كانت رايلين تعلم أن وليّ العهد لم يكن بالوحش المجنون كما تصوّره الشائعات، لذا كان أول ما يجب عليها فعله هو كسب ودهّ.
فإن كان مهدَّدًا من قِبل الإمبراطور، فسيكون له الكثير ليكسبه من وراء جوهرة بيت جروجيا الدوقي.
وفيما كانت تُنهي أفكارها المتشابكة، قالت الوصيفة بنبرةٍ فيها شيء من التذمّر:
“لكن يا آنستي، ألم تكوني تبكين دائمًا بعد لقائه؟ كنتِ تقولين إنه مخيف!.”
“لم أعد أفعل ذلك مؤخرًا.”
كان ذلك سلوك “رايلين السابقة”. أمّا منذ أن تجسّدت في هذا الجسد، فلم ترتعد منه يومًا، ولا ذرفت دمعةً خوفًا منه.
ثمّ إن الوقت لم يكن مناسبًا لترفّ التذمّر أو انتقاء المواقف. فسواء كان الطعام دافئًا أم باردًا أم بايتًا، لا بد من أكله حين يحين وقت الحاجة.
فتحت الوصيفة فمها لتقول شيئًا آخر، لكن السائق أعلن في تلك اللحظة:
“لقد وصلنا يا آنسة.”
وجهت رايلين نظرةً حازمةً لوصيفتها، تحمل في طيّها أمرًا صامتًا: لا مزيد من الكلام. ثم أخذت نفسًا عميقًا.
لقد حان وقت مواجهة كاثرين، والبطل ثيرون، الذي عانى من أوهامها، وأيغر، الشرير الذي سيغدو حليفها القادم.
إنها بداية الحكاية الحقيقية لـ ش.م.ت.
—
في قلب العاصمة، عند أكثر المواقع رواجًا في الإمبراطورية، وقف مقهى فاخر ذو طابقين، يجتمع فيه النبلاء لاحتساء الشاي والقهوة وتذوّق الحلويات الفاخرة، متأنقين بابتساماتٍ مصقولةٍ في حربٍ اجتماعيةٍ بلا سيوف.
وفي إحدى الزوايا المميزة داخل ذلك المقهى، جلست ثلاثُ شاباتٍ من بيوتٍ نبيلة، يتبادلن الأحاديث التي تخفي وراءها المنافسة.
“حقًا؟ أهذا ما حدث؟!.”
اتسعت عينا ابنة الكونت ذات الملامح الهادئة حتى بدت أكثر برودًا مما كانت عليه.
“نعم، كان عليكِ أن تريه بنفسكِ! آه، ليتني لم أسافر إلى الجنوب حينها! ما الفائدة من منزل عطلاتٍ جديد؟!.”
قالت ابنة أحد النواب بلهجةٍ متعالية، وهي ترفع فنجانها بخفةٍ متصنعة.
ضحكت الثالثة، وهي ابنة نائبٍ آخر لا تملك عائلتها نفوذًا كبيرًا لكنها تتمتع بعلاقاتٍ مع الأسرة الإمبراطورية، وقالت بصوتٍ مرتجف:
“ههه، في الحقيقة… رأيته! صدفةً بالطبع، ههههه.”
رفعت ابنة الكونت حاجبها، وقد لفت انتباهها السوار الذي يلمع في معصمها.
“آه، ما أجمل هذا السوار يا سيدتي!.”
ضحكت الأخرى بخفةٍ مصطنعة، ولوّحت بمعصمها في فخرٍ ظاهر:
“عينكِ دقيقة كعادتكِ، لا عجب وأنتِ من أسرةٍ عريقة! هذا السوار أهدته لنا الأميرة الراحلة بنفسها تقديرًا لجهد أختي. إنه أثمن بكثير من… مجرد بيت عطلات.”
كانت كلماتها متعمّدة، تقطر استفزازًا.
تجهمت الأخرى وردّت بسخريةٍ باردة:
“حقًّا؟ غريبٌ أنه لا يليق بكِ إذن.”
اشتعلت الشرارة، فارتفع صوت الأولى وهي تهز معصمها المغطّى بالجواهر:
“ماذا قلتِ؟!.”
انكمشت ابنة الكونت بينهما في حرجٍ داخلي: ها نحن نبدأ من جديد…
كانت كلتاهما راقيتين منفصلتين، لكن جمعهما معًا لا ينتج سوى صراعٍ طفوليٍّ على المكانة.
