“آنستي، هل أنتِ متأكدة أنكِ بخير؟.”
“نعم.”
“ولكن خروجكِ في هذه الحالة مُرهق لجسدكِ…”
حاولت الوصيفة المخلصة إقناع رايلين بالبقاء في الفراش، لكن الأخيرة نهضت بثباتٍ وحزم.
“أحتاج إلى تغيير الجو.”
كانت نبرتها حاسمة على نحوٍ لم تعهده الوصيفة من قبل، فابتلعت أنفاسها وتنهدت، ثم أسرعت في تجهيز ما يلزم للخروج.
وحين خرجت رايلين من الغرفة، سألتها قائلة:
“هل أوصلتِ الرسالة؟.”
“نعم، بالطبع. أرسلتها إلى قصر وليّ العهد فور أن سلمتِها إليّ، وقد أكد مساعده استلامها بنفسه.”
“جيد. وهل وصل ردٌّ منه؟.”
“لم يصل، يا آنستي.”
أومأت رايلين بتفهم، كما لو كانت تتوقع ذلك مسبقًا.
بينما كانت العربة تشق طريقها عبر شوارع العاصمة المزدحمة، عادت أفكار رايلين إلى الاستنتاج الذي وصلت إليه بعد يومين من التفكير العميق.
تجسد، ثم عودة بالزمن… هذه كانت حياتها الثالثة.
سواء أكانت حقيقة موتها مرتين ومنحها فرصةً ثالثة نعمةً أم لعنة، لم تكن تعلم، ولم تشأ أن تغرق في تأملٍ فلسفي لا طائل منه.
كان همّها الوحيد: كيف تعيش هذه الحياة؟.
في حياتها السابقة، التزمت تمامًا بخطّ القصة الأصلية.
كانت تأمل أنه حين تنتهي الرواية، ستنال حريتها أخيرًا، لكنها في الوقت نفسه لم تجد سببًا لتغيير مجرى الأحداث.
لم تكن نهايتها في القصة مأساوية أصلًا، بل على العكس. بوصفها الحليفة الأقرب للبطلة المتجسدة، كان قدرها أن تمضي في طريقٍ ممهّدٍ بالزهور.
لكنها لم تكن تعلم أن تلك النهاية ستكون كارثة.
فقد انتهت حياتها السابقة بموتٍ مأساوي، ثم وُهبت لها هذه الحياة الجديدة كمنحةٍ من السماء.
ولذلك، كان من الطبيعي أن تتخلّى الآن عن فكرة اتباع القصة الأصلية.
وكان أول ما قررت التحقق منه هو: هل ما زالت أحداث القصة الأصلية تتحكم في هذا العالم أم لا؟.
لكن بعد أن استعرضت حياتها السابقة، أدركت أن تلك القوة، إن وُجدت، لم تكن قوية بما يكفي لتقيّدها.
فكم من شخصٍ نُقل إلى عالم رواية يستطيع أن يتذكّر تفاصيلها كلها بدقةٍ مطلقة؟.
فقط أصحاب القدرات الخاصة يمكنهم ذلك. أولئك الذين لا ينسون شيئًا قط، أو القادرون على استدعاء الرواية الأصلية في أذهانهم كما لو كانوا يقرؤونها مجددًا، أو أولئك المهووسون بها إلى درجة أنهم قرؤوها مئات المرات حتى حفظوها عن ظهر قلب.
أما رايلين، فلم تكن سوى قارئةٍ عادية.
كانت تتذكر الخطوط العريضة وبعض الأحداث الرئيسية فقط، وحتى تلك لم تكن سوى استنتاجاتٍ مبنية على حياتها السابقة أكثر منها ذكرياتٍ دقيقة للرواية.
وفي حياتها الماضية، رغم أنها التزمت بمسار القصة، فإنها لم تكن مطابقة تمامًا لـ’رايلين جروجيا’ في الرواية الأصلية، ومع ذلك سارت الأحداث كما يجب.
وهذا يعني أن تأثير القصة الأصلية لم يكن مطلقًا ولا مسيطرًا بالكامل.
بعد أن قررت التحرر منها، وجدت أمامها خيارين لا ثالث لهما.
الخيار الأول: الهرب تمامًا من القصة.
ولم يكن ذلك صعبًا. فالرواية الأصلية لم تكن تتناول دمار العالم ولا حربًا كبرى بين الأمم، بل مجرد صراعاتٍ داخل الإمبراطورية الرينهارتية.
فلو غادرت حدود الإمبراطورية، فستكون حرة.
في تلك المرحلة، لم تكن قد التقت كاثرين بعد، ولم تتورط في أي حدثٍ محوري، لذا كان بوسعها المغادرة في أي وقت.
