96
“من تظن نفسك لتقترب من ابنتي بهذه الطريقة…؟”
كان الماركيز وابنه الأكبر على وشك أن يلتقطا الطاولة نفسها ويرمياها على ”يوت”.
‘هل يمكنني أن أوقفهما بجسدي إن لزم الأمر؟’
كنت أحسب أقصر طريق يمكنني أن أتحرك فيه لاعتراضهما، لكن الآنسة نهضت فجأة من مقعدها.
“آه بحق السماء! قلت لكم لا يوجد بيننا أي شيء!”
“لكن يا روبي…”
“قلت هذا مرارًا! لسنا على علاقة! كيف يمكن أن تخطر ببالكم فكرة كهذه؟! مع من؟ مع يوت بيلفيت؟!”
“لكن يا روبي، أنتِ–”
“وأنا أيضًا! أنا أيضًا لا أريد تقبيله!”
“…….”
“أقصد، لتعرفوا مدى استحالة ذلك!”
“…….”
“أنا! حتى لو لامست شفتيه بشفتيّ فلن أشعر بشيء! لا انفعال! لا أثر للعاطفة إطلاقًا!”
“……لا انفعال؟ أيمكن أن تكون ابنتي قد… جربت هذا مع ذلك الأحمق؟!”
“هذا ليس ما أعنيه!”
بدأت الآنسة تضرب صدرها بيديها وتخبط الأرض بقدمها غيظًا.
أما ”لابيس” الجالس في الزاوية، فكان يبدو كمن يريد الهروب إلى بيته رغم أنه فيه أصلًا.
“قلت إننا لسنا على علاقة! لا أفكر فيه أبدًا! يمكنني أن أثبت ذلك! نعم، سأثبت لكم الآن!”
“روبي، اهدئي. وكيف ستثبتين–”
“يمكنني أن أريكم في هذه اللحظة بالضبط!”
“انتظري، آنستي!”
هل لإثبات غياب المشاعر يجب أن تتبادلا القُبل فعلًا؟
لكنها كانت أسرع مني.
تقدمت بخطوتين، وأمسكت ياقة الطبيب بعنف بيديها البيضاء الباردة كالجليد.
“أخ!”
“اُغـه!”
مدّ الماركيز يده إلى عنقه من الصدمة،
وفقد وجه الابن الأكبر لونه بالكامل،
أما الابن الأصغر فظلّ متمسكًا برغبته الوحيدة: ‘أريد العودة إلى البيت.’
“لحظة! آنستي! آنستي! آنستي!”
صرخ ”يوت” بصوتٍ مبحوح، وقد أمسكته من ياقة ثوبه دون أن تدعه يفلت.
“لديّ من أحبها بالفعل!”
‘لديّ من أحبها بالفعل،’
‘لديّ من أحبها بالفعل،’
‘لديّ من أحبها بالفعل…’
—
بهذا التصريح المدوي، نجا ”يوت بيلفيت” أخيرًا من الورطة.
وبما أن عائلة ”جيفرايت” انشغلت بلمّ شملها في جوٍ من التفاهم بعد العاصفة، فقد أُطلق سراحي أنا أيضًا.
“الحمد لله، انتهى الأمر بسلام.”
“صحيح. هاها… يا لهم من عائلة حماسية.”
كانت خصلات شعره الفضي التي اعتاد تسويتها دومًا قد تشتت قليلًا.
لم يكن في الممر أحد غيرنا، فالوقت كان بين المساء والليل.
“لم أتوقع أن يساء فهمي إلى هذا الحد من عائلتها.”
“حقًا… لكنني سعيدة لأنهم صدقوا كلماتك الأخيرة على الأقل.”
“نعم، صحيح.”
كنت أعلم أننا نكرر الجمل نفسها، لكن لم أجد ما يمكن أن يُقال غيرها.
تذكّرت كيف كان ”يوت” يرفض اعترافات الحب التي تصله دومًا بنفس الجواب:
”ليس لدي نية للدخول في علاقة الآن، مع أيٍّ كان.”
