حتى بعد أن استرجعتْ كلّ ما حدث قبل اختطافها، ظلّت السيدة ميفارو ساكنةً لبرهة، كأنّ الروح قد فارقت جسدها.
لم تكن تدري أين انحرفت الأمور عن مسارها.
أمالت رأسها إلى الخلف لتتأمّل معصميها المقيّدين بإحكام.
كان الشريط من حريرٍ ناعم، لكن الاحتكاك الناتج عن محاولاتها المحمومة للتحرّر ترك بشرتها محمرّة لاذعة. كما أنّ مرفقيها، المرهقين من الالتواء والشدّ المتواصل، كانا يؤلمانها بشدّة.
لكنها لم تستطع تحمّل فقدان الوعي على هذا النحو.
وبينما كانت تجمع قواها من جديد.
—طرَق، طرَق.
تبع طرق الباب صوتٌ لم تكن ترغب في سماعه أبدًا، يناديها من خلفه:
“سيدتي.”
أغمضت السيدة ميفارو عينيها بإحكام.
—
“سيدتي!.”
كانت رايلين مستلقية يصلها دفء أشعّة الشمس وتستمتع بقيلولة ذهبية، ففتحت عينيها ببطء على صوت الخادمة التي اندفعت إلى الغرفة ما إن توقّف الطرق.
“سيدتي! يا إلهي!.”
“ما الأمر؟.”
سألت رايلين وهي تُجبر جسدها المترهّل، كالعلكة الذائبة، على الجلوس. وكأنّها كانت تنتظر تلك اللحظة تحديدًا، انفجرت الخادمة بسيلٍ من الكلمات المتحمّسة:
“السيدة ميفارو وحارسها الشخصي قد اختفيا! لقد هربا معًا! يا إلهي، لم أتوقّع هذا أبدًا! حين زارتنا لم تذكر شيئًا عن الأمر! لكن ما الذي يحدث في هذا العالم؟!.”
كانت الخادمة غارقة في مشاعرها، حتى ليخُيّل أنّ كلمة «الحماسة» مكتوبة على وجهها بخطّ عريض.
واصلت الثرثرة عن كيف اختفت السيدة ميفارو وحارسها كأنّ الريح ابتلعتهما.
ومعظم ما قالته لم يكن سوى معلومات مغلوطة وتكهّنات سمعتها من هنا وهناك، لذا اكتفت رايلين بالإنصات نصف إنصات، تُدخل الكلام من أذن وتُخرجه من الأخرى، بينما كان عقلها مثقلًا بالقلق.
كانت تعلم أنّ السيدة ميفارو ستختفي قريبًا، لكنها لم تتوقّع أن يحدث ذلك بهذه السرعة.
ضيّقت رايلين عينيها، وسحقت بلا رحمة أحد «أبطال» قصة الحبّ المأساوية الفاضحة التي كانت الخادمة تسردها بحماسة:
“إذًا… تلك النظرات الغريبة لذلك الفارس قادت إلى هذه الفوضى في النهاية، أليس كذلك؟.”
لم يمضِ سوى يوم واحد، لذا كان لا يزال هناك احتمال معقول للعثور على شابة عائلة ميفارو.
لكن المشكلة كانت…
“بالمناسبة،” فتحت رايلين فمها على مهل، مقاطعةً ثرثرة الخادمة، وسألتها بنبرة عابرة، “ألم تشعري أنّ هناك شيئًا غير طبيعي فيهما أمس؟.”
“هاه؟ ماذا تقصدين؟.”
اتّسعت عينا الخادمة فضولًا، واقتربت بملامح متلهّفة.
“حسنًا، إن كانا عاشقين إلى هذا الحدّ، ألم يكن من المفترض أن تظهر بعض العلامات؟ نظرات متبادلة، مثلًا.”
“آه، هيا! كان حبًّا محرّمًا! حبًّا بلا إذن! بالطبع كانا يتبادلان النظرات سرًّا بعيدًا عن العيون!.”
لوّحت الخادمة بيديها بازدراء، كأنّ سؤال رايلين بديهيّ لا يقبل النقاش. لكنها تردّدت حين جاءها ردّ رايلين البارد والمقتضب:
“لم يحدث ذلك.”
راقبت الخادمة مزاج سيدتها بحذر، ثم سألت بتردّد:
“ولا مرّة واحدة؟.”
“كان الفارس يحدّق في السيدة ميفارو بإخلاصٍ مفرط. حماسة لا تليق بعيني مجرّد مرافق.”
“أرأيتِ! كنت أعلم!.”
أشرق وجه الخادمة من جديد، لكن رايلين هزّت رأسها نفيًا.