شجعتها عائلتها على مصادقتهما من أجل المنفعة الاجتماعية، لكنها الآن تمنت لو تستطيع الهرب. ومع ذلك، لم يكن هذا الوقت مناسبًا للتدخّل، فقد تعلمت من التجارب السابقة أن أي محاولة تهدئةٍ ستنقلب ضدها.
لذا، بدأت تبحث بيأسٍ بعينيها في أنحاء المقهى عن موضوعٍ جديدٍ تُحوّل إليه دفة الحديث.
لكن المكان كان يعجّ بالوجوه المألوفة من علية القوم، ولا أحد جديد يمكن أن يصنع تشتيتًا مفيدًا.
وكلما خابت نظراتها أكثر، اشتدت حدة أصوات الفتاتين كأنها ورق صنفرة يحتكّ بخشبٍ جاف…
حتى فُتح باب المقهى، ودخل رجلٌ وامرأة.
“…هل تسمعينني؟.”
“انتظري، انظري إلى هناك.”
استدارت إحداهنّ متبرّمةً، لتجمد ملامحها فجأةً بدهشةٍ صامتة.
“ماذا؟ ما الأمـ—.”
لكنها لم تُكمل.
اختفى الضجر من وجهها تمامًا، وحلّت مكانه الدهشة، والصدمة، والفضول، والافتتان.
كانت رايلين تراقب المشهد من بعيد، وقد بدت الكلمات التي تحوم فوق رؤوس الجالسين أمامها واضحة: مفاجأة، دهشة، إعجاب، فضول…
قبضت على فنجانها بقوة، محاولةً أن تُبقي يدها ثابتة.
من موقعها المميز في المقهى كانت ترى كل شيء، لكنها كانت مخفية عن أنظار الجميع تقريبًا.
ورغم ذلك، شعرت بتوترٍ في معدتها كلما فكرت أن كاثرين قد تلمحها. راحت كفّاها تتعرقان، وأنفاسها تتسارع.
كان هذا صباح اليوم الثالث بعد عودتها بالزمن.
وفي التوقيت والمكان ذاته من حياتها السابقة، رأت كاثرين مجددًا.
وفقًا لأحداث ش.م.ت، كان من المفترض أن تشهد رايلين مصادفةً فسخ خطوبة كاثرين سيليون وثيرون لوكارت.
يومها، كانت الابنة الوحيدة الضعيفة لدوق جروجيا، التي نادرًا ما يُسمح لها بالخروج من المنزل، تقع في أسر سحر كاثرين وجرأتها.
ربما كانت مشاعرها حينها مطابقة لما ورد في الرواية، لا تذكر تمامًا، لكن الأمر بدا منطقيًا.
قبل تجسدها في القصة، كانت رايلين قارئةً لتلك الرواية، والقراء بطبيعتهم يميلون إلى حب البطلة… إلا في الحالات النادرة.
أما الآن؟ فالحب كلمةٌ تثير سخرية مريرة.
فبعد أن منحت كاثرين قلبها، وإخلاصها، وكل ما تملك، ثم قُتلت على يديها، لم يبقَ من أي حبٍّ سوى رماد بارد.
كان توترها الآن لا علاقة له بالعاطفة، بل بالخطر الحقيقي الذي تمثله كاثرين، وبالجنون الذي تعرفه عنها أكثر من أي أحدٍ آخر.
ثبتت بصرها على الطاولة التي تجلس عندها كاثرين مع ثيرون…
حين اخترق سمعها صوتٌ أجشّ خافت، يشبه احتكاك الحديد بالحديد:
“ها أنتِ هنا إذن.”
قبل أن تتمكن من الالتفات، كان المقعد المقابل لها قد امتلأ.
شعرٌ أسود كالليل المنصهر، منسدلٌ قليلاً على جبهةٍ ملساء، وحاجبان متناسقان فوق عينين بلون بحرٍ عاصفٍ مظلم.
نظرته نصف المنخفضة، وأنفه المستقيم، وابتسامةٌ بالكاد تلوح في طرف شفتيه. جميعها حملت هالةً خطيرةً، لكنها آسرة.
هل كان تأثير اللقاء بعد طول غياب؟.
أم لأن هذا الأيغر لم يتحول بعد إلى الشرير الذي تعرفه؟.
كانت الهالة من حوله حادة، لكنها لم تخلُ من جاذبيةٍ غامضة.
“الآنسة جروجيا.”
“سموكَ، وليّ العهد.”
أجابت بسرعةٍ شبه مذهولة، وهي تكبح غريزتها على أن تنهض لتحييه بانفعال.
