“إن كان هناك ما يثقل صدركِ، أفلا تودّين مشاركته؟ حتى وإن لم يكن له حلّ، فإن مجرّد البوح قد يخفّف العبء.”
“هاها… آه. أتظنين ذلك؟.”
تردّدت السيدة ميفارو قليلًا، ثم بدأت تتحدّث أخيرًا.
“لقد أحرجت نفسي بكثرة الشكوى في رسائلي.”
“تقصدين أمر خطوبتك؟.”
“نعم… آه.”
تنهدت السيدة ميفارو بعمق، وحدّقت في فنجان الشاي الفارغ بين يديها، ثم تابعت:
“كما ذكرتُ لكِ، كلّ شيء يجري بسرعة تفوق قدرتي على الاستيعاب. وبصراحة، لا أجد خطيبي جذّابًا على نحو خاص.”
‘إذًا، من الذي يجذبكِ؟ الحارس؟.’
كتمت رايلين الكلمات التي كادت تفلت منها، واكتفت بالإيماء برأسها.
“لا يوجد ما يستدعي رفضه صراحةً. لا تحيط به شائعات مريبة، لذا فهو على الأرجح رجل لا بأس به. عائلته محترمة، وأظنّ أن كبار العائلة اختاروه بعناية.”
ومع ذلك، ظلّت ملامح السيدة ميفارو مشدودة، ولم يهدأ عبوسها.
“وربما هو يشعر بالأمر نفسه. أفهم ذلك. نحن نعيش حياة مرفّهة، ومع الامتياز تأتي المسؤولية. لكن رغم ذلك، لو منحوني بعض الوقت لأتهيّأ نفسيًا على الأقل…”
أومأت رايلين بهدوء بين الحين والآخر، مكتفية بإشارات صغيرة تشجّعها على الاسترسال، تاركةً لها مساحة للحديث بحرّية.
“آه… شكرًا لكِ جزيل الشكر على هذا اليوم.”
وحين انتهى حديثهما، كان ضوء الشمس المائل قد بدأ يفسح المجال لوهج المساء.
ورغم أنّها لم تفعل سوى التنفيس عن همّ لا تملك له حلًا، كما اقترحت رايلين، بدت السيدة ميفارو أخفّ روحًا بشكل ملحوظ، كأن عبئًا أزيح عن كتفيها.
والكلمات الطافية إلى جوارها، «مرتاحة» و «منتعشة»، لم تترك أي مجال للشك في حالتها النفسية.
أمّا رايلين، فكانت على النقيض تمامًا، تشعر بالإحباط.
“لِنذهب إلى الرماية معًا في المرّة القادمة.”
كانت جملة قد تُربك أي شخص ثالث يسمعها، لكن السيدة ميفارو نطقت بها بابتسامة مشرقة ولوّحت بيدها بمرح.
وأثناء توديعها، تملّك القلق من رايلين.
لو أنّني أستطيع التأكّد فقط، هل هذا الحب متبادل أم من طرف واحد؟.
وكأن السماء أدركت ضيقها، ففي تلك اللحظة تحديدًا، التقت عينا السيدة ميفارو بعيني فارسها المرافق، وهو يجمع أسلحتها ومتعلّقاتها.
اتّسعت عينا رايلين، وركّزت انتباهها على الكلمات التي طفت بجوارهما.
—حب، حماسة، توتّر، فرح، ترقّب، قلق، خوف، رغبة.
عددٌ مذهل من المشاعر ظهر واختفى إلى جوار الحارس.
لكن إلى جوار السيدة ميفارو، لم يبقَ سوى كلمتين.
—مرتاحة، منتعشة.
وهما ذات الكلمتين اللتين لازمتاها منذ أن فرّغت همّ خطوبتها.
ماذا؟ أمعقول أنّ السيدة ميفارو لا تشعر بشيء تجاه حارسها؟ ولا حتى اهتمام؟.
تحوّل الشكّ إلى يقين.
كانت شائعات الحب العارم، نصف صحيحة فقط.
حبّ من طرف واحد، من جانب الحارس وحده.
ولم تعد رايلين قادرة على كبح نفسها، فسألتها مباشرة:
“السيدة ميفارو، هل تعرفين السيدة سيليون، مصادفةً؟.”
“هم؟ لا، أبدًا. لو كنت أعرفها، لما اضطررت إلى سماع خبر فسخ خطوبتها منكِ.”
سألت رايلين تحسّبًا، فجاء الجواب كما توقّعت.