كانت الابنة الوحيدة المحبوبة لدوق جروجيا، لكنه، بسبب ضعف صحتها، كان قد قرر بالفعل تبنّي أحد أقربائه الأكفاء كوريثٍ للأسرة.
بمعنى آخر، حياتها المرفهة كانت مضمونة سلفًا.
في ظل تلك الظروف، كان بإمكانها أن تنأى بنفسها عن القصة الأصلية تمامًا، وتعيش أيامًا هادئة مريحة بعيدة عن الدراما والشخصيات الكبرى.
لم تكن مسألة البقاء مشكلة على الإطلاق.
ومع ذلك، اختارت رايلين طريقًا أصعب.
فمهما كان المكان جميلًا والطعام فاخرًا والمنظر بهيًا، كانت تعلم أن الراحة الجسدية وحدها لا تكفي.
قبل أيامٍ قليلة فقط، في حياتها السابقة، كانت قد منحت كاثرين كل شيء. قلبها، إخلاصها، وحتى حياتها.
وفي النهاية، قتلتها كاثرين بيديها.
كيف يمكن أن تنسى ذلك؟.
كان القول المأثور “الزمن يشفي كل الجراح” لا يحمل أي معنى بالنسبة لها.
ثم، من بين أنفاسها، خرج الاسم.
“جوليا…”
“آنستي؟.”
“لا شيء.”
لقد أفلت الاسم منها دون قصد، كتنهدٍ ثقيل.
جوليا إيفرت، البطلة الأصلية في رواية ‘الشريرة المتجسدة تفسخ خطبتها’.
لم ترتكب جوليا أي ذنب.
فهي لم تكن مثل بطلات الروايات الأخريات اللواتي يخفين خبثهنّ خلف مظهرٍ طيب أو يتصرّفن بحماقة، بل كانت طيبةً وذكية بطبعها.
صحيح أنها اصطدمت بكاثرين وثيرون أكثر من مرة، لكنها لم تتسبب في أي كارثة.
ولهذا السبب، ربما، كان دورها في الرواية صغيرًا نسبيًا.
ولو لم تُقتل على يد كاثرين، التي جُنّت بأوهام الخيانة، لكانت عاشت حياةً طيبة.
في حياتها السابقة، لم تؤذِ رايلين جوليا قط. بل لم تتورط مباشرة في أي من الجرائم التي ارتكبتها كاثرين.
كل ما فعلته أنها أدّت دورها كالحليفة الأقرب، لكنها كانت تعلم في أعماقها أن مساعدتها تلك هي التي مهدت لدم جوليا، ولدماءٍ كثيرةٍ بريئة بعدها.
كمشهدٍ من فيلمٍ، تذكّرت رايلين أولئك الذين يغسلون أيديهم بجنون بعد ارتكاب جرمٍ ما… يفركونها حتى يحمرّ الجلد، لكن أيديهم نظيفة أصلًا، لأن الدم الذي يرونه لا يراه سواهم.
ضمّت رايلين كفيها معًا ونظرت إليهما بصمت.
لم يكن هناك دم.
ولا رائحة معدنية.
ولا رغبة مجنونة في الغسل.
ومع ذلك، كانت تعلم أن يديها ملوثتان بالدماء.
قد يهرب المرء من العقوبة، لكن لا مهرب من الذنب.
ولمحو هذا الذنب، لم يكن أمامها سوى أن تتدخل في القصة الأصلية بنفسها.
أن تغوص من جديد في عالم ش.م.ت، حيث تجسدت كاثرين في جسد البطلة، وأن تضمن هذه المرة أن كاثرين لن تستطيع إيذاء جوليا إيفرت.
نعم… هدفها في هذه الحياة الثالثة كان تدمير القصة الأصلية تمامًا.
لكن عليها، قبل كل شيء، أن تبقى حيّة حتى تحقق ذلك.
منذ بدأت العربة رحلتها، لاحظت رايلين أن وصيفتها تفتح فمها لتتحدث ثم تتراجع في كل مرة، فتطلعت إليها وقالت:
“تكلّمي.”
“…هل ستكونين بخير فعلاً؟.”
“أنا بخير. أشعر ببعض الوهن فقط.”
“أنا قلقة على صحتكِ، نعم، لكنني قلقة أيضًا من لقائكِ اليوم… مع سموّ وليّ العهد.”
“آه، ذاك الأمر.”
كان ردّ رايلين باردًا ومبسطًا، مما جعل الوصيفة تضرب قدمها بخفةٍ توترًا.
“ما الذي يقلقكِ بالضبط؟ أهي الشائعات التي تصفه بأنه شيطانٌ متعطشٌ للدماء؟.”