لكن هذه المرة…
‘ربما قالها لمجرد الخروج من المأزق؟’
هل حقًا؟
الشخص الذي أعرفه لا يكذب لمجرد التهرب من الموقف.
حتى إن لم يبادل المشاعر، كان يواجه الصدق بالصدق دائمًا.
“آه، يوت… بخصوص ما قلته قبل قليل.”
“هاه؟ أآه، ماذا بالضبط؟”
“ذاك الكلام… الذي قلتَه… أعني…”
لم أستطع أن أنطق أكثر. كأن شيئًا لزجًا عالقًا في حلقي بدل الريق.
لم أستطع حتى أن أتلعثم، فبقيت أحدّق فيه فحسب.
كانت أشعة الغروب البرتقالية تتسلل من النوافذ العالية،
تسير مائلة عبر وجهه المرتب في لمسةٍ ناعمة:
على أطراف أذنه المتوهجة،
وعنقه،
وتحت عينيه.
“أمم… سونِت، أنا… أظن أنني سأذهب الآن.”
“آه؟ أ، أجل. إلى اللقاء.”
حتى ”يوت” الذي يتقن التحكم في تعابيره لم يستطع إخفاء حمرة وجهه هذه المرة.
تلك الليلة، لم أستطع النوم مهما حاولت أن أضع رأسي على الوسادة.
—
”لديّ من أحبها بالفعل!”
إذًا، هذه الجملة…
أليس واضحًا أن المقصودة هي ‘أنا’؟
حتى لو حاولت تحليل الموقف بموضوعية تامة دون تحيّز، فكل شيء يشير إليّ.
‘لا أحد غيري يمكن أن يكون المعنية بكلامه.’
الفكرة ساحرة لدرجةٍ تجعلها أشبه بحلمٍ جميل أكثر منها احتمالاً حقيقيًا.
لكن إن سلّمتُ بها مؤقتًا…
فكل تصرفٍ مريب صدر عنه حتى الآن يجد تفسيره المنطقي.
عندما يلمسني فيرتبك كما لو أنه لمس قدرًا يغلي.
‘ومن الذي بدأ العناق أولاً في الأصل؟’
لم تكن هناك نوايا خفية.
”يوت” ببساطة شخص يحب القرب من الناس،
يحب الحديث والمصافحة والعناق،
تلك الإيماءات الصغيرة التي تقلّص المسافات بين القلوب عبر دفءٍ صادق.
‘لقد بذلت جهدي كي لا يُقبض عليّ.’
كنت أخشى أن أتجاوز الخط الفاصل في لحظة غفلة.
أما يوت بيلفيت، فكان يجهل تلك المخاوف تمامًا، يضمّ أصابعنا ببساطةٍ في تشابكٍ محكم، يلفّ ذراعه حول كتفي، ويزيح خصلات شعري جانبًا.
وأنا، كنت أحب ذلك كله.
أحببت عفويّته في التعبير عن المودّة، وطريقته الصادقة في إظهارها.
غير أنّ تلك التصرفات الجريئة بدأت، في وقتٍ ما، تفقد توازنها شيئًا فشيئًا.
باتت حركاته مترددة، كأنه يحاول قياس المسافة التي اقترب منها دون قصد.
‘هل أقولها؟’
أيعقل أن يكون الاعتراف مجرد أمرٍ بسيط؟
لم أكن أبتغي شيئًا محددًا من وراء ذلك.
فبالنسبة لي، كان الاعتراف مجرّد……
“أنا لا أخفي مشاعري إن أحببت.”
“حقًا؟”
“طبعًا. ليست غيرةً ولا تنافسًا ولا أي شيء من هذا القبيل، فلماذا أخفي قلبي إن أحببت؟”
في يومٍ من الأيام، حين رأى يوت زوجين يحاولان جاهدين إخفاء ما في صدريهما، قال ذلك بلهجةٍ حاسمة.
وأنا تمنيت أن أكون مثله.
أن أُظهر مشاعري فحسب.
كنت قد أقسمت ألّا أدخل علاقةً عاطفية أبدًا، لكن الآن بدا ذلك القسم بلا جدوى.
“أنا…….”
“-سونِت! سونِت!”