لم تكن هناك أي صلة بين كاثرين والسيدة ميفارو.
لكن، كيف تورّطت في اختفاء الشابة قبل عودتها بالزمن؟.
“آه، حارس الشخصي من عائلة سيليون.”
“فهمت.”
آه، إذًا الرابط مع كاثرين هو حارسها الشخصي!.
حبّ غير متبادل، هروب صُوِّر على أنّه اختفاء، خطوبة متعجّلة، ثم كاثرين.
تشابكت قطع اللغز في ذهنها، مكوّنة صورة ناقصة.
نظرت رايلين لا إراديًا إلى الفارس والسيدة ميفارو، ثم ابتلعت ريقها بصعوبة.
هل يعقل أنّ فارس المرافقة اختطف السيدة؟.
ثم زيّن الأمر على أنّه هروب ينسجم مع الشائعات؟.
لا، هذا مستبعد. بعيد جدًّا عن المنطق.
مهما كان أعمى بالحب، فلن يقدم على فعلٍ بهذه الجنون.
ومع حفاظها على تماسك ملامحها، راحت تراقب الحراس عن كثب.
يجب أن أراقب تحرّكاته.
لكنّ عزمها هذا فقد معناه بعد ساعات قليلة فقط.
ففي صباح اليوم التالي، وبعد عودة السيدة ميفارو إلى منزلها، انتشر خبر اختفائها مع حارسها الشخصي.
—
“أطلق سراحي، أطلق سراحي.”
كانت السيدة ميفارو تهمس بالدعاء بصمت، وهي تحاول عبثًا إرخاء الحبل الذي قيّد معصميها.
لكن مهما شدّت والتوت، لم تحصد سوى ألمٍ في يديها، لم يُبدِ الحبل أي علامة على التراخي أو الانقطاع.
أسقطت ذراعيها بيأس، وحدّقت شاردة في السقف الغريب فوقها.
كيف آل بي الحال إلى هذا؟.
أغمضت عينيها الجافتين، واستعادت ما جرى قبل يومين.
في ذلك اليوم، كانت في مزاجٍ رائع.
صديقتها العزيزة، السيدة جروجيا، لبّت دعوتها، وللمرّة الأولى منذ زمن، استطاعت أن تنغمس في هوايتها المفضّلة، الرماية.
لم يمنعها والداها صراحةً من ممارسة الرماية، لكنهما لم يرضيا عنها. أمّا اليوم، فقد استمتعت بها دون خوف من نظراتهما.
كما أنّ حديثها مع السيدة جروجيا كان ممتعًا للغاية.
أنصتت إليها بإخلاص، وخفّفت عنها وطأة الضيق الذي أثقل صدرها.
“سأدعوكِ في المرّة القادمة أيضًا. هل ستأتين؟.”
“بالطبع!.”
لكن، متى انحرف كلّ شيء عن مساره؟.
ومع شعورها بحرقة في معصميها، عضّت السيدة ميفارو باطن خدّها.
“قلتِ إنكِ لا تريدين الخطوبة، أليس كذلك؟.”
“هم؟ نعم، إنها مفاجئة للغاية… آه.”
هل كان التنهد هو الخطأ؟ أم أنّ الخطأ الحقيقي كان أصلًا في فتح الحديث معه؟.
“سأساعدكِ.”
“تساعدني؟ في ماذا…؟.”
أمالت رأسها بحيرة، ثم انتفضت فجأةً حين…
“أرجوكِ، ثقي بي.”
وجدت حارسها الشخصي راكعًا أمامها، قابضًا على يديها بقوّة.
تجمّدت من الصدمة، عاجزة عن ردّ الفعل، لكنه لم يُبالِ. واصل همسه:
“لنهرب معًا.”
حين التقت بنظرته المتّقدة، اجتاحها ارتباك عارم.
ما الذي يقوله؟.
الهروب؟.
وبينما كانت ترفّ بعينيها، صعد الفارس إلى العربة، وأخرج حقيبة صغيرة، بدا واضحًا أنّها مُعدّة سلفًا.
“لقد أعددتُ كلّ شيء. لا تحتاجين سوى الإيماء.”
أمام يقينه الذي لا يتزعزع، تذكّرت فجأة الشائعات التي صوّرتهما كعاشقين متيّمين.
كانت قد ضحكت منها دومًا، ولم تخطر ببالها يومًا.