أومأت بتحيةٍ رسمية قصيرة، فراقبها أيغر بهدوء، ثم جال بنظره على المكان وقال ببرود:
“مرّ شهرٌ، أليس كذلك؟.”
“نعم، يا سموّك.”
“إذن نقضي الوقت كما اعتدنا.”
كلمة “كما اعتدنا” تعني عنده: الجلوس صامتين متقابلين حتى ينقضي اللقاء.
كادت تجيبه بالإيجاب، لكنها توقفت.
إن كانت تريد كسبه، أو على الأقل عقد اتفاقٍ معه، فعليها أن تفهم ما يريد.
والصمت لن يقرّبها من ذلك.
فرغم أنهما التقيا مراتٍ عدّة بوصفهما خطيبين، إلا أنها تعرف عنه القليل جدًّا.
فلتبدأ بأمرٍ بسيطٍ ومحايد.
“الجو جميلٌ اليوم، ففكرتُ أن المكان الخارجي سيكون مناسبًا.”
“أفهم.”
لم يتجاهلها، وذلك في حد ذاته تقدّم.
اختفى القلق من أن يُعرض عنها كليًا، وخفّضت رايلين بصرها قليلًا، تتأمله من أعلى رأسه حتى أطراف أصابعه.
عادةً ما يلي الحديث عن الطقس تعليقٌ عن المظهر، الملابس، أو الزينة.
لفت انتباهها نقطةٌ حمراء صغيرة على شحمة أذنه.
لمعانها الخافت دلّها على أنها ليست حجرًا كريمًا، بل أشبه بقطعة حجرٍ خشنٍ مثبّتة في قرطٍ بسيط.
هل كانت أداةً سحريةً واقية؟.
أيغر كان مهددًا مرارًا من شخصٍ واحدٍ فقط، الإمبراطور.
لكن لما كان قويًا إلى هذا الحد، لم يُعرف عنه أنه يعتمد على أدوات الحماية.
لم تجد شيئًا آخر لتعلّق عليه، فقالت وهي تحاول تجاهل ربطة عنقه المفكوكة قليلًا وملامح عنقه البارزة:
“قرطك مميز… حجرٌ لا يلمع؟.”
“قرطي؟.”
“نعم، في أذنك…”
أشارت إلى أذنها اليسرى بعفوية، فابتسم بخفّةٍ غامضة.
مرّر أصابعه على شحمته، فامتدّت النقطة الحمراء في خطٍّ رفيعٍ باهت.
“ظننت أني مسحتها، يبدو أنني تركت أثرًا… فراشةٌ اقتربت مني أكثر مما ينبغي قبل أن آتي.”
تجمدت كلماتها.
أفضل ما استطاعت فعله هو أن تغلق فمها وتمنع نفسها من السؤال الأحمق: مسحت ماذا؟.
بقعةٌ تختفي… وفراشة؟.
لقد تعرّض لمحاولة اغتيال.
وما حسبته قرطًا لم يكن سوى أثر دمٍ جاف.
يا لسوء بداية الحديث.
لكن رغم ارتباكها، لاحظت شيئًا آخر: لم يكن في ملامحه غضب، ولا ضيق، ولا نفور.
منذ دخوله المقهى، لم تحط به سوى كلمتين: ملل، وسأم.
ما زالت الفرصة قائمة، وإن كانت تضيق.
رمقت بخفةٍ الطاولة التي تجلس عندها كاثرين وثيرون، قنبلةٌ موقوتة ستنفجر قريبًا، ثم قررت أن تكون أكثر جرأة.
“هل هناك شيءٌ يشغلك مؤخرًا يا سموّك؟ أو ربما… شيءٌ ترغب فيه؟”
سؤالٌ مباشرٌ وربما فظّ، لكنها لم تستطع أن تقول: هل ترغب في الإطاحة بالإمبراطور؟ أيمكنني مساعدتك؟.
غير أن الحياة لا تسير كما نخطط دائمًا.
أجاب ببرودٍ خالٍ من أي انفعال:
“لا أدري.”
جفّ حلقها من الجفاف.
كان يجيبها، نعم، لكنه بقي متبلّد النظرة، غارقًا في الملل.
هل هذه النهاية؟.
إن لم يكن أيغر الحليف الذي تبحث عنه، فمن عساه يكون؟.
كانت غارقةً في التفكير، حتى فاتها أن ترى الكلمة الصغيرة التي لمعت فوق ملامحه للحظةٍ قبل أن تختفي.
—اهتمام.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"