“أودّ من سموّك أن تساعدني.”
‘بماذا؟ وكيف؟.’
تلك التفاصيل الجوهرية كانت غائبة تمامًا عن عبارتها.
“أنا أقدر مما أبدو عليه. يمكنني أن أكون نافعة لك.”
نظر إليها أيغر صامتًا، متأملًا ملامحها من تحت الظلال.
من منظوره، بدت كلماتها مفاجئة وغامضة، أمّا من وجهة نظرها، فقد كانت كمن تجرّأ أخيرًا على البوح بما ظلّ يختنق في صدره منذ زمن.
‘رايلين جروجيا…’
اعتدل أيغر في جلسته ببطء، مائلًا للأمام، حتى غدا أقرب إليها مما كان.
ثم قال بصوت منخفض:
“إذن أخبريني، ما الذي تظنّين أنني أريده؟.”
لقد رأت رغبة كيرتان الدفينة فورًا، واستغلّتها لتضمه إلى صفّها، ولهذا، سرت في صدر أيغر بارقة ترقّب وهو يحدّق في شفتَيها شبه المستترتين تحت حافة القناع.
ابتلعت ريقها بتوتّر، كأنّ شفرةً حادّة تلامس أسفل ذقنها.
فما يرغبه المرء ليس دومًا شيئًا يأمل الوصول إليه؛
إذ قد تكون أعنف الرغبات هي التخلّص من الضعف.
وكان آيغر بدوره يحمل تلك الرغبة.
فما يبتغيه قبل أي شيء هو ‘البقاء’. النجاة من تهديد والده…
لكن في موقعها الحالي، لم يكن بوسع رايلين أن تنطق بما يمسّ أعمق أسراره، ولا أن تقترب من جراحه التي كوتها النار وبقي أثرها غائرًا فيه.
في تلك الحالة…
فتحت شفتيها، تتداخل أنفاسها مع خيوط الظلال والضوء من حولها.
“سأُعالج أرقك.”
في تلك اللحظة، لمعت عينا آيغر باهتمام واضح، وكأنّ كلمة ‘اهتمام’ قد اشتعلت بجانبه.
“وكيف؟”
“سأستعمل كل طريقة أعرفها.”
كان الأرق رفيق آيغر منذ أن بدأ وعيه يتفتح.
فلم يعرف نومًا آمنًا، إذ كانت حياته مهدّدة في كل لحظة.
ومع أنه صار قويًّا إلى حدٍّ يستطيع معه مواجهة القتلة حتى أثناء نومه، إلا أنّ الأرق قد ترسّخ فيه حتى صار جزءًا منه.
بل إنه كان يزداد سوءًا في الآونة الأخيرة، ما يعني أنه كان يفكّر فعلًا في البحث عن علاجٍ قريبًا.
وفي رواية ش.م.ت الأصلية، كان الشرير قد لجأ إلى العقاقير لعلاج أرقه، ففقد عقله في النهاية.
لكن كيف انتهى أمر أيغر في خطّ الأحداث الأصلي قبل عودة رايلين بالزمن؟ لم تتذكّر بدقة.
كانت كاثرين وتيرون وبقية الشخصيات الثانوية هم من يتعاملون عادةً مع ‘الشرير’، لذا لم يكن لديها علم بما آلت إليه قصته حقًّا.
لكن هذه المرّة، لن تسمح رايلين أن يسقط أيغر، سلاحها الأقوى ضد كاثرين، في فخّ الإدمان.
‘لذا أرجوك، لا ترفض.’
دفعت الصندوق الصغير أمامها نحوه وقالت:
“خذ هذا أولًا، لليوم فقط.”
ثم شرحت له بحماس كيف يُفتح الصندوق، وماهية بيضة بيب الموجودة داخله.
“أتُعطيني هذا؟.”
“نعم!.”
“إنه أول هدية أتلقاها منكِ مباشرة.”
فمنذ خطبتهما، تبادلا الهدايا عبر الوسطاء وبأسمائهما فقط، لكن هذه المرة كانت الأولى التي تنتقل فيها الهدية من يدٍ إلى يد.
ابتسمت رايلين برقة وهزّت رأسها قليلًا.
“ليست هدية، بل رشوة.”
“رشوة؟.”
