حتى لو لم ينادِ الخادم باسمها بصوتٍ عالٍ، لكان من الممكن معرفتها.
شعرٌ أبيض يتلألأ تحت الضوء ويتطاير برشاقة. ملامح العينين اللطيفة كانت شامخة من دون أدنى أثرٍ للتردد.
تذكّرت روبي شرح خادمتها الخاصة الذي كان مفعمًا بالمشاعر.
‘مظهرها؟ أظن أن وجهها يظهر أحيانًا في الصحف أو المجلات… يشبه الأرنب.’
‘أي أرنب؟’
‘أرنب أبيض ناصع، كأنه يقفز بخفة فوق سهولٍ مكسوة بالثلوج.’
لم تُعرها اهتمامًا حينها، متسائلةً في نفسها: ما بال امرأةٍ بالغةٍ تُشَبَّهُ بالأرانب؟
‘أما العمر… فبالنتيجة هي في مثل سنّ الآنسة.’
‘بالنتيجة؟’
‘هي لطيفٌة ومهذبة، لذا لا داعي لأن تشعري بالخوف منها يا سيدتي.’
دخول الكونتيسة إلى القاعة دون زوجٍ إلى جانبها جذب الأنظار فورًا.
زهرة المجتمع الراقي.
المرأة التي تصل بين المملكة ولوندا.
‘هي التي كانت تُسرّع انتشار أزياء العام القادم قبل أن تصبح رائجة فعلاً…’
كان في وجود كلارا إدويل شيءٌ يثير الانتباه من كل جانب.
لكنها الآن كانت أكثر النساء نفوذًا في الأوساط الاجتماعية، لذا لم يكن من الخطأ كسب ودّها.
أما روبي جيبرايت، فكان لديها الكثير مما يجعلها الطرف الأضعف في المقارنة.
“يشرفني أن ألتقي بكِ هكذا، يا ليدي جيبرايت.”
رغم قوام الكونتيسة الصغير ووجهها الطفولي، إلا أن هالتها كانت ناضجة ومهيبة.
‘كانت على هذا الحال أيضًا عندما قابلت جلالة الملك.’
عيناها كانتا عميقتين لا تُدرَكان، مثل عيون من خَبِرَت الدنيا بحلوها ومرّها.
رموشها الكثيفة رسمت ابتسامةً بريئة ببساطةٍ آسرة.
“أنا كلارا من آل إدويل. عيد ميلادٍ سعيد.”
“سعيدةٌ بقدومكِ يا كونتيسة، لم أتخيل أن أراكِ هنا حقًا…”
“بل أنا التي يشرفها أن تكون ضمن المدعوين. في الحقيقة… كان لدي بعض الفضول تجاهكِ يا ليدي.”
جفّ فم روبي فجأة.
حاولت ألا تُظهر توترها، لكنها شعرت وكأن تلك العينين الورديتين الهادئتين تقرآن ما في قلبها.
“اسألي ما شئتِ، فما زلتُ مبتدئةً وأودّ أن أتعلم الكثير منكِ.”
“تعلمين؟ لا حاجة لكل هذا التواضع.”
“هل لي أن أطلب نصيحتكِ لبعض الوقت؟”
“بالطبع، تفضّلي.”
من الناحية الموضوعية، لم يكن على ابنة الماركيز الوحيدة أن تخفض رأسها إلى هذا الحد،
فمكانة العائلتين متقاربة، وكذلك عمر السيدتين.
‘الناس سيظنون ذلك بلا شك.’
لكن لو نظرنا إلى ما في قلبها، لكانت روبي على وشك أن تسجد أمام كلارا.
بل لو كان السجود كفيلًا بتليين موقفها، لكانت فعلته مئة مرة.
“قرأت رسالتكِ جيدًا. كانت… مثيرةً للاهتمام من عدة نواحٍ.”
كانتا وحدهما في غرفة الجلوس البعيدة عن القاعة الرئيسية.
“يسعدني أن تكون قد نالت اهتمامكِ، يا كونتيسة.”
“أوه؟ إلى هذا الحد؟”
لكن كلارا إدويل لم تكن امرأةً يسهل التعامل معها أبدًا.
“نعم. كما ذكرتُ في الرسالة، أودّ الحصول على تعاونكِ.”
“كل ما أملكه هو بضع مناجم، ولم يمضِ على وجودي في المملكة سوى بضع سنوات. بأي طريقةٍ تقصدين التعاون؟”
“الأمر هو… إنني أقول هذا لأنني أثق بكِ يا كونتيسة.”