“لكنّ السيدة نفسها لم تفعل. لم تنظر إليه إلّا حين كانا يتحدّثان مباشرة.”
“هذا… أمم…”
تردّدت الخادمة، عاجزة عن دحض كلام رايلين صراحةً، إذ لا يحقّ لها مجادلة سيدتها مهما خالفتها الرأي.
أشارت رايلين إليها بيدها.
“أرسلي هذه الرسالة إلى قصر ميفارو.”
كانت قد كتبت الرسالة على عجل أثناء حديثها مع الخادمة، فناولتها إيّاها وأضافت بحزم:
“يجب أن تُسلَّم في أسرع وقت.”
ورغم دهشتها من الأمر المفاجئ، أومأت الخادمة بإخلاص وغادرت الغرفة أسرع بكثير ممّا دخلتها.
وبينما أسرعت الخادمة لإيصال الرسالة، غرقت رايلين في أفكارها.
“أين يمكن أن يكونا؟.”
بينما كان الجميع يتناقلون قصة هروبٍ رومانسي، كانت رايلين وحدها تشكّ في أنّ السيدة ميفارو قد أُختُطفت على يد فارس مرافقتها.
“لو كان ذلك الفارس يحبّها حقًا، لما أخذ سيدة نبيلة وتركها في مكانٍ موحش. ربما في فيلّا نائية… لا. فارسٌ كهذا لا يمكنه امتلاك فيلّا سرّية تُفلت من ملاحقة عائلة نبيلة بأكملها.”
وكان من الحتمي أن تنجرف أفكارها نحو كاثرين.
“لو كانت كاثرين، لامتلكت واحدة أو اثنتين من تلك الفيلات بسهولة.”
توقّفت رايلين عن التمتمة، وزفرت وهي تضغط على صدغيها.
قبل عودتها بالزمن، كانت كاثرين قادرة على امتلاك عشرات الفيلات من هذا النوع دون تردّد.
لكن كاثرين الآن مختلفة.
بالكاد تملك ما يكفي من المال ليُعتدّ به، فضلًا عن امتلاك فيلّا.
ثم إنّها لا تملك سببًا يدفعها لمساعدة فارسٍ مغمور، لا يميّزه سوى خدمته السابقة لعائلة سيليون.
استبعدت رايلين فرضية الفيلّا، وغيّرت مسار تفكيرها.
أين يمكن لفارسٍ أن يحتجز شخصًا بعد اختطافه؟.
جاءها الجواب سريعًا.
“الأزقّة الخلفية.”
ذلك الجزء من العاصمة الإمبراطورية حيث تتركّز كلّ عتمتها.
مكان يعجّ بالمجرمين، والإرهابيين، والمحرّضين، والمحتالين.
إن كان هناك موضع يستطيع فيه فارسٌ عادي إخفاء شخصٍ واحد دون أن يلاحظه أحد، فسيكون هناك.
وطبعًا، حين قالت «أحد»، لم تكن تقصد المخبرين المنتشرين في تلك الأزقّة. أولئك كانوا سيعلمون حتمًا.
“المشكلة أنّني لا أستطيع مقابلة هؤلاء بنفسي.”
لم يكن ما تعرفه رايلين عن الأزقّة الخلفية سوى شذرات سمعتها من كاثرين قبل عودتها بالزمن.
“التعامل مع أهل الأزقّة؟ أليس ذلك خطرًا؟.”
“ما دام الثمن واضحًا، فلن يخونوكِ. الذهب، بالنسبة لهم، عقيدة أقوى من أيّ حاكم.”
المال لم يكن مشكلة.
كونها الابنة المدلّلة لدوق جروجيا، كانت الثروة في متناول يدها.
لكن هل يكفي أن تدخل الأزقّة حاملةً الذهب لتحصل على معلومات موثوقة؟.
هل تترك الأمر لروير…؟.
لا. إن أمرته، فسيتحرّك بنفسه. وإن أدّى ذلك إلى مواجهة مع كاثرين…
“مستحيل.”
عضّت رايلين باطن خدّها، وأطلقت زفرة طويلة.
في النهاية، لم تستطع حلّ الأمر وحدها.
لم تكن بطلة رواية تملك حدسًا تحقيقيًا خارقًا، ولا قائدة فرقة نخبوية تعثر على المفقودين بكلمة واحدة.
لم يكن أمامها خيار سوى التعاون مع الآخرين لإنقاذ السيدة ميفارو.
لكن حين رأت أنّ حتى الخادمة التي رافقتهما طوال الزيارة كانت تتحدّث بحماسة عن «ثمرة الحب» وما شابه، أدركت أنّ إيصال وجهة نظرها سيكون شاقًا.