“آنستي!.”
شهقت الوصيفة وقد شحب وجهها أكثر من سيدتها التي قالت تلك الكلمات الجريئة بلا مبالاة.
“لا أحد هنا ليسمعنا سواكِ، وحتى الإمبراطور يُلعَن من وراء ظهره.”
أسندت رايلين مرفقها إلى حافة النافذة، وسندت ذقنها على كفها، ثم تابعت بهدوء.
“بوصفه خطيبي، عليّ أن أراه مرة في الشهر على الأقل. واليوم فرصتي الوحيدة لهذا الشهر، فلا يمكنني التخلف. ثم أخبريني، هل أساء إليّ أو أذاني يومًا؟.”
ترددت الوصيفة، ثم أجابت بعد لحظة تفكير:
“لا… لم يحدث ذلك، آنستي.”
“أرأيتِ؟ ليس كما تصفه الشائعات.”
لكنها في أعماقها لم تكن متأكدة من ذلك تمامًا.
وليّ عهد الإمبراطورية الرينهارتية.
الابن الوحيد للإمبراطور والإمبراطورة الراحلة.
الشرير في رواية ش.م.ت.
كانت هناك أوصاف كثيرة له، لكن أكثرها شيوعًا: العبقري.
موهبةٌ وُلدت لتبهر العالم، لكنها في نظر الناس لعنةٌ نُبذت من السماء.
ذكاؤه اللامحدود تجاوز كل مجالٍ من مجالات المعرفة، حتى أنه هزم أحد أقوى ثلاثة محاربين على القارة وانتزع مكانه.
لكن الشائعات كانت تقول إنه نظم مهرجانًا من الدماء، يفوق ما يتخيله البشر.
نعم، تلك القصص عن طعنه الناس بأسياخٍ حديدية، وعن جمعه دماء الأطفال ليستحمّ بها أو يشربها. كلها كانت مجرد شائعات.
لم يؤكدها أحد، ولم يُثبتها دليل، لكنها انتشرت حتى صارت تُعامل كحقائق.
وبما أن وليّ العهد لم يكذّبها علنًا ولم ينفها، فقد ازدادت تضخّمًا مع السنين.
لكن السؤال هو: لماذا سمح بتلك الشائعات أصلًا؟. ولماذا لم يسعَ إلى إيقافها؟.
حتى في حياتها السابقة، تساءلت رايلين عن ذلك، لكنها لم تتعمّق في الأمر.
فأهم حدثٍ غيّر مجرى حياتها كان فسخ خطبتها من وليّ العهد، الحدث الذي ربطها بكاثرين وربط مصيرها بالمأساة.
وبعد أن انتهت تلك الخطوبة، لم يعد هناك ما يجمعها بذاك “الشرير المؤكد.”
لم تتعامل معه مباشرة قط، وكانت كل مساعدتها لكاثرين من وراء الستار.
لكن… هل كان فعلاً “شريرًا”؟.
أليس هو الشخص الذي وقف في وجه كاثرين، بطلة الرواية المتجسدة؟.
تأملت رايلين للحظة.
وليّ العهد… ربما يمكنني استخدامه.
فلا يمكن لشائعةٍ بلا أصل أن تنتشر بهذا الاتساع دون أن يكون وراءها محرّك خفي.
وبما أن سلطة وليّ العهد لا تقل عن سلطة الإمبراطور نفسه، فلا أحد غير الإمبراطور قادر على شنّ حملةٍ كهذه ضد ابنه.
ذاك الإمبراطور الجشع المتعطش للسلطة، الذي يرى في وريثه الوحيد عدوًّا سياسيًا.
وكان صراعهما العلني معروفًا لكل ذي بصرٍ وبصيرة.
وفي تلك المعادلة، كان الأضعف بلا شك هو وليّ العهد.
ورجلٌ يائس كهذا… لابد أن لديه ما يحتاجه.
وربما كانت هي بالضبط ما يحتاجه.
نعم… يمكنها أن تستعين به.
ربما كانت قادرة على مواجهة كاثرين وحدها، لكن الانتصار الكامل لا يمكن ضمانه.
ولهذا، كما فعلت كاثرين في حياتها السابقة، تحتاج هي أيضًا إلى حليفٍ قوي.
ولن يكون أي شخصٍ عادي كافيًا.
بل فقط رجلٌ مثل وليّ العهد، أيغر رينهارت، وريث العرش الإمبراطوري.
صحيح أنه في رواية ش.م.ت وفي حياتها السابقة كان لا يقل جنونًا عن كاثرين…
لكن، كما يُقال:
العين بالعين، والسن بالسن… والمجنون لا يواجهه إلا مجنون مثله.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"