بدأت روبي تشرح خطتها التي أعدّتها بعناية:
تصنع سيوفًا من خامٍ نادرٍ كان يُحتكر في الشمال.
أما الكونتيسة، فستربط بين روبي جيبرايت ومالكة أراضي الشرق، مينيس، وتحصل في المقابل على عمولةٍ ودعمٍ من آل جيبرايت.
كانت ملامح كلارا إدويل عصيّةً على الفهم.
‘هل تهتم حقًا بما أقول؟’
حتى في الرسالة السابقة، كانت قد تجنبت ذكر التفاصيل الحساسة، لكنها ألمحت إلى الفكرة العامة.
‘بما أنها قالت إن الأمر مثير للاهتمام، فلا بد أنها جاءت لتسمع البقية.’
لقد قالت بلسانها إنه ‘شيق’.
ومع ذلك، لم تُبدِ كلارا أي حماس، لا تجاه الأرباح الهائلة، ولا تجاه توسيع نفوذها في المجتمع.
‘قالوا إنها لطيفة ومهذبة!’
شفاهها لم تُظهر سوى ابتسامةٍ آلية. لم يكن هناك أثرٌ لمشاعر ودٍّ حقيقية.
لكن الانسحاب لم يكن خيارًا.
“بما أن لديكِ علاقةً مع سيدة مينيس في الشرق-”
“في الحقيقة…”
“نعم؟”
“ذلك ما أثار فضولي أكثر من أي شيء. لماذا تفترضين أن بيني وبين إيفانجلين مينيس صداقة؟”
“……ماذا؟”
“لقد كانت في الماضي المرأة التي أُشيع أن بينها وبين زوجي علاقة غرامية.”
ارتجف جسد روبي، وشعرت بقشعريرةٍ تسري في عمودها الفقري.
اهتزّت عيناها الذهبيتان كما تهتز فراشة في مهب الريح.
‘مـ، ما هذا؟ لم يقل لي أحدٌ عن هذا الجزء!’
بدأ العرق يتجمع في كفّيها، فمسحتهما على فستانها وهي ترسم ابتسامةً مشرقة قدر ما تستطيع.
‘ماذا أفعل الآن؟’
في تلك اللحظة، سُمع طرقٌ خفيفٌ على الباب.
“أوه، تفضلي بالدخول!”
لم يكن هناك سوى شخصٍ واحد يمكن أن يطرق هذا الباب.
انفتح الباب، وتنفّست روبي زفيرًا طويلًا مثقلاً بالتوتر.
“شـ… شرب الشاي سيكون أفضل الآن، فلنحتسِ كوبًا ونتحدث بهدوء… سونِت، أعطني الإبريق. سأفعلها بنفسي!”
“لكن… سونِت؟”
المرأة التي كانت تجلس بأناقة نهضت فجأة.
وقد ثبتت الكونتيسة بصرها على الخادمة التي كانت تدفع عربةً كريمية اللون.
تحدثت سونِت فوسا بهدوءٍ يشبه من توقّع هذا المشهد مسبقًا.
“مرت فترة طويلة، يا سيّدة الكونـ”
“سونِت!”
تأرجحت خصلات الشعر الأبيض اللامع كالموجة.
بدت “زهرة المجتمع” وقد نسيت مكانتها تمامًا وهي تحتضن الخادمة كما لو كانت تتشبّث بها بشوقٍ عارم.
“كم اشتقتُ إليك!”
“أوه… حقًا؟”
“هل كنتِ هنا طوال هذا الوقت؟ ألم أقل لكِ إن بإمكانكِ العودة متى شئتِ؟”
“هاها، وكيف كانت أحوالكِ في تلك الأثناء؟”
“بخير، بخير… سوى أن غيابكِ وحده كان يؤلمني.”
كانت أطراف عينيها المائلة تبدو حزينة، كجروٍ مبللٍ بالمطر.
أما خادمة آل الماركيز، فربّتت على كتف الكونتيسة بخفةٍ ماهرة.
‘ما هذه العلاقة الغريبة بينهما بالضبط؟’
رشفت روبي الشاي الأحمر الذي سكبتْه بنفسها من العربة، وهي تدير عينيها بسرعةٍ قلقة.
المرأة التي كانت تبدو وكأنها لن تتحرك حتى لو سقطت إبرة، انقلبت فجأة إلى تلك الحال العاطفية المفرطة…
“كيف حالكِ؟ أظنكِ فقدتِ بعض الوزن.”
“أنا كما أنا تمامًا.”