“نعم، لأجعلك تنظر بعين الرضا إلى اقتراحي.”
ومع أن عبارتها كانت صريحة، إلا أنّ أيغر لم يشعر بالإهانة.
بل وجد في الأمر طرافة جعلته يبتسم بخفة، حتى لو لم يكن كلامها عن الصندوق حقيقيًّا تمامًا، فما من ضرر في ذلك.
رشوة؟ كم تبدو لطيفة وهي تقولها بهذا الجديّة…
كان يدرك أنه يتساهل معها أكثر من غيرها، لكنه لم يجد في ذلك ضيقًا ولا استغرابًا.
فمن ذا الذي يقلق من أرنبٍ يمكنه ابتلاعه في لقمة واحدة؟.
ربّت بأصابعه على الصندوق بخفة.
مدّت يدها نحوه في إيماءة مصافحة وهي تقول بابتسامة خفيّة:
“هل سيساعدني سموّك؟.”
ورغم أن وجهها كان مغطّى بظلّ القناع، إلا أنه شعر كأنه يرى بريق عينيها الزمرّدتين يتلألأ بالأمل.
قال وهو يمسك يدها الصغيرة والناعمة:
“حسنًا، رشوةٌ وعلاجٌ للأرق؟ لا أرى سببًا للرفض.
سأنتظر النتيجة، يا آنسة جروجيا.”
—
“مرحبًا بعودتكِ، سيدة ميفارو.”
“مر وقت طويل. هل أنتِ بخير الآن؟.”
“نعم، أنا بخير، ولهذا دعوتكِ.”
وحين لوّحت رايلين بمسدّسها المزخرف مازحة، انفجرت السيدة ميفارو ضاحكة.
اجتمعت السيدتان في ميدان الرماية المقام في ركن من الحديقة، وتبادلا الأحاديث اللطيفة لبعض الوقت.
“يا إلهي، كنتِ حاضرةً أيضًا يا سيدتي؟.”
“نعم، صدفةً فقط.”
“إذن أخبريني بالتفصيل!.”
“ألَم تسمعي كل شيء بالفعل؟.”
“سمعت الشائعات فحسب. أحقًّا كانت الآنسة سيليون هي من طلبت فسخ الخطوبة؟.”
وانتقلت الأحاديث بسهولة من قصة كاثرين وخطبتها المفسوخة إلى هوايتهما المشتركة، الأسلحة النارية.
“كيف يسير البحث في تطوير الأسلحة؟.”
“يقال إنه لا تقدّم يُذكر.”
“حقًّا؟ هذا مزعج! لا تزال السعة القصوى أربع رصاصات فقط، والذخيرة باهظة لأنها تصنع بالسحر، وأيّ فارسٍ ماهر يمكنه تفادي الرصاصة ما لم تكن على بعد خطوة! لم تُحلّ أي من هذه العيوب بعد؟ إذن أين تذهب ميزانية البحث؟.”
أطلقت السيدة ميفارو تنهيدة متذمّرة، فأومأت رايلين موافقة وقد شاركتها الامتعاض.
وبينما تتبادلان الحديث، لاحظت رايلين خادمتها تلتفت مرارًا نحو جهةٍ معينة.
كانت على وشك أن تنهرها، لكن حين لحقت بنظرها، توقّفت فجأة.
إذن، ذاك هو الحارس الشخصي الذي تتحدث عنه الشائعات.
لم يكن وسيمًا على نحوٍ لافت، ولا يمتلك ملامح فريدة،
بل بدا فارسًا اعتياديًّا ذا بنيةٍ متينة ويدين خُشنتين اعتادتا مقبض السيف.
إلا أن إصراره على إبقاء ناظرَيه على سيدته طوال الوقت كان مثيرًا للإعجاب.
ولم يكن هذا السبب الوحيد الذي شدّ انتباهها.
إذ رأت بجانبه وهجًا قويًّا بلونٍ لا يخطئه البصر: الحب.
إذن فبعض الشائعات عن علاقة السيدة وحارسها صحيحة نصفها على الأقل.
حولت نظرها نحو ميفارو التي كانت تتفقد مسدسها.
كانت حولها هالة من الفرح والنشاط، لكن ‘الحب’ لم يكن حاضرًا.