“السيدة ميفارو لا بدّ أن تكون بخير.”
عبست رايلين، وأطلقت زفرة أخرى وهي تحاول استنتاج حليفٍ مناسب، لكنها، كما توقّعت، اصطدمت بطريقٍ مسدود.
“هاه!.”
قرأت رايلين سريعًا الأسطر القليلة، التي بالكاد تستحقّ أن تُسمّى رسالة، والمختومة بختم الكونت ميفارو، ثم أطلقت ضحكة جوفاء.
رغم الصياغة الأنيقة، كان المعنى واضحًا تمامًا.
“لا تتدخّلي في الشؤون الداخلية؟.”
كانت آخر من كان مع السيدة ميفارو قبل اختفائها.
ومع ذلك، لم يرغبوا حتى في سماع ما لديها لتقوله؟.
في تلك اللحظة، أدركت رايلين خطورة الوضع.
“إذًا… لقد أسرعوا في الخطوبة فعلًا بسبب تلك الشائعة.”
لم تكن تعلم متى بدأت، لكن الشائعة انتشرت على نطاق واسع، حتى بات الجميع يعرفها، ما يفسّر سعي عائلة ميفارو المحموم لتزويجها سريعًا.
“لم أرد تصديق ذلك، لكنهم يقولون إنّ الشكّ قد يكون قاتلًا.”
حتى عائلتها، التي كان ينبغي أن تكون الأكثر يأسًا لإنقاذها، صدّقت الشائعة السخيفة عن علاقتها بفارسها.
بهذا المعدّل، ستظلّ السيدة ميفارو ضحية اختطاف، بينما يتذكّرها الجميع على أنّها «عاشت حبًّا»، ثم تُنسى ببطء.
“هل يُعقل أنّ كاثرين قد تحرّكت بالفعل؟.”
منطقيًا، وبما أنّها كانت محجوزة في قصر سيليون، لم يكن ينبغي أن تتمكّن من فعل شيء. لكن بصفتها بطلة هذا العالم، لم يكن هناك ما تعجز عنه.
فحين يكون الأمر ممتعًا بما يكفي، يستطيع البطل أحيانًا تجاهل المنطق وجعل أكثر الأمور غرابة تبدو معقولة.
ربما فعلت شيئًا جعل عائلة ميفارو تفقد صوابها وتصدّق الشائعة…
“لا، هذا مستحيل. حتى هي لا يمكنها ترتيب كلّ هذا بهذه السرعة.”
حين سمعت الشائعة أوّل مرّة، كانت الخادمة قد قالت:
«الشائعة موجودة منذ زمن. لكن أليست مثل هذه الأقاويل شائعة بين النبيلات وفرسانهن؟ في هذه الحالة، حين انتقل الفارس إلى عائلة أخرى، أضاف الناس أنّه فعل ذلك بدافع الحبّ، فانتشرت القصة أكثر.»
أي أنّ الشائعة وُجدت حتى قبل أن تتقمّص كاثرين جسدها الجديد. لكنها، بخلاف غيرها، لم تخمد مع الوقت، بل ظلّت متشبّثة بالوجود.
خدشت رايلين طرف الرسالة بعصبية، حتى بدأ رأسها يؤلمها من شدّة التفكير.
لم تتلاعب كاثرين بالشائعة مباشرةً.
لكن بعد اختفاء السيدة ميفارو، استولت كاثرين على أكثر المناجم استهانةً بقيمته، وسجّلته باسمها.
لم تكن هناك صلة مباشرة بين كاثرين والسيدة ميفارو، لكن التحقيق كشف أنّ فارسها كان مسؤولًا عن حماية السلالة المباشرة للعائلة، قبل أن يُطرد من سيليون.
إن كان الأمر اختطافًا لا هروبًا، حتى في حياتها السابقة…
“ذلك الفارس الوغد لا بدّ أنّه عقد صفقة.”
لم تكن تعلم كيف تمّ الاتفاق بينهما، لكن ذلك لم يكن مهمًّا.
الحقيقة هي أنّ كاثرين استدرجت فارسًا أعمته مشاعر الحب، الهوس بالأحرى، واستخدمته لتحقيق مكاسبها.
حتى إن لم توفّر له قصرًا فخمًا، كان واضحًا أنّ بينها وبينه صلة ما.
“لن أسمح لتلك المجنونة بأن تنال مرادها.”
تلألأ عمقٌ أخضر داكن في عيني رايلين، تتّقد فيه نارٌ باللون ذاته.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"