“لا، بل نحفتِ قليلًا… وما هذا الجرح في جبهتكِ؟”
عندما أزاحت الخادمة خصلات شعرها البنفسجي الفاتح، ظهر أثرٌ باهتٌ لندبةٍ صغيرة.
نظرت كلارا إدويل نحو روبي بعينين واسعتين، تكادان تصعقانها.
فلوّحت روبي بيديها سريعًا في ارتباكٍ شديد.
“لـ، لستُ أنا من فعل ذلك…!”
وإن دقّقنا، فـ’روبي جيبرايت’ هي التي فعلت ذلك فعلاً، لكن…
‘الروح التي كسرت رأسها لم تكن أنا!’
غير أن الجسد المصاب… كان جسدها هي الآن.
وقبل أن تفقد وعيها من تسارع ضربات قلبها، تدخلت سونِت لتوضح الموقف بهدوءٍ متقن.
“ليست الآنسة من تسببت بذلك.”
“إذن كيف حدث هذا؟”
“كنتُ أتصرف بخفةٍ فأصبت نفسي.”
“أنتِ التي فعلتِ؟ … حسنًا، ولنقل إنني صدّقت. وماذا عن العلاج؟ لا تقولي إن أحدًا لم يأتِ بالطبيب!”
“ظننت أنه أمرٌ بسيط فتركـ”
“سونِت.”
“… تلقيت العلاج بالكامل. وبشكلٍ نظيف.”
رمقتها الكونتيسة بنظرةٍ متفحصةٍ مريبة.
مسّت خدها، وتفقدت ذراعها، ونظرت في عينيها طويلًا، وسونِت صمدت أمام كل ذلك بثباتٍ تام.
‘أيّ نوعٍ من العلاقة هذه يجعل الكونتيسة تتصرف هكذا مع خادمتها؟’
صحيح أن الحدود بين النبلاء والعامة بدأت تتلاشى، لكن الأسر الرفيعة ما زالت تحافظ على الفصل الصارم.
وخاصة إن كان الطرف الآخر خادمًا يخدمها بيديه.
‘سمعتُ أن كلارا إدويل من سلالةٍ ملكيةٍ في بلدٍ آخر.’
لكن من ينظر إليها الآن سيظنها تعامل سونِت كصديقةٍ عزيزة، أو حتى كابنة.
“على كل حال، أعتذر يا سيـ… يا كونتيسة.”
“وعن ماذا تعتذرين؟”
“عن ذكري لعلاقتكِ مع السيدة إيفانجلين مينيس. وإن لم أكن قد خضت في التفاصيل… فما كان لي أن أذكر ذلك أصلًا.”
تدلّت خصلات شعرها البنفسجية إلى الأمام، بينما انكمشت جبين الكونتيسة البيضاء بحدة.
“لا تعتذري لأمرٍ تافه كهذا.”
“لكن…”
“أنتِ بالذات، ليس من اللائق أن تُنـزلي رأسكِ لأجل شيءٍ كهذا.”
‘يا إلهي…’
وضعت روبي يدها على فمها دون وعيٍ وهي تحبس أنفاسها.
فحتى لو انتقل الخدم إلى منزلٍ جديد، كان من واجبهم ألا يفشوا أيّ معلومةٍ تخص سيدهم السابق.
ومع أن هذا العرف أصبح يُتجاهل كثيرًا هذه الأيام، إلا أنه ما زال قاعدةً مقدسة.
لكن سونِت، رغم استخدامها بعض المعلومات عن كلارا، لم تُقابل إلا بابتسامةٍ فارغةٍ من الكونتيسة، وكأن الأمر لا يعنيها.
“إذن لهذا السبب ذكرتِ سيدة مينيس، يا ليدي.”
“نعم، وأكرر اعتذاري مجددًاـ”
“كفى، لا حاجة لذلك. إن كانت سونِت هي من طلبت هذا، فالأمر مختلف تمامًا.”
كان وجهها وقد نزع عنه قناع التهذيب الاجتماعي، يعجّ بالمشاعر الصريحة.
كانت دانتيلاتها الفضية تلتصق بذراع الخادمة الرشيقة.
“حسنًا، فهمت. سأتعاون معكِ.”
“حقًا؟ أتقصدين ذلك يا كونتيسة؟”
“ليست بالأمر الصعب… لكن في المقابل…”
أسندت كلارا إدويل جسدها برقةٍ على كتف الخادمة، ثم أعلنت بوضوح:
التعليقات لهذا الفصل "92"