ظنّت أنّ الشائعات ستخبو مع الوقت، لكنها لم تفعل، بل تضخّمت وخرجت عن السيطرة.
أيمكن أن تكون… تلك الشائعات حقيقية؟.
وبينما كانت غارقة في الصدمة، غير قادرة على استيعاب الموقف، انحنى الفارس وقبّل ظاهر يدها بوقار.
“تشرّفني خدمتكِ.”
عندها فقط، كأن ماءً باردًا سُكب عليها، استعادت وعيها.
أنفاسه الدافئة على بشرتها أشعرتها بالاشمئزاز، كأن حشرة تزحف فوقها، فسرت قشعريرة في جسدها.
حينها فهمت معنى الحرارة المقلقة في عينيه.
لكن، منذ متى؟ كيف؟ ولماذا؟.
تزاحمت الأسئلة في رأسها، لكن لم يكن هناك وقت للتفكير.
لم تُومئ، ولم تُبدِ موافقة، ومع ذلك ابتسم كأنّه تلقّى جوابًا، وحسم أمره.
“فهمت. فلننطلق.”
صرخت السيدة ميفارو مذعورة:
“لـ-لست أفكّر في ذلك!.”
حاولت الإفلات بكلّ ما أوتيت من قوّة، لكن قبضته لم تتحرّك قيد أنملة.
وكان الخوف قد تجاوز الحيرة.
حاولت مرّة أخرى تحرير يدها الأسيرة، لكن جسدها بدا مكبّلًا، عاجزًا عن الحركة.
“دعـ… دعني أذهب!.”
“لا تخافي، سيدتي. سأحميكِ.”
لو قال هذه الكلمات بصدق، بصفته حارسها الشخصي فحسب، لربما تأثّرت بعمق.
لكن في هذا السياق، لم تفعل سوى مضاعفة رعبها.
فتحت فمها وأغلقته دون صوت، ثم أسرعت بالكلام حين شعرت به يشدّها بعنف:
“أنا لست خائفة! أنت حارسي، أليس كذلك؟ ليس الأمر كذلك، لا أنوي الهروب—”
“أتقولين إنكِ ستتمّمين الخطوبة؟.”
قاطعها بحدّة، وملامحه قد تصلّبت.
لعقت شفتيها الجافتين، وانتقت كلماتها بعناية، متجنّبةً أي حديث عن الحب أو الرغبة، وقالت بتلعثم:
“أنا لا… لا أريد ذلك، لكنك تعلم أنّ عليّ أن أفعل. يجب أن أؤدّي واجبي مقابل حقوقي كفرد من عائلة ميفارو.”
طبق الفارس شفتيه بإحكام أمام هذا المنطق الذي لا يُدحض.
وشعرت السيدة ميفارو براحة خاطئة.
ظنّت، خطأً، أنّه فهمها.
وأضافت محاولة تهدئته:
“لا بدّ أنّ شكواي الساذجة أزعجتك. أنا آسفة—”
“كلا. سيدتي، أنتِ تستحقّين أن تعيشي بحرّية، وفق إرادتكِ.”
قاطعها بحزم قبل أن تُكمل.
كانت ملامحه مشبعة بإيمانٍ لا يتزعزع، وعيناه تتّقدان بعزمٍ صلب.
وفي تلك اللحظة، أدركت السيدة ميفارو.
مهما قالت، فلن تصل كلماتها إلى الرجل الواقف أمامها.
وحين أيقنت أنّ الإقناع المنطقي قد فشل تمامًا، حاولت تهدئة أنفاسها المتلاحقة، وتفحّص المكان.
الصراخ… لا، لا جدوى منه.
في وقتٍ ما، كانت العربة قد توقّفت.
لا بدّ أنّه رشى السائق.
وحتى لو لم يفعل، فما الذي يمنع حارسها الشخصي، الذي كان وفيًّا حتى الأمس، من أن يأمر السائق بالابتعاد لحظة؟.
وأيّ قوّة يملكها سائق بسيط ليعارضه؟.
لن يجرؤ سائق على طرق باب العربة ليسأل السيدة التي يخدمها إن كان الأمر صحيحًا.
وبينما كانت تبحث بيأس عن وسيلة للنجاة، باغتها بكفّه على فمها.
منديل مشبّع بمادّة منوّمة غطّى أنفها وشفتيها.
“سامحيني على هذا التصرّف العابر.”
وخلف أكثر نبرةٍ حيوية سمعتها منه يومًا، غاب وعيها، وغرقت الدنيا في السواد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"