85
“تجمّد مكانك! ارفع يديك!”
صوتُ انفجارٍ حاد دوّى في رأسي.
وحين فتحتُ عيني، كان أمامي شخصان ملثمان يصرخان بأعلى صوتيهما.
“من الآن فصاعدًا، أيّ حركةٍ مريبة، ورأسك سيطير أولًا!”
“لقد استولينا على هذا القطار بالكامل.”
“إن لم تلتزموا الهدوء… فأنتم تعرفون جيدًا ما الذي سيحدث، أليس كذلك؟”
فوووش―
انطلقت ألسنة اللهب من تحت قدمي المرأة كأمواجٍ متتابعة قبل أن تخمد.
وتعالت شهقات الذعر بين الركاب هنا وهناك.
‘عدد السحرة الذين يتقنون التعامل مع النار قليل جدًا…’
ولِسوء الحظ، التقينا بواحدةٍ منهم في موقفٍ كهذا.
كانت المرأة تُطلق شراراتٍ تهديدية من أصابعها، وتتوعد الركاب بعشوائية.
“أيها العجوز هناك، أأحرق ما تبقّى من شعرك؟”
“أر، أرجوكِ، شعري فقط… أرجوكِ لا!”
أصبحت المقصورة تحت رحمة هذين الاثنين تمامًا.
‘يبدو أن الجهة الأخرى انتهت أيضًا.’
إن كانوا قد سيطروا على غرفة القيادة، فالبقية سهلة بالنسبة لهم.
نظرتُ للأمام وهمستُ بخفوتٍ شديد:
“لابيس.”
“ماذا نفـ… آه…”
“أيها السيد الصغير.”
“قلت لكِ لا تناديني هكذا يا سونِت، يجعل بيننا مسافة، هه…”
حتى وسط التوتر، كان كلامه محتفظًا بلمسةٍ من شخصيته المعتادة.
“هل يمكنكِ إبطال السحر؟”
“أنا متخصصةٌ في غير القتال.”
“لكن لا أظن أن تخصص السحر ينقسم إلى قتالي وغير قتالي.”
“يقولون إن النساء لا يُضرَبن حتى بالزهور…”
رغم كلماته الساخرة، كان فمه متيبسًا من القلق.
‘لم يتدرّب على مواقفٍ كهذه من قبل، على الأرجح.’
في الجزيرة، كنا جميعًا نؤدي الأعمال البسيطة فقط، وليس القتال.
ثم إنّ…
تأثير السحر يختلف من شخصٍ لآخر.
فهناك من يستطيع استخدام السحر بثباتٍ مهما كانت حالته،
وهناك من يفقد السيطرة إن أصيب بالذعر.
‘قد يكون من الفئة الثانية.’
رغم أنه مهووسٌ بالنساء، إلا أنه حساسٌ ودقيق، لذا ربما يصعب عليه التحكم في سحره بثبات.
‘لا داعي لإثارة قلقه الآن.’
إن تمكن لابيس من الدفاع بالسحر، فذاك حسن،
وإلا فلا ضرورة لأن نتدخل.
على أي حال، سرقة قطارٍ كهذهـ
“سونِت، هل أنت بخير؟”
“أنا بخير، ليست المرة الأولى على أي حال…”
ربما شعر اللصان بأنهما أخافا الركاب بما يكفي،
فقد سمحا لنا بإنزال أيدينا بعد قليل.
واتكأ كلاهما على الجدار يتبادلان الضحك بصوتٍ عالٍ.
تبادلتُ النظرات مع يوت.
“سرقات القطارات… أليست احتمالات حدوثها مرتفعة على نحوٍ غير متوقع؟”
“هاه؟”
“هذه المرة الثالثة، لا، الرابعة ربما. لكن هذه أول مرة أرى فيها ساحرة.”
“سونِت، أيّ نوعٍ من الحياة عشتِه بالضبط؟”
كان لابيس يقضم أظافره بعصبية، وقد عقد حاجبيه.
“لو تفاجأتَ في كل مرةٍ بلصوص قطارات، فلن تستطيع العيش.”
“هاه…؟ أنتِ… قولي شيئًا معقولًا من فضلك.”
“ربما سونِت على حق.”
“هل خرجتما من المنزل بعد أن حفر أحدكما ثقبًا في رأسه؟ الطبيب على الأقل يستعد مسبقًا كما أرى!”
“سرقات القطارات… موضوعٌ شائع على غير المتوقع.”
“وأنت أيضًا، ما الذي تهذي به؟”
نظر لابيس نحونا نحن الاثنين بتوترٍ متزايد،
ثم انكمش بجسده قليلًا، وقد ازداد لون أذنيه الشاحب ميلًا إلى الزرقة.
“لا تقلق كثيرًا، سيُحلّ الأمر قريبًا.”
“كيف لا أقلق؟ ماذا لو غضب هؤلاء المجانين وتسبّبوا في خروج القطار عن المسار؟”
“لن تصل الأمور إلى ذلك الحد.”
قبل أن يحدث ذلك، سيظهر بالتأكيد أحدهم:
جنديٌّ سابق، أو ساحرٌ يخفي هويته، أو أي شخصٍ من هذا النوع لإنقاذ الموقف.
‘في الماضي كان الأمر هكذا دائمًا.’
لم أرَ يومًا لصوص قطاراتٍ ينجحون في سرقتهم ويهربون سالمين.
‘لكن لا ضمان أن يكون الأمر كذلك هذه المرة أيضًا.’
ومع ذلك، حتى إن ساءت الأمور، فنحن الثلاثة سنعرف كيف نحمي أنفسنا.
تجولت عيناي بهدوء في أرجاء القطار القديم.
ولما لم يتدخل اللصوص، بدأ بعض الركاب بالتحدث بخفوت.
لكن كلما تكلموا أكثر، زادت موجة القلق،
وهذا بالضبط ما كان اللصان يريدانه.
“لماذا يحدث هذا أصلاً؟”
“كان علينا أن ننزل في المحطة السابقة!”
“يا إلهي، تحذير جيفرايت كان حقيقيًا إذًا…”
…هاه؟
جذب اسمٌ مألوف سمعي وسط كلمات الذعر المتناثرة.
نظرتُ تلقائيًا إلى لابيس،
لكنه كان غارقًا في هلعه لدرجة أنه لم يلحظ حتى اسم عائلته يُذكر.
“لو كنتُ أعلم مسبقًا…”
كان يوت يحدق في الاتجاه نفسه الذي أنظر إليه،
أو بالأحرى، نحو رأس الرجل الجالس بجانبنا.
شعرٌ أزرق داكن، عينان رماديتان زرقاوان، ونظارةٌ دائرية فضية.
كارنيليان نوكس.
خطيب روبي جيفرايت.
“ماذا قال ذلك الشخص الآن؟”
“هاه؟ أوه، عذرًا، ومن أنتما أصلًا؟”
“تشرفت بلقائكما. أنا الطبيب الخاص بعائلة جيفرايت… سمعت اسمًا مألوفًا فقط، لذا لفت انتباهي.”
“الطبيب الخاص؟ لم أرَك من قبل.”
“لقد تم توظيفي هذا العام. أنا أسافر حاليًا برفقة السيد الصغير.”
ولحسن الحظ، لم يُفشِ يوت هويتي أنا أيضًا.
أما الرجل الذي ألقى نظرة جانبية نحو لابيس المتشنج، فقد بدت عليه علامات الارتياح بعد أن زالت شكوكه قليلًا.
“أفهم… لكن كيف انتهى بك الأمر برفقة لابيس جيفرايت؟ هو… رجل، أليس كذلك؟”
“نعم، رجل.”
“امرأة إذًا؟”
“لا، قلتُ رجل.”
كان الحوار أشبه بدرسٍ من كتابٍ لتعليم اللغات الأجنبية، قبل أن يعود الحديث إلى بدايته.
“حسنًا، بماذا حذّرت السيدة إذًا؟”
“حسنًا، هذا… قد يبدو كلامًا غير موثوق.”
“لكن ما قالته تحقق فعلاً، أليس كذلك؟”
“…….”
“إن كنت قلقًا، فلن أُخبر أحدًا، أعدك.”
“الأمر هو أنّ…”
تردد الرجل للحظة، ثم قال بصوتٍ خافتٍ لم أسمعه بوضوح،
لكن بريقًا خفيفًا ظهر في عيني يوت.
“لو أننا أصغينا لها منذ البداية، لما حدث هذا. لكن… ما فائدة الندم الآن.”
“ليست المشكلة بلا حل.”
“ماذا تقصد؟”
“انتظر فقط. سلّم نفسك لجريان الوقت، وابقَ ساكنًا…”
“تملك الوقت لتمازحني؟ يا للحظ الجيد.”
“أنا جاد. ‘الزمن كفيل بكل شيء’… ربما لا يكون القول دقيقًا، لكن إن صبرت قليلًا، سينتهي كل شيءـ”
بووم!
“ما الأمر هنا؟! لماذا هذه العربة سليمة تمامًا؟ ماذا تفعلون؟ أعمال خيرية؟”
“…نعم، سينتهي فعلًا.”
تجعد جبين اللورد نوكس بشدة،
ودخل رجلٌ غليظ البنية راكلًا الباب، ولوّح بهراوته في الهواء بعنف.
“الأولاد الأثرياء يجب ان ندّخرهم للفدية الخاصة!”
ثم أخذ يلمس رؤوس بعض الركاب بطرف عصاه، كمن يختار ضحاياه واحدًا واحدًا.
“أنت. أنت. أنت… وأنت هناك!”
“ما هذه الوقاحة!”
“هاه، صيدٌ ثمين! الأشخاص اللي يتكلمون بهالأسلوب هم الكبار عادة. فهمت؟”
“كفاك تعاليًا! أيها الحارس، أنت وأنت، واللي انضربت رؤوسكم، قوموا كلكم!”
وقف نحو ستة أشخاصٍ ببطء، منهم لابيس وخطيب الآنسة،
وساروا خلف الرجلين إلى عربةٍ أخرى.
“أوه، بشعٌ جدًا…”
“تحرك بسرعة أيها الكسول!”
“دعني! على الأقل لو أمسكت بي امرأة لكان أفضل!”
“ما الذي يهذي به هذا الآن؟”
…يا إلهي، هذا الفتى المخجل.
حتى وهو يُسحب بالقوة، لم ينسَ أن يُجادل حول الجنس!
لكن ما إن سمع صوت امرأةٍ في العربة التالية، حتى صمت فجأة.
—
“هل أنت بخير؟”
“قلت لك أنا بخير فعلًا. وأنت يا يوت؟ هذه أول مرة لك، أليس كذلك؟”
“أنا؟ لا بأس.”
جلس يوت في مكان لابيس، وهز كتفيه بهدوء.
“ما الذي سيحدث لاحقًا برأيك؟”
“ستأتي البطلة لإنقاذ خطيبها.”
“متوقّع.”
“مع الأميرة التي كان البطل الأصلي يحبّها.”
“أوه، هذا مثير أكثر.”
بالمقارنة مع الركاب المذعورين المتجمدين، كنا نحن في حالٍ أفضل.
كل ما علينا فعله هو التحمل، وقد كنا جيدين في ذلك.
‘ولا رغبة لي بفعل أي شيء آخر على أي حال.’
كان يمكنني كسر زجاج النافذة والهرب لو أردت،
لكنني لم أملك أدنى دافع لذلك.
‘حتى في السرقة، ألا يمكنهم تغيير السيناريو قليلاً؟ نفس الجمل في كل مرة.’
ليتهم فقط فكروا في مشاعر الضحايا قليلاً.
لكن حينها، تحدثت المرأة التي كانت تتجول بين الممرات فجأة.
“أتعرفين؟ كلامه قبل قليل كان صحيحًا. ربما كنتُ لطيفةً أكثر من اللازم.”
انفرجت شفتاها الممتلئتان بابتسامةٍ مشؤومة.
“أيها الجميع! أخرجوا كل ما معكم من مال!”
‘إلغاء. أرجوكِ عودي للسيناريو القديم فورًا.’
لكن الآلهة لم تستجب لدعائي.
“من أُمسك به وهو يخفي شيئًا… يعرف ما سيحدث، أليس كذلك؟”
بدأت المرأة تفتش الركاب واحدًا واحدًا بدقةٍ متناهية، وكأنها تحلبهم.
‘ما العمل الآن؟’
لم يكن فقدان المال ما يخيفني، بل شيئًا آخر أكثر وجعًا.
‘ما زال معي المال الذي أعطانيه مدير المنزل…’
كان ذلك “المصروف” الذي تسلمته حين غادرت البيت، ولم أستخدم منه فلسًا واحدًا.
كنت أنوي إعادته كاملًا.
‘إن سُرق، يمكنني إعادته لاحقًا… لكنّ تعويضه سيسبب لي نزيف دموعٍ حقيقي.’
لا يمكنني ببساطة أن أدّعي أنني لم أكن أملك شيئًا.
مددتُ يدي ببطء إلى جيب سترتي الداخلي.
“في النهاية، من الأفضل حلّ الأمور بسرعة، أليس كذلك؟”
“سـ، سونِت، ماذا تنوين أن تفعلي؟”
التعليقات لهذا الفصل "85"