“نعم؟ نعم، سيدتي.”
“تبدين شاردةً هذه الأيام. أهو بسبب ذلك؟”
“بسبب ماذا؟”
“أقصد… ما حدث بيني وبين يوت، من حديثٍ عن قبلةٍ أو نحوها.”
رفعت الآنسة رأسها من فوق المكتب وحدّقت بي، وقلمها يهتز في الهواء بتشتّت.
“فكرتُ أنّك ربما شعرتِ بالضيق، لذا…”
“ولِمَ أكون منزعجة؟”
“لم تنزعجي؟”
“لم يحدث بينكما شيء، فلمَ أنزعج؟”
“لكن إن كان قد حدث فـ— آه، آسفة، آسفة! خطئي.”
“سيدتي، لستِ بحاجة إلى الاعتذار لي في كل مرة.”
“بل أنتِ، انظري إلى نفسك في المرآة، تبدين بائسة… لا، لا بأس. اخرجي واستنشقي بعض الهواء، امشي قليلًا في الحديقة.”
“لا حاجة لتأجيل العمل إلى الغد من أجل ذلك.”
“إنها أوامر.”
“حسنًا، سأعود قريبًا.”
كانت الريح قد بردت حتى غدت كصيف الشمال في نهايته.
كانت أطراف ثوبي تلامس كاحلي بخفةٍ كأوراقٍ تتهادى.
ولم أتوقف لحظةً عن التفكير بشخصٍ واحدٍ فقط.
هل أقولها؟
هل أُفصح عنها فحسب؟
“……لأقلها.”
كنت واثقةً من قدرتي على الصبر، لكن لا يمكنني أن أبتلع الأمر إلى الأبد.
كلّما كنت مع يوت، أدركت كم الصبر الإنساني هشّ وضعيف.
وفي الوقت نفسه، أدركت كم ما زال بإمكاني أن أحتمل.
‘مع يوت…… أستطيع أن أقضي يومًا كاملًا أتجوّل وسط الزحام في مهرجان.’
أمر لا يجلب مالًا.
ولا يُقاس بأي قيمة مادية، بل ربما يُعد خسارة.
ومع ذلك، كنت أجد في تلك اللحظات عديمة الجدوى معنىً ثمينًا.
‘لن، حتى لو متّ، لن أواعد يوت أبدًا.’
قلت ذلك بحدة، لكنني في الحقيقة لم أكذب.
‘لم أقل إنني لا أحبه.’
أنا أشعر تجاهك بعاطفةٍ ما.
وأشعر تجاهك بصداقةٍ أيضًا.
ومن بين جميع المشاعر التي يمكن أن أحسّها، كانت تلك المودة البسيطة —التي كنت أنت تنفر منها— هي أول ما ولِد في قلبي.
يكفي أن أنظر إلى ملامحك الجانبية، الغافلة عني، حتى يهبط قلبي إلى أعماقه.
‘إنه يوت.’
كان يسير بخطواتٍ هادئةٍ تحت ضوء الغروب، وكم كان مشرقًا كعادته.
‘حتى لو كان مجرد وهم.’
في تلك اللحظة التي التقت فيها عيوننا تمامًا،
شعرت أن كل افتراضاتي وظنوني، حتى إن كانت أوهامًا خالصة، لم تكن سيئة.
‘لم أرد الدخول في علاقةٍ عاطفية مع أيٍّ كان.’
لم أرد أن أبذل كل شيءٍ من نفسي، ولا أن أتوقع من الآخر أن يفعل المثل، ولا أن أعيش دوامة الخيبة والخذلان.
لكن مع يوت……
ربما لن يكون كل عالمي،
لكن حتى لو أعطيته نصف نفسي،
حتى لو لم أسترد شيئًا منه…… فلن أندم.
‘حتى إن لم تحبّني كما أحبك، فذلك لا بأس به.’
لامستُ العقد المخبّأ داخل قميصي.
كان دافئًا من طول ملازمته لجسدي.
نظرنا إلى بعضنا.
“ذلك……!”
“ذلك……!”
التعليقات لهذا الفصل "96"