حتى من يعيشون قصة حبٍّ حقيقية لا يحملون دائمًا هذا الشعور ظاهرًا في كل لحظة، إلا أنه يتّقد حين ينظر المرء إلى من يحبّ، أو حين يلمسه ولو لمسة عابرة.
أما الآن، فلو كان ثَمَّة حبٌّ ظاهر بجانب السيدة ميفارو، لكان موجَّهًا إلى المسدّس لا إلى الفارس.
الناس أذواقهم متباينة، وبعضهم يعشق هواياته بصدق،
لكن يبدو أنها ليست من هذا النوع.
“هل نبدأ الرماية الآن؟.”
قالت بابتسامة مشرقة، فنهضت رايلين معها برضا.
—طلقة! طلقة!.
— طلقة! طلقة! طلقة!.
لبرهةٍ لم يُسمع سوى دويّ الطلقات.
كانت الأسلحة في هذا العالم أضعف بكثير من الأسلحة النارية الحديثة، مليئةٍ بالعيوب أكثر من المزايا، ولعلّ ميزتها الوحيدة هي انخفاض صوتها النسبي.
أطلقت السيدتان رصاصاتهما السحرية في منافسة ودّية، وتوقّفتا تقريبًا في الوقت ذاته.
فمهما كان المسدس خفيفًا وقليل الارتداد، فإن التصويب الطويل مرهق لغير المتمرّسين.
قالت ميفارو وهي تتنهّد راضية بعد رشفة شاي بارد:
“آه، كان ذلك مريحًا حقًّا. كنتِ محقّة، لا شيء يبدّد الضيق مثل إطلاق النار.”
ابتسمت رايلين بهدوء وأجابت:
“يسرّني أنّه أفادكِ.”
كانت ترغب في سؤالها عن علاقتها بحارسها وعن سبب اختفائها الذي سيقع لاحقًا، لكنها كبحت نفسها.
فالعجلة قد تفسد ما يمكن إصلاحه، لذا فضّلت أن تصبر وتتحدث عن أمورٍ صغيرة بلا ضغط.
وبينما كانت تراقب ميفارو وهي ترتشف الشاي، خطر لها تساؤل غريب:
‘لماذا لم تنظر نحوه ولو مرة واحدة؟.’
فالمرء الواقع في الحب، وإن حاول الإخفاء، لا يستطيع أن يمنع نفسه من نظراتٍ خفيةٍ أو ابتسامةٍ عابرةٍ حين يلتقي بعيني محبوبه.
ورغم أن الشائعات تتحدث عن علاقة علنية بينهما، لم تلتفت الليدي نحوه ولو مرة؟.
غريب… حتى العلاقات السرّية لا تُخفى على المراقب القريب.
حتى في مكاتب العمل أو الجامعات، يظنّ العشاق أنهم يخفون حبّهم، لكن الجميع يرى ما لا يرونه هم.
ليس الجميع كذلك بالطبع، لكن الأغلب يُفضَح بحركاته.
تابعت رايلين مراقبتهما حتى وصلت إلى أكثر تفسير منطقي:
‘أيمكن أن السيدة ميفارو لا تحمل أي مشاعر نحوه أصلًا؟.’
هذا الإدراك المفاجئ أشعل سلسلةً من الأسئلة الجديدة.
‘فإن لم تكن تحبه، فكيف إذًا اختفت في الماضي؟ ألَم يقال إنها هربت معه بدافع الحب؟.’
لكن قبل أن تتشابك أفكارها أكثر، قاطعتها ميفارو قائلة بتردّد:
“أوه… آنسة جروجيا.”
“نعم؟ تفضّلي.”
ترددت ميفارو قليلًا، ملامحها متوترة كمن عقدت العزم أخيرًا.
“في الواقع، هناك أمر…”
فتحت فمها لتتكلم ثم أطبقت شفتيها ثانية، تدقّ بطرف أصابعها على حافة الكوب بقلق.
فقالت رايلين بهدوء، مشجّعةً لها، وهي تخشى أن تتراجع إن تُركت في صمت:
“إن كان هناك ما يضايقكِ، فبوحي به. حتى إن لم نجد حلًّا، الحديث أحيانًا يخفّف العبء.”
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"