “يا للعجب!.”
تحوّل الهمس الخافت بين روّاد المقهى إلى موجةٍ من التعليقات المندهشة، ثم عاد المكان إلى سكونٍ غريب.
“فسخ خطوبة؟ يا إلهي!.”
“أيعقل أن ثيرون لوكارت والآنسة كاثرين سيليون سيُنهيان ارتباطهما؟.”
“من كان ليتخيل ذلك؟.”
وربما تخيلته معظم الفتيات غير المتزوجات في الطبقة الراقية، لكن لو سُئلن إن كان ممكنًا فعلًا، لهززْن رؤوسهن نفيًا قاطعًا.
كانت خطوبتهما اتفاقًا سياسيًا ضخمًا، عُقِد حين مدّ دوق لوكارت، أحد أعمدة فصيل الإمبراطور، يده إلى أسرة سيليون الصاعدة بسرعة في صفّ النبلاء المعارضين.
بل إن الإمبراطور نفسه كان يراقب اتحادهما عن كثب.
غير أن السياسة وحدها لم تكن سببًا في رسوخ تلك الخطوبة.
فكاثرين كانت مشهورة بعشقها الجامح لثيرون.
“ألم تكن تحبّه بجنون؟.”
:لكنّ حبّها ذاك كان مرضيًا مفرطًا في التعلق.”
كان ولعها به من الشدة بحيث لم يبقَ أحد في الإمبراطورية لا يعرف به.
فهي لم تكتفِ بإبعاد كل امرأة تجرؤ على الاقتراب منه، بل كانت مطاردتها له مضرب المثل في الإصرار والجنون.
وفي هذا المقهى ذاته، كم من شابةٍ أُهينت على يدها، شعرٌ انتُزع أو نبيذ سُكب، لمجرد أنها لامست ثيرون عرضًا!.
ومع ذلك، ها هي نفسها كاثرين، التي كانت ستتشبث به حتى لو انقلبت السماء، تطلب اليوم فسخ الخطوبة؟.
تبادل الحاضرون النظرات المرتبكة، غير مصدّقين ما يسمعون.
لكن رايلين وحدها كانت تفكر بأمرٍ مختلف تمامًا.
يا له من مشهدٍ مبتذل.
هذا النوع من المشاهد استُهلك في كل روايةٍ تدور حول «الشريرة التي تعود بالزمن» أو «تتقمص جسد شخصية أخرى».
السيناريو لا يتغير: البطلة الجديدة تتعهد بتغيير مصيرها، وترفض القصة الأصلية، وتبدأ بإعلانٍ جريء، فسخ الخطوبة من البطل الذي أهانها.
وأحيانًا، تكون هي الطرف المتروك، لكنها بدل أن تبكي وتنهار، تتصرّف وكأنها تحرّرت من عبءٍ ثقيل.
ولم تكن ‘الشريرة المتجسدة تفسخ خطوبتها’، أو اختصارًا ش.م.ت. استثناءً من هذا النمط.
فكاثرين هنا أيضًا قالت لثيرون بأدبٍ راقٍ: “ارحل عني.”
قبل يومٍ واحد فقط، كانت تختبئ في الظلال تخطّط كيف تقيّده بها إلى الأبد، فمن الطبيعي أن يرفض تصديقها الآن.
وفوق ذلك، فإن خطوبتهما كانت اتفاقًا بين عائلتين نبيلتين، لا يمكن لابنة ماركيز أن تنهيه بقرارٍ فردي.
لذلك لم يقبل طلبها.
والبقية معروفة، كل قارئٍ لروايات الحبّ كان ليتوقعها بسهولة.
فالقصة، ككلّ القصص، تنتهي بعاصفةٍ من المشاعر، ثم صعود البطلة إلى المجد، فـ’نهاية سعيدة’ كلاسيكية ومُرضية.
كان يمكن أن تكون نهاية جميلة… لو توقفت القصة هناك فعلًا.
لكنها، كما تعرف رايلين، انتهت بانحدارٍ مأساوي سببه جنون كاثرين وشكوكها، بل بمأساة كاملة.
“… هل وُجد من قبل أي تلميحٍ إلى انهيار العلاقة بين آل سيليون وآل لوكارت؟.”
قطع صوت أيغر تأملاتها، فحولت نظراتها إليه.
“من غير المعقول أن تتحدث سيدة مولعة حدّ الهوس بفسخ خطبتها، إلا إن كانت تتعرض لضغطٍ من أسرتها